Fath Al-Mannan - The Biography of the Commander of the Faithful Muawiyah bin Abi Sufyan
فتح المنان بسيرة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان
اصناف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله المنتصر لأوليائه، المنتقم من أعدائه، المتفرِّد بعظمته وكبريائه، المقدَّس بصفاته وأسمائه، لا يعزبُ عنه مثقال ذرَّةٍ في أرضه ولا سمائه، أحمده على ما أسبغ من نعمائه، وأَسْبل من عطائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدَّخرها ليوم لقائه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ أنبيائه، وصفوة رسله وأُمنائه، رفع الله ذكره فلا يُذكر إلا ذُكِر معه، وجعل شريعته ناسخةً للشرائع فلو كان موسى حيًّا لاتبعه، بُعث للعالمين وكان النبي يُبعث لقومه، صاحب الشفاعة العظمى حين يذهل كل أحد عن ولده ووالده وأمِّه.
أما بعد؛
فمن المعلوم بجلاء، أن صحابة رسول الله ﷺ نجوم الغبراء،
1 / 1
كما أن الكواكب نجوم السماء، رَسَمَ معالمَ مكانتهم ودافع عنهم كتابُ الله، وشهد على عدالتهم الصادقُ رسولُ الله؛ ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ﵃﴾ (^١)، ما انقطع الوحي حتى تاب الله عليهم وأكرمهم، وشاع في الخافقين ذكرُهم والثناءُ عليهم، فليس لأحد أن يغمزهم بعد قول الله: ﴿ثم تاب عليهم﴾ (^٢)، وليس لأحد أن يتقصدَّهم بسوء بعد أن أكَّد رسول الله ﷺ فضلهم: «خير أُمَّتي - وفي لفظ: خير الناس -: قَرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (^٣)، ونهى عن سبِّهم وأذيتهم: «لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مُدَّ أحدهم» (^٤).
ومع ذا: فلا يخلو زمان من هؤلاء، الذين يجيدون الطعن والتشويه والافتراء، يبتلي الله ﷿ بهم العباد ليخرج ما في صدورهم، فيثبِّت طائعهم، ويزيغ مفتونهم، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (^٥).
_________
(^١) سورة التوبة (١٠٠).
(^٢) سورة التوبة (١١٧).
(^٣) متفق عليه: أخرجه البخاري (٢٦٥١) ومسلم (٢٥٣٥) عن عمران بن حصين ﵁.
(^٤) صحيح مسلم (٢٥٤٠)، عن أبي هريرة ﵁.
(^٥) سورة آل عمران (١٧٩).
1 / 2
يقول أبو المعالي الجويني: «قد كثرت المطاعن على أئمَّة الصحابة، وعظم افتراء الرافضة وتخرُّصهم، والذي يجب على المعتقد أن يلتزمه: أن يعلم أن جلَّة الصحابة كانوا من رسول الله ﷺ بالمحلِّ المغبوط، والمكان المحوط، وما منهم إلا وهو منه ملحوظ محظوظ، وقد شهدت نصوص الكتاب على عدالتهم، والرضا عن جملتهم، بالبيعة بيعة الرضوان، ونصِّ القرائن على حسن الثناء على المهاجرين والأنصار» (^١).
ولعلَّ هذا السبَّ والافتراء من إرادة الله ﷿ الخير لهم، حتى يجرى عليهم الأجر، وإن كان انقضى العمر!
يقول الشافعيُّ: «ما أرى أن الله تعالى لا يمنع الناس عن شتم أصحاب رسول الله ﷺ إلا ليزيدهم ثوابًا عند انقطاع أعمالهم» (^٢).
وقد اختلفت أنصبة الصحابة ﵁ من هذه التهم والافتراءات، والشتائم والترَّهات، فالقليل منهم من ألسنة هؤلاء الكذابين: ناجٍ مُسلَّم، وكثيرٌ منهم ناجٍ مخدوش، وثلَّةٌ -ليست هيِّنة- مَكْدُوسةٌ في نار الكذب والتدليس والافتراء!
ومن هذه الثلة الأخيرة، بل لا يكاد يُعرف أحدٌ من الصحابه ناله هذا القسط الكبير من التشويه، والافتراء، والبغي كما ناله هو؛ أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان! فقد تتابعت عليه سهام المغرضين تَتْرى، حاملةً من الافتراءات والسموم ما لا يكاد يُعدُّ ولا يُحصى، وأَجْمعَتْ فرق أهل البدع على الحطِّ منه وذمِّه، مع تواصٍ غريب فيما بينهم، وإن تباعدت أزمانهم وأماكنهم!
_________
(^١) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد (ص: ٤٣٢ - ٤٣٣).
(^٢) مناقب الشافعي للرازي (ص: ١٣٦).
1 / 3
فهذا أحد رؤوس المعتزلة وشيوخهم، وأبرز متكلميهم وحاملي لواءهم؛ أبو عمرو الجاحظ (ت: ٢٥٥ ه) يصل به الطعن إلى تكفير معاوية ﵁، فيقول عنه: «ثُمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتَّبنا، حتى ردَّ قضية رسول الله ﷺ ردًَّا مكشوفًا، وجحد حكمه حجدًا ظاهرًا في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع اجتماع الأمة أنَّ سمية لم تكن لأبي سفيان فراشًا، وأنه إنما كان بها عاهرًا (^١)، فخرج بذلك من حكم الفجَّار إلى حكم الكفَّار» (^٢)!
