44

Fatawa of Dr. Husam Afaneh

فتاوى د حسام عفانة

اصناف

١١ - يؤخذ العلم عن العلماء الربانيين يقول السائل: سمعت حديثًا عن النبي ﷺ يقول: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)، فهل هذا ثابت عن النبي ﷺ، أفيدونا؟ الجواب: هذا النص المذكور ليس بحديث عن رسول الله ﷺ، وإنما هو أثر منقول عن بعض السلف، وقد بين العلامة الألباني أنه لا يثبت عن النبي ﷺ، بل هو ضعيفٌ جدًا، ثم ذكر أنه رواه تمام وابن عدي والسهمي والهروي والديلمي، ثم ذكر أن الصحيح وقفه على محمد بن سيرين، وورد عن زيد بن أسلم والحسن البصري والضحاك بن مزاحم وإبراهيم النخعي موقوفًا عليهم، وروي عن ابن عباس وأبي هريرة موقوفًا عليهما بأسانيد ضعيفة. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ٥/٥٠٣. وقد رواه الإمام مسلم عن محمد بن سيرين من أئمة التابعين في مقدمة صحيحه ١/٧٦. وهذا الأثر يبين أن العلم الشرعي من الدين، فلا بد للناس أن ينظروا في أحوال من يأخذون العلم عنهم، وفي زماننا هذا كثر المتسورون على العلم الشرعي ممن ليسوا أهلًا ليؤخذ العلم عنهم، وخاصة أن وسائل الظهور على الناس ومخاطبتهم قد كثرت وتنوعت كما في الفضائيات والإذاعات وشبكة الإنترنت والصحف والمجلات وغيرها. ويضاف إلى ذلك أن بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي يقفون مواقف الشبه والشك والريبة، وتصدر عنهم أمور مخالفة لشرع الله ﷿ وهم يزعمون أنهم يتكلمون باسم الدين، وقد عجبت من أحدهم يحتفل بعيد ميلاده!؟ ونُشرت صورتُه وهو يقطع الكعكة، في أحد النوادي المشبوهة (الليونز)، وحوله مجموعة من النساء الكاسيات العاريات، وغنوا له هابي بيرث داي تو يو ...، ثم يزعم أن رسول الله ﷺ كان يحتفل بعيد ميلاده!! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ سورة الكهف الآية ٥. ولا شك أن هذا من الأمراض التي تصيب المشايخ في مقتل، وهذا يُعد من الأهواء التي تصيب هؤلاء المشايخ المتصدرين، كحب المال والجاه والشهرة وحب الظهور الذي يقصم الظهور، وكمرض العلم وعدم العمل، ومرض إتباع أهل البدع والأهواء، وكمداهنة الكفرة والفسقة، فهؤلاء الذين يحملون العلم الشرعي ما صانوه حق صيانته وينطبق عليهم قول القاضي الجرجاني: ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظّموه في النفوسِ لعُظِّما! ولكنْ أهانوه فهان ودنّسوا مُحيَّاهُ بالأطماعِ حتى تجهَّما! فكل هؤلاء وأشباههم لا يؤخذ عنهم العلم الشرعي، وأسوق هنا طائفة من الأحاديث ومن أقوال السلف فيمن يؤخذ عنهم العلم الشرعي ومن لا يؤخذ عنهم حتى يكون المسلم على بينة من أمره: فعن عبد الله بن عمر بن العاص ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (سيكون في آخر أمتي أناسٌ يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) رواه مسلم. وعن أبي هريرة ﵁ أيضًا أن رسول الله ﷺ قال: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم) رواه مسلم. وعن ثوبان ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، وقال الترمذي: حديث صحيح. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة ٤/١٥٦. وقال الإمام القدوة يزيد بن هارون: [إن العالِم حُجَتُك بينك وبين الله تعالى، فانظر مَنْ تجعل حجتك بين يدي الله ﷿] الفقيه والمتفقه ٢/١٧٨. وروى الخطيب البغدادي عن إبراهيم النخعي- أحد أئمة التابعين- قال: (كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل، نظر في صلاته، وفي حاله، وفي سمته، ثم يأخذ عنه) . ونقل الحافظ ابن عبد البر عن الإمام مالك بن أنس ﵀ قوله: لا يُؤخذ العلم عن أربعة: سفيهٌ معلنٌ السفه، وصاحب هوى يدعو الناس إليه، ورجلٌ معروف بالكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يكذب على رسول الله ﷺ، ورجلٌ له فضلٌ وصلاحٌ لا يعرف ما يحدث به) جامع بيان العلم وفضله. وذكر الإمام ابن أبي حاتم هذا الأثر (دينك، دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا) . وسئل عبد الله بن المبارك: (من الملوك؟ قال الزهاد. قالوا من السفلة؟ قال الذين يأكلون بدينهم. قالوا من سفلة السفلة؟ قال الذين يصلحون دنيا غيرهم بإفساد دينهم) . وجعل الشيخ ابن مفلح الحنبلي المقدسي في كتابه (الآداب الشرعية) فصلًا بعنوان (صفات من يؤخذ عنهم الحديث والدين ومن لا يؤخذ عنهم)، وذكر فيه قول الإمام مالك لرجلٍ: اطلب هذا الأمر – العلم - من عند أهله)، وقول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: (لا يؤخذ العلم إلا عمن شُهدَ له بطلب العلم) . وقول الإمام أحمد: (يُكتب الحديثُ عن الناس كلهم إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو إليه، أو كذاب، أو رجل يغلط في الحديث فيرد عليه فلا يقبل) . وقول الإمام أبي حنيفة: (تكتب الآثار ممن كان عدلًا في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد ﷺ، ومن أتى السلطان طائعًا حتى انقادت العامة له، فذاك لا ينبغي أن يكون من أئمة المسلمين) . وقول حرملة: (سمعت الشافعي يقول: ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة – أي الشيعة -) . وقول عبد الله بن مسعود ﵁: (لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن علمائهم وأمنائهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا) . [وقد نقل الخطيب البغدادي عن ابن قتيبة أنه سئل عن معنى هذا الأثر، فأجاب: يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث، ثم يعلل هذا التفسير فيقول: لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحِدَّتُه وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحَدَث، مع السّن والوقار والجلال والهيبة، والحَدَث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أُمنت على الشيخ فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك.] عن شبكة الإنترنت. ثم ذكر الشيخ ابن مفلح الحنبلي المقدسي فصلًا آخر في سمت العلماء الذين يؤخذ عنهم الحديث والعلم وهديهم. وساق فيه طائفة من أقوال أهل العلم في ذلك. وقال الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) [باب اختيار الفقهاء الذين يتعلم منهم، ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة، وعرف بالستر والصيانة] ثم ذكر عن سليمان موسى أنه قال: (لا تقرءوا القرآن على المصحفيين، ولا تأخذوا العلم من الصحفيين)، وقال ثور بن يزيد: (لا يفتي الناس الصحفيون)، وقال أبو زرعة: (لا يفتي الناس صُحفي، ولا يقرئهم مصحفي) . ويقصد بالصُحفي من يأخذ علمه من الكتب بدون شيخ يُعلمه، والمصحفي من يُعلم الناس القرآن والتجويد والقراءات دون أن يتلقاها من أفواه القراء. قال الخطيب البغدادي: [الذي لا يأخذ العلم من أفواه العلماء لا يُسمى عالمًا، ولا يُسمى الذي يقرأ من المصحف من غير سماعٍ من القارئ قارئًا، إنما يسمى مُصحفيًا] . إذا تقرر هذا فإن العلم الشرعي لا يؤخذ عن كل من هب ودب، وإنما يؤخذ عن أهل العلم الصادقين، العاملين به، ويؤخذ من العلماء الربانيين، كما قال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [فلابد من معرفة من هم العلماء حقًا، هم الربانيون الذين يربون الناس على شريعة ربهم، حتى يتميز هؤلاء الربانيون عمن تشبه بهم وليس منهم، يتشبه بهم في المظهر والمنظر والمقال والفعال، لكنه ليس منهم في النصيحة للخلق وإرادة الحق، فخيار ما عنده أن يلبس الحق بالباطل ويصوغه بعبارات مزخرفة، يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل هو البدع والضلالات الذي يظن بعض الناس هو العلم والفقه وأن ما سواه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون.] شرح كشف الشبهات عن شبكة الإنترنت. وخلاصة الأمر أن الأثر المذكور في السؤال وهو: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)، لم يثبت حديثًا عن النبي ﷺ، وإنما هو من قول محمد بن سيرين من التابعين، وقد نصح أهل العلم قديمًا وحديثًا بالعمل بهذا الأثر، فيجب على المسلم عامة وطالب العلم خاصة أن ينظر عمن يأخذ دينه، فلا يأخذه إلا من العلماء العاملين الصادقين، الذين ينطبق عليه قول النبي ﷺ: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، وهو حديث مشهور صححه الإمام أحمد وابن عبد البر وغيرهما. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا منهم.

3 / 11