إلى أن قال: «على أنَّ كثيرًا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربتْ عليهم نابتةُ عصرنا، ومبتدعةُ دهرنا؛ فقالت: لا تسبُّوه، فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنة، فزعمت أنَّ من السنة ترك البراءة ممن جحد السنة» (^٣).
ونقل أبو الحسن الأشعري (ت: ٣٢٤ ه) عن الخوارج أيضًا أنهم: «يكفِّرون معاوية» (^٤).
_________
(^١) هذه الشبهة التي يُتهم بها معاوية ﵁ يأتي تفصيلها وبراءته منها في الفصل الرابع من هذا الكتاب، فانظرها هناك.
(^٢) رسالة للجاحظ في رأيه في معاوية والأمويين، طُبعت ضمن مجموع رسائل الجاحظ (٢/ ١١) بتحقيق عبد السلام هارون.
(^٣) المصدر السابق (٢/ ١٢).
(^٤) مقالات الإسلاميين (١/ ١٠٩).
1 / 4
وشيخ الرافضة في زمانه جمال الدين الحسين بن يوسف بن المطهّر الحلّي (^١) (ت: ٧٢٦ ه) يقول عنه في كتابه (منهاج الكرامة): «إنَّ رسول الله ﷺ لعن معاوية الطليق ابن الطليق، اللعين ابن اللعين، وقال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (^٢). إلى آخر ما قاله هناك (^٣).
وأما في زماننا: فلا تسل عن كمِّ المؤلَّفات والمقالات، والحوارات والحلقات، التي تَلُوك عرض معاوية ﵁، في جهل من البعض وعدم دراية بصحيح الأخبار من سقيمها، ولا بعدالة وخُلُق من يتحدَّثون عنه (^٤)، أو عن عمدٍ وقصدٍ من آخرين، من خلال خطة ممنهجة لإسقاط عدالة الصحابة (^٥)؛ مبتدئين بمعاوية.
ومع انتشار ذلك كله: بدأ يغشى رمدُ الحيرة الثقافية الإسلامية تجاه الصحابة عيونَ بعض أبناء هذه الأمة!
لأجل هذا: شمَّر علماء أهل السنة عن ساعد الجدِّ، للدفاع عن عرض معاوية ﵁، وسلُّوا سيوفهم لردِّ ذلك العدوان، ودفع تلك الغارات، التي تحاول النَيْل من هذا الصحابي الكريم، وهيهات!
_________
(^١) قال ابن تغري بردي عنه في النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة (٩/ ٢٦٧): "ولابن تيميّة عليه ردّ فى أربعة مجلّدات، وكان يسمّيه ابن المنجّس، يعنى عكس شهرته كونه كان يعرف بابن المطهّر".
(^٢) هذا حديث باطل، يأتي تخريجه والحديث عنه في الفصل الرابع من هذا الكتاب (ص: ٢٣٦).
(^٣) انظر: منهاج السنة النبوية (٤/ ٣٧٨ - ٣٧٩).
(^٤) كما وقع من المودودي في كتابه: "الخلافة والملك"، وسيد قطب في كتابه: "كتب وشخصيات"، وعباس العقاد في كتابه: "العبقريات الإسلامية، معاوية بن أبي سفيان".
(^٥) كما فعل محمد بن عقيل الحضرمي في كتابه: "النصائح الكافية لمن يتولى معاوية".
1 / 5
وكان من إبداع العلماء في رد تلك الافتراءات: أن نوَّعوا أساليب المواجهة، وعدَّدوا جبهات الدفاع، فلم يتركوا ثغرًا من ثغور هذا الميدان إلا ووقفوا عليه، بل وتقدموا -أحيانًا- بالهجوم، فدخلوا معاقل أفكار المعتدين، ودكُّوا حصونها، وأتوا على بنيانها من القواعد؛ فخرَّ السقف على رؤوس أصحابها.
ففريق من هؤلاء الأفذاذ: يتولَّى الكلام عن فضائل الصحابة عامَّةً، مُذكِّرًا القارئ بأنَّ معاويةَ داخلٌ في حد الصحبة، فله نصيبه من تلك الفضائل العامَّة.
وآخرون: يُذكِّرون بفضائل معاوية الخاصَّة، عبر كتبٍ وأجزاءَ مُفردَة؛ كما فعل أبو بكر ابن أبي عاصم في كتابه: (فضائل معاوية) (^١)، وابنُ أبي الدنيا في كتابه: (حلم معاوية) (^٢)، وغيرهما.
وفريقٌ ثالث: يصنِّف في ردِّ الشُّبهات، وتزييف التُّهم الباطلات، كما فعل ابنُ العربي المالكي في كتابه: (العواصم من القواصم)، وشيخ الإسلام ابن تيْميَّة في كتابه: (منهاج السنة النبوية)، وغيرهما.
ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الحد؛ بل نجد من هؤلاء العلماء من ضمَّن تصنيفه في العقائد بيان عقيدة أهل السنة في هذا الجيل الرباني الفريد، بوجهٍ عام، كما فعل الطحاويُّ في كتابه: (العقيدة الطحاويَّة)، وابن تيْميَّة في كتابه: (العقيدة الواسطيَّة)، ومن هؤلاء المصنِّفين في العقيدة من ضمَّن تصنيفه شيئا من فضائل معاوية بوجهٍ خاص؛ كما فعل الخلَّال في كتابه: (السُّنَّة)، والآجري في كتابه (الشريعة)، وغيرهما (^٣).
_________
(^١) ذكره الحافظ ابن حجر في المعجم المفهرس (ص: ١٢٣).
(^٢) طبعته دار البشائر عام (١٤٢٤ ه= ٢٠٠٣ م)، بتحقيق: إبراهيم صالح.
(^٣) وللمعاصرين جهد مشكور لا يُنكر في الدفاع عن أمير المؤمنين معاوية ﵁، وبث فضائله، وتذكير الناس بمكانته؛ من ذلك على سبيل المثال:
- الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية، لعبد العزيز بن حمد بن حامد.
- فتح الواحد العلي في الدفاع عن صحابة النبي ﷺ، لعبد الله السعد.
- سل السِّنان في الذب عن معاوية بن أبي سفيان، لسعد بن ضبيدان السبيعي.
- درء الغاوية عن الوقيعة في خال المؤمنين معاوية، لزكريا بن علي القحطاني.
- من أقوال المنصفِّين في الصحابي الخليفة معاوية ﵁، لعبد المحسن العبَّاد.
إلى غير ذلك من المؤلَّفات التي سيرد ذكر بعض أسمائها في ثنايا الكتاب.
1 / 6
وهم في فعلهم هذا كله: مؤتمُّون بنصوص الكتاب والسنة، وأقوال المشهود لهم بالعلم والفضل من أكابر هذه الأمَّة، غير متعصبِّين ولا مُتشدِّدين، ولا بالعصمة للصحابة مُدَّعين، ولا لبعض النصوص -كما فعل خصماؤهم- تاركين، فرضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.
واستمرارًا لمسيرة هذا الركب المبارك، الذي يبعثه الله بين فترةٍ وأخرى على مدار الأيام، ليظهر بهم ما اندثر من تراث الأئمَّة السابقين، ويعيد نشر الفضائل للسابقين بين الحين والحين، ورغبةً مني في أن أُنظَم في سلك هؤلاء المدافعين عن خير هذه الأمة بعد المرسلين؛ جاء هذا الكتاب:
«فتحُ المنَّان بسيرة معاوية بن أبي سفيان ﵁».
جمعتُ فيه شتات ما تفرَّق من سيرته، وبيَّنتُ فيه شيئًا من فضله ومكانته، مع ردِّ أشهر الأباطيل والافتراءات التي تُكلِّم بها في عرضه، وغُضَّ بها من قدره، علَّ هذا أن يكفَّ بأس المبتدعة الذين لا يزالون يتناسلون، ويهدي بعض الحيارى الذين وقعوا في شِباك الشبهات المنتشرة فهم تائهون يتساءلون، وأن يكون مُعينًا لكل باحث عن الحقِّ، في سيرة رجل من أصحاب خير الخلق ﷺ.
وإذا كان معاويةُ ﵁ قد وقع بينه وبين بعض إخوانه من الصحابة كعليِّ بن أبي طالب ﵁ بعض نزاعٍ وشقاقٍ، ومال بعض الناس إلى طرف على حساب طرفٍ آخر، فمن فضل الله علينا أن أَوْجدنا في بيئةٍ وزمانٍ وضح فيه الحقُّ، وتبينت مآخذ كلِّ طرف من الطرفين، فلم نُربَّ أو نُنشَّأ على بغض طرف منهما، أو المغالاة في محبة أحدهما، وهذا مُعينٌ بإذن الله -بعد عون الله- على تحرِّي الإنصاف والحق.
يقول الذهبيُّ: «وخَلَفَ معاويةَ خلقٌ كثيرٌ يحبُّونه ويتغالون فيه، ويفضِّلونه، إمَّا قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمَّا قد وُلدوا في الشام على حبِّه، وتربَّى أولادهم على ذلك.
1 / 7
وفيهم جماعةٌ يسيرةٌ من الصحابة، وعددٌ كثيرٌ من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النَّصب -نعوذ بالله من الهوى-.
كما قد نشأ جيش عليٍّ ﵁ ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبِّه، والقيام معه، وبغض من بغى عليه، والتبرِّي منهم، وغلا خلقٌ منهم في ذلك.
فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم، لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليًا في الحب، مُفْرطًا في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟
فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتَّضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصَّرنا، فعذرنا، واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحَّمنا على البغاة بتأويلٍ سائغٍ في الجملة، أو بخطأٍ -إن شاء الله- مغفور، وقُلنا كما علَّمنا الله: ﴿ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا﴾ (^١)» (^٢).
_________
(^١) سورة الحشر (١٠).
(^٢) سير أعلام النبلاء (٣/ ١٢٨).
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج العمل في الأبحاث
لا ريب أنَّ نزول ميدانٍ كميدان السِّيَرِ والأخبار والمغازي يعجُّ بمئات المرويات، والتي لم تلتئم على بعضها، أو تَأْرِز إلى مكانٍ واحدٍ يجمعها، بل آثرت الفرقة، وعزَّت معظم الروايات المقبولة بنفسها، فضنَّت بما فيها على كل باحثٍ عجول، أو قارئٍ يكتفي بالمشهور، وإنما اختارت أن تبقى بمنأى يُحوج طالبها إلى صبر لاستخراجها، وسعيٍ حثيثٍ للوصول إليها، أضف إلى ذلك كثرة المؤلَّفات في هذا الباب؛ كل هذا لا يجعل المهمة سهلةً ميسورة، إلا بتأنٍّ وتتبُّعٍ، بعد عون الله ﷿.
وقد حاولنا -قدر الاستطاعة- أن نتخيَّر خُطة عمل تُحكم الأبحاث، وتُخرجها أقرب ما تكون إلى الدِّقة التي يرجوها كلُّ منصفٍ وباحثٍ عن الحق؛ فاهتدينا إلى ما يلي:
أولًا: جعلنا كتاب: (تاريخ الطبري) أصلًا لمادة هذا البحث، يُضاف إليه ويُجمع عليه ما يُحتاج إليه من تتمَّات وزيادات لإكمال مشهد، أو تفصيل مُجمَل، أو إزالة شُبهة وإشكال.
وسبب اختيارنا له: ما تمتَّع به صاحبه من سيرةٍ حسنةٍ، وعدالةٍ مشتهرةٍ، إضافةً إلى شموليته في كثيرٍ من الأحداث، فقد استوعب كثيرًا مما كُتب قبله، فصار عمدةً لكل من جاء بعده (^١)، حتى أنَّ أبا الحسن ابن الأثير (ت: ٦٣٠ ه) حينما أراد أن يُصنِّف كتابه في التاريخ؛ جعل كتاب الطبري أصلًا لكتابه، بل في بعض الأحداث -كالفتنة التي وقعت بين الصحابة ﵃ اكتفى بكلام الطبري، ولم يُضف عليه شيئا!
يقول ﵀: «وقد جمعتُ في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتابٍ واحد، ومن تأمَّله علم صحة ذلك.
_________
(^١) انظر عن كتاب الطبري ومنهجه فيه وما تميَّز به: موارد تاريخ الطبري للدكتور علي جواد، منهج كتابة التاريخ الإسلامي حتى نهاية القرن الثالث الهجري لمحمد بن صامل السلمي (ص: ٤٤٠ - ٤٥١).
1 / 9
فابتدأتُ بالتاريخ الكبير الذي صنَّفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعوَّل عند الكافَّة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذتُ ما فيه من جميع تراجمه، لم أخلَّ بترجمةٍ واحدةٍ منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث رواياتٍ ذواتِ عدد، كل رواية منها مثل التي قبلها، أو أقلّ منها، وربما زاد الشيء اليسير أو نقصه، فقصدتُ أتمَّ الروايات فنقلتها، وأضفتُ إليها من غيرها ما ليس فيها، وأودعتُ كلَّ شيءٍ مكانه، فجاء جميع ما في تلك الحادثة -على اختلاف طرقها- سياقًا واحدًا على ما تراه.
فلما فرغتُ منه: أخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتُها، وأضفتُ منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعت كلَّ شيء منها موضعه، إلا ما يتعلَّق بما جرى بين أصحاب رسول الله ﷺ فإني لم أُضفْ إلى ما نقله أبو جعفر شيئًا؛ إلَّا ما فيه زيادة بيانٍ، أو اسم إنسانٍ، أو ما لا يُطعن على أحد منهم في نقله، وإنما اعتمدتُ عليه من بين المؤرِّخين إذ هو الإمام المُتقنُ حقًَّا، الجامعُ علمًا وصحةَ اعتقادٍ وصدقًا.
على أنِّي لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممن يعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحَّة ما دوَّنوه، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباء واللآلي» (^١).
قُلنا: وقريبٌ من منهج ابن الأثير، اخترنا لهذه الأبحاث أن تسير، فجعلنا كتاب الطبري أصلًا، لكن مع تعديل وتغيير.
فالطبريُّ يورد الأحداث مرتَّبة على السنين، وهذا لم نلتزم به، وإنما وضعنا كُل حادثة في مكانها الذي نراه لائقًا، وفق ترتيب كل بحث.
فبعض الأحداث تُنقل من نسقها عند الطبري لتُوضع في فصل خاص بالفضائل، أو الشبهات، أو غير ذلك، بحسب ما نرى الحدث ملائمًا لمكانه في ترتيب البحث الذي يختاره الباحث.
_________
(^١) الكامل في التاريخ (١/ ٦ - ٧).
1 / 10
أيضًا: اختار الطبريُّ لنفسه أن يُورد الرواياتِ التي يختارها في الحدث بسندها إلى قائلها وناقلها، تاركًا مسألة الحكم على الإسناد للقارئ والباحث من بعده، مُحذِّرًا أن يُحمِّله أحدٌ نكارة رواية، أو بشاعة نقل؛ فقال: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يُؤتَ في ذلك من قِبَلِنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنَّا إنَّما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا» (^١).
وعلى هذا فروايات الطبري جامعة بين الغثِّ والسَّمين، والصَّحيح والسَّقيم، وهنا يتحتَّم علينا أن نبيِّن الفرق بين هذه المرويَّات، وما يصلح للاحتجاج وما لا يصلح إلا أن يكون في الموضوعات، ولكن لما كان التبيين لصحة كلِّ ما ذُكر، وإظهار علَّة كلِّ خبر، مما يطول به حجم الكتب والأبحاث، ولربما بعث الملل في نفس القارئ والباحث لشبهته عن جواب؛ فقد آثرنا أن نقنِّن الأمر كما يلي في:
ثانيًا: قمنا باستخراج جميع المرويات التي ورد فيها ذكر الشخصية صاحبة البحث (أبوبكر، عمر، عثمان، علي، معاوية) في الكتاب، سواءٌ في خلافته أم قبلها، وما صحَّ منها أدرجناه في البحث في موطنه اللائق به وفق ترتيب الأحداث -الذي يذكره كل باحث في مُقدِّمة بحثه-، وأمَّا ما لم يصح من هذه المرويات فهو على قسمين:
_________
(^١) تاريخ الطبري (١/ ٨).
1 / 11
- القسم الأول: احتِيج إليه لاستكمال صورة الأحداث، ووصل الحلقات ببعضها البعض، فمثل هذا لا مفرَّ من إيراده، وهو عين ما فعله الطبريُّ حينما أورد الأخبار الضعيفة في ثنايا كلامه عن بعض الأحداث، وإن كان الطبريُّ أحال القارئ على السَّند؛ فإننا لن نوقعه في ذلك العَنَت، بل سنبيِّن -إن شاء الله- عند كل روايةٍ ضعيفةٍ أوردناها ضعفها، وسبب وهائها، فثقافة النظر في الأسانيد قبل قبول المتن؛ لم تعد منتشرةً بين أبناء هذا الزمان، كما كانت منتشرةً في زمان الطبري، الذي تعامل معهم من هذا المنطلق، فأحالهم على الإسناد.
وهذا القسم يتميز عن لاحقه بأنَّ ضعفه ليس شديدًا، ونكارته ليست ظاهرة.
- القسم الثاني: لم نجد ثمَّ احتياجٌ لإيراده، خاصة مع نكارة متنه، بل في بعضها ما يكون ذكره مُحدثًا فتنةً لعقول وقلوب بعض القارئين، فمثل هذه الروايات ضربنا صفحًا عن ذكرها، رغبةً في إماتتها، وإخمال نشرها، وهذا الفعل مِنِّا قد سبق إليه الطبريُّ، فمع ما أورد في كتابه من ضعيفٍ وموضوعٍ، ومع أنه أسند كلَّ قولٍ إلى قائله؛ إلَّا أنَّه أعرض عن ذكر بعض الأخبار، رغم استحضاره لها، وتمكُّنه من عزوها لقائلها وإسنادها؛ وذلك لأنَّه رأى أن فيما ذكر كفاية، وأيضًا: حفاظًا على عقول وقلوب العامة.
قال الطبريُّ: «وذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: وحدثني يزيد بن ظبيان الهمداني، أن محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما ولي، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهتُ ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة» (^١).
فانظر كيف أَعْرضَ الطبريُّ عن ذكر بعض الروايات، لما رأى أنها لا تضيف جديدًا، وأنَّها قد تتسبَّب في فتنة بعض العامة في زمانه، فكيف لو ذُكرت لأهل زماننا؟!
_________
(^١) تاريخ الطبري (٤/ ٥٥٧).
1 / 12
ومن هنا: أعرضنا عن ذكر بعض هذه الروايات لاجتماع الشَّرَّيْن فيها: ضعف الإسناد من جهة، ونكارة المتن التي لا تُتحمَّل من جهة أخرى، وإن كان الطبريُّ رأى تحمُّلها في زمانه.
والذي ينبغي أن يطمئنَ إليه القارئ، وهو ما التزمناه -بحمد الله- أثناء هذه الأبحاث؛ أنَّا لا ندع روايةً صحيحةً من كتاب الطبريِّ، وفيها ذكرٌ لصاحب البحث تندُّ عن هذا الكتاب، ونحسب تلك كافيةً للمُنْصِف -إن شاء الله-.
ثالثًا: لم نكتفِ بما ورد في تاريخ الطبري فقط، إذ كان هناك بعض الأحداث تستلزم توسُّعًا للتوضيح والتكميل، فهنا نُضيف ما نراه نافعًا من التواريخ الأخرى وكتب التراجم والطبقات، كتاريخ ابن عساكر، وتاريخ خليفة بن خياط، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي، وطبقات ابن سعد، وغير ذلك.
رابعًا: لم نتوسَّع في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الأبحاث، لأن هذا مما يطول به حجم الكتاب، فاقتصرنا على ذكر أهمِّ المصادر، إلا إذا قام داعٍ لغير ذلك.
خامسًا: حكمنا على كل إسناد بما نُراه له مستحقًَّا، صحةً أو ضعفًا، وإن نزل الحديث أو الأثر عن الصحة؛ بيَّنَّا سبب ذلك، وِفق قواعد أهل الحديث المبثوثة في كتبهم، والمعلومة من خلال تطبيقاتهم وعملهم.
ولعله من المفيد هنا أن نذكِّر بشيءٍ من منهجهم في التعامل مع هؤلاء الرواة الأخباريين، ونقلة السير والمغازي المشهورين، حتى لا يظنَّ أحدٌ أننا ابتعدنا عن منهجهم، أو تساهلنا في تطبيق قواعدهم.
فنقول: إنَّ الرواة هم عمود الإسناد، وأصله وسلسلته الفقرية التي لا قَوَام له إلا بها، فكلَّما قوي أمرهم؛ قوي الإسنادُ وصار صلبًا في ميدان الاحتجاج والاستشهاد، والعكس أيضا.
1 / 13
لكنْ: ثمَّ رواة عُرف عنهم التخصص في باب من الأبواب، مع ضعفهم في غيره، فمثلا: حفص بن سليمان الكوفي المقرئ، يقول عنه الحافظ ابن حجر: «متروك الحديث، مع إمامته في القراءة» (^١)، فقد انتشرت روايته للقرآن في الآفاق، ولم يقبل منه العلماء حديثًا واحدًا، ولم يشفع له إتقانه للقرآن في قبول الحديث، ولم يردَّ ضعفه في الحديث إتقانه للقراءات، وهذا من الإنصاف.
ومن هذا الباب أيضًا: رواة المغازي والأخبار، فكثيرٌ منهم يُحتاج إليه في هذا الفن، مع كونه غيرَ مقبولٍ عند العلماء في نقل الأحاديث، ولا يعتبرون بأحاديثه!
ويمكننا أن نلحظ بوضوح هذا التفريق والتساهل في تصرُّف أحد المشتغلين بعلوم السنة، وعلامة من علاماتها في زمانه؛ وهو: الحافظ ابن حجر، وذلك من خلال جمعه بين الروايات في كتابه: فتح الباري.
فإنه في الوقت الذي يقرر فيه ردَّ رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن ولم يُصرِّح بالتحديث، وردِّ أحاديث الواقدي لأنه متروكٌ عند علماء الجرح والتعديل، فضلًا عن غيرهما من الأخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة، كأبي الحسن المدائني وعوانة؛ فإنه يستشهد برواياتهم، ويستدلُّ بها على بعض التفصيلات، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسنادًا! وهذا دليلٌ على قبوله أخبارهم فيما تخصَّصوا فيه من العناية بالأخبار والسير، وهذا هو المنهج الذي نسير عليه هنا.
وفيما يلي بعض النماذج لرواة تُكلِّم في روايتهم للحديث، ومع ذلك لم تُهدر أقوالهم في باب الأخبار والسير، لعنايتهم وتخصصهم في هذا الباب، ثم نُتبع ذلك ببعض النماذج العملية من تصرفات العلماء مع مروياتهم في أبواب المغازي والسير.
_________
(^١) تقريب التهذيب (١٤٠٥).
1 / 14
من نماذج الرواة:
- محمد بن عمر الواقدي:
اتَّفق علماء الجرح والتعديل على ضعفه، كما نقل ذلك النوويُّ (^١)، وقال الذهبيُّ: «استقر الإجماع على وهن الواقدي» (^٢)، ومع ذا: نجد ثناء من البعض على علمه بالمغازي والسير خاصة، قال عنه تلميذه محمد بن سعد: «كان عالمًا بالمغازي، والسيرة، والفتوح»، وقال عنه الخطيبُ البغداديُّ: «سارتْ الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي، والسير، والطبقات، وأخبار النبي ﷺ والأحداث التي كانت في وقته، وبعد وفاته ﷺ» (^٣).
وقال عنه الذهبيُّ: «كان إلى حفظه المنتهى في الأخبار، والسير، والمغازي، والحوادث، وأيام الناس، والفقه، وغير ذلك» (^٤).
وقال في موطن آخر: «وقد تقرَّر أنَّ الواقديَّ ضعيفٌ، يُحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونُورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض، فلا ينبغي أن يُذكر» (^٥).
وقال عنه الحافظ ابن كثير: «الواقدي عنده زياداتٌ حسنةٌ، وتاريخٌ محرَّرٌ غالبًا; فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوقٌ في نفسه مكثار» (^٦).
وقد استوعب الكلام على عدالة الواقدي ابنُ سيد الناس، ثم قال في معرض الدفاع عنه: «سعة العلم مظنَّةٌ لكثرة الأغراب، وكثرة الأغراب مظنَّةٌ للتهمة، والواقدي غير مدفوعٍ عن سعة العلم، فكثرت بذلك غرائبه» (^٧).
وقال أيضًا: «وقد رُوِّينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع، وسؤاله من أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم؛ ما يقتضي انفرادًا برواياتٍ وأخبار لا تدخل تحت الحصر» (^٨).
_________
(^١) المجموع شرح المهذب (١/ ١١٤، ٥/ ١٢٩).
(^٢) ميزان الاعتدال (٣/ ٦٦٦).
(^٣) تهذيب التهذيب (٩/ ٣٦٣ - ٣٦٨).
(^٤) ميزان الاعتدال (٣/ ٦٦٣).
(^٥) سير أعلام النبلاء (٩/ ٤٦٩).
(^٦) البداية والنهاية (٤/ ٥٨٠).
(^٧) عيون الأثر (١/ ٢٤).
(^٨) المصدر السابق (١/ ٢٥).
1 / 15
والذي يظهر من مجموع كلام النقَّاد في الواقدي قبول رواياته في الأخبار والسير، ولكن لا يُعارض بها الروايات الصحيحة، والله أعلم (^١).
- سيف بن عمر التميمي:
نقل الحافظ ابن حجر في ترجمته تضعيفَ العلماء له، وتشبيه بعضهم له -كأبي حاتم الرازي- بالواقدي (^٢)، ولما أراد الحافظ أن يُصدر عليه حكمًا كلِّيًا قال: «ضعيف الحديث، عمدةٌ في التاريخ» (^٣).
وقد اعتمده الطبريُّ في أخبار الفتوح، وذكر رواياته في الفتنة، وقد أكثر عنه بهذا الإسناد: «كتب إليَّ السري، عن شعيب، عن سيف بن عمر»، أو: «حدثني السري، عن شعيب، عن سيف بن عمر»، ومجموع مروياته في تاريخ الطبري: مئتين وستٍّ وستِّين رواية (^٤).
- أبو الحسن علي بن محمد المدائني:
تُرجم له في كُتب الضعفاء (^٥)، وقال عنه ابن عدي: «ليس بالقوي في الحديث، وأقلَّ ما له من الروايات المسنَدة» (^٦)، ومع ذلك: نجد الطبريَّ يقول عنه: «كان عالمًا بأيام الناس، صدوقًا في ذلك» (^٧). وكذلك أكثر عنه في تاريخه، وغالب رواياته من طريق عمر بن شبة، وبعضها أخذه من كتبه مباشرة.
وقال عنه الخطيب البغدادي: «وكان عالمًا بأيام الناس، وأخبار العرب وأنسابهم، عالمًا بالفتوح والمغازي ورواية الشعر، صدوقًا فِي ذلك» (^٨).
وقال أبو العباس أَحمد بن يحيى النحوي: «من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أَبِي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني» (^٩).
_________
(^١) منهج كتابة التاريخ الإسلامي، لمحمد بن صامل السلمي (ص: ٣٥٦).
(^٢) تهذيب التهذيب (٤/ ٢٩٥).
(^٣) تقريب التهذيب (٢٧٢٤).
(^٤) منهج كتابة التاريخ الإسلامي (ص: ٤٦٧).
(^٥) انظر: الكامل في الضعفاء (٦/ ٣٦٣)، ميزان الاعتدال (٣/ ١٥٣)، ديوان الضعفاء (٢٩٦١)، لسان الميزان (٦/ ١٣).
(^٦) الكامل في الضعفاء (٦/ ٣٦٣ - ٣٦٤).
(^٧) لسان الميزان (٦/ ١٣).
(^٨) تاريخ بغداد (١٢/ ٥٥).
(^٩) المصدر السابق.
1 / 16
- أبو مِخنف لوط بن يحيى:
ضعَّفه عامة أهل الجرح والتعديل (^١)، وقال عنه الذهبيُّ: «أخباريٌّ تالفٌ، لا يُوثقُ به» (^٢)، ثم قال عنه في موطن آخر: «صاحب تصانيف وتواريخ، ....، وهو من بابة سيف بن عمر التميمي صاحب «الردَّة»، وعبد الله بن عياش المنتوف، وعوانة بن الحكم» (^٣).
- محمد بن إسحاق بن يسار المدني:
قال عنه الدارقطني: «لا يُحتجُّ به، وإنما يُعتبر به» (^٤).
وقال عنه الذهبي: «كان في العلم بحرًا عجَّاجًا، لكنه ليس بالمجوِّد كما ينبغي» (^٥)، وقال: «قد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحدٍ من العلماء» (^٦).
ومع هذا فهو يثني عليه في علم المغازي والسير؛ فيقول: «قد كان في المغازي علَّامةً» (^٧).
وقال أيضًا عنه: «له ارتفاعٌ بحسبه، ولا سيَّما في السير، وأما في أحاديث الأحكام: فينحطُّ حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذَّ فيه، فإنه يُعدُّ مُنكَرًا، هذا الذي عندي في حاله، والله أعلم» (^٨).
وقد سبقه إلى ذلك: الإمام أحمد، حيث قال -وذكر محمد بن إسحاق-: «أما في المغازي وأشباهه: فيكتب، وأما في الحلال والحرام: فيحتاج إلى مثل هذا، ومدَّ يده وضم أصابعه» (^٩).
وقال العباس بن محمد: سمعتُ أحمد بن حنبل، وقيل، له: ما تقول في موسى بن عبيدة؟ وفي محمد بن إسحاق؟ فقال: «أما محمد بن إسحاق: فهو رجل يكتب هذه الأحاديث، كأنه يعني المغازي وما أشبهها، أما موسى بن عُبيدة: فلم يكن به بأس» (^١٠).
_________
(^١) الضعفاء والمتروكون للدارقطني (٤٤٩)، لسان الميزان (٦/ ٤٣٠).
(^٢) ميزان الاعتدال (٣/ ٤١٩).
(^٣) سير أعلام النبلاء (٧/ ٣٠٢).
(^٤) سؤالات البرقاني (٤٢٢).
(^٥) سير أعلام النبلاء (٧/ ٣٥).
(^٦) المصدر السابق (٧/ ٣٩).
(^٧) المصدر السابق (٧/ ٣٧).
(^٨) المصدر السابق (٧/ ٤١).
(^٩) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (٧/ ١٩٣).
(^١٠) الضعفاء الكبير للعقيلي (٤/ ٢٣).
1 / 17
وقال الشافعيُّ: «من أراد أن يتبحَّر في المغازي؛ فهو عيال على محمد بن إسحاق» (^١).
إذن بعد هذا: كيف يُتعامل مع هذا الصنف من الرواة؟
لا شكَّ أن انفرادهم برواية حديث، أو واقعة يُستفاد منها تشريعٌ، أو حُكمٌ عقديٌّ، أو تحمل طعنًا في أحدٍ ممن ثبتت عدالتهم بيقين؛ لا يقبله من لديه مسحةٌ من علم بأصول القبول والرد، هذا لا يُنازَعُ فيه.
أمَّا ما نقلوه من أخبارٍ، تحمل بعض التفاصيل التي لا تتعرَّضُ لشيءٍ مما ذُكر، وإنما يكون فيها زيادةٌ لا تضر، وتفاصيل قد تساعد على تصوُّرٍ أقرب لما كانت عليه الأحداث؛ فهذا لا بأس بإيراده، وعلى هذا يُحمل قول من قَبِل كلامهم من العلماء في أبواب المغازي والسير.
ولذا فإذا ما مرَّ بك عزيزي القارئ أثرٌ، ووجدت الحكم بضعف الإسناد مُصدَّرًا عليه، وسبب ذلك وجود أحد هؤلاء؛ فتذكَّرْ تلك القاعدة التي تقدَّمت، وهي: أنَّ حالهم في نقل هذه الأخبار، مما لا يترتب عليه شيء من أحكام العقائد والتشريعات؛ مما يُتساهل فيه.
وهذه قاعدةٌ وضعها أحدُ أئمَّة الحديث في زمانه، عبدُ الرحمن بن مهدي، حينما قال: «إذا رُويِّنا عن النبي ﷺ في الحلال والحرام، والأحكام؛ شدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا رُوِّينا في فضائل الأعمال، والثواب والعقاب، والمباحات والدعوات؛ تساهلنا في الأسانيد» (^٢).
فاجعل هذا الأمر منك على ذكر.
وفيما يلي بعض النماذج العمليَّة من تصرفات العلماء مع مرويَّاتهم في هذا الباب:
_________
(^١) سير أعلام النبلاء (٧/ ٣٦).
(^٢) إسناده صحيح: أخرجه الحاكم (١/ ٦٦٦)، وفي المدخل إلى الإكليل (ص: ٢٩)، والخطيب في الجامع (١٢٦٧).
1 / 18
- صنيع البخاريِّ في صحيحه مع راوٍ كمحمد بن إسحاق، حيث لم يعتمده كرجلٍ من رجاله في الأحاديث، لكنه علَّق عنه في أبواب المغازي كثيرًا، من ذلك قوله: «قال ابن إسحاق: أول ما غزا النبي ﷺ: الأبواء، ثم بُواط، ثم العُشيرة» (^١).
وقوله: «قال ابن إسحاق: سمعت وهب بن كيسان، سمعت جابرًا، خرج النبي ﷺ إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعًا من غطفان، فلم يكن قتالٌ، وأخاف الناس بعضهم بعضًا، فصلى النبي ﷺ ركعتي الخوف» (^٢).
وقوله: «باب غزوة بني المصطلق، من خزاعة، وهي غزوة المريسيع، قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست» (^٣).
- ونجد الطبريَّ في كتابه التاريخ أكثر عن مثل هؤلاء الأخباريين المذكورين، بينما في كتابٍ له كتهذيب الآثار، عُني فيه بالأحاديث والاحتجاج بها؛ لا نجدُ ذكرًا لهم!
- كذلك الحافظ ابن حجر اعتبر بروايات هؤلاء الأخباريين في شرحه لصحيح البخاري، ومن ذلك:
أنَّه في أول كتاب المغازي (^٤) ذكر عدد غزوات الرسول ﷺ، وعدد بعوثه وسراياه، وعدد الغزوات التي وقع فيها قتال، فاستشهد بأقوال أهل السير؛ مثل: محمد بن إسحاق، والواقدي، ومحمد بن سعد، وذَكَر خلافهم، وجمع بين أقوالهم وأقوال من هم أوثق منهم من رواة الصحيح، وفعل مثل هذا عند حديثه عن عدد أهل بدر (^٥).
وفي قصة مقتل أبي جهل يوم بدر، جعل الحافظ رواية ابن إسحاق جامعة بين الروايات، رغم مخالفتها لما في الصحيح (^٦)!
_________
(^١) صحيح البخاري (٥/ ٧١).
(^٢) صحيح البخاري (٤١٢٧).
(^٣) المصدر السابق (٥/ ١١٥).
(^٤) فتح الباري (٧/ ٢٧٩).
(^٥) المصدر السابق (٧/ ٢٩١).
(^٦) المصدر السابق (٧/ ٢٩٦).
1 / 19
كذلك في قصة بني النضير ومتى كان حصارُهم، ذكر ابنُ إسحاق أنها كانت بعد أحدٍ، وبعد استشهاد القرَّاء في بئر معونة، بينما نجد البخاري ينقل في الصحيح عن عروة أنها كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، أي: قبل أحد، وقد مال الحافظ ابن حجر إلى ترجيح رواية ابن إسحاق رغم إيراده سببًا للغزوة غير ما ذكر ابن إسحاق (^١)!
وكل هذا الصنيع منهم، ومن غيرهم، يؤكِّد لنا على صحَّة ما قدَّمناه، من التفريق بين روايتهم للأحاديث المرفوعة، وكذلك ما يُستفادُ منه حكمٌ شرعيٌ، أو تأصيلٌ عقديٌّ، أو طعنٌ فيمن ثبتت عدالتهم، وبين الأخبار العامة، وتفاصيل السير المجملة، التي لا تمسُّ شيئًا مما سبق. والله أعلم.
_________
(^١) المصدر السابق (٧/ ٣٣١).
1 / 20