على أحد قبلكم ولا أحد بعدكم؛ لأن الحمد إذا وقع في مقابلة النعم كان شكرا، قال تعالى: ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾ والمتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يوفى حقه؛ لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعى شكرا آخر لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر، قال الشاعر:
كلما قلت أعتق الشكر رقي ... صيرتني لك المكارم عبدا
أين عمر الزمان حتى أؤدي ... شكر حسناتك الذي لا يؤدا
ولهذا قال السبكي أول متن جمع الجوامع: نحمدك اللهم على نعم يؤذن الحمد بازديادها أي
: الحمد عليك يعلم بزيادتها؛ لأنه متوقف على الإلهام له والإقدار عليه، وهما من جملة النعم، فيقتضيان الحمد، وهو مؤذن بالزيادة المقتضية للحمد أيضا، وهلم جرا، فلا غاية للنعم حتى يوقف بالحمد عليها، ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾. قال جعفر بن سليمان كان داود نبي الله ﷺ قد جزَّأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود يصلي. وقوله: ولذلك قيل إلخ، أشار به إلى ما ذكره الغزالي في الإحياء أن داود ﵇ قال في مناجاته: يا رب إذا كان إلهامك للشكر وإقدارك عليه نعمة فكيف يتأتى لي شكرك؟ فقال: يا داود، إذا عرفت هذا فقد شكرتني، ونظم بعضهم هذا المعنى فقال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... على له لي مثلها يجب الشكر
\٥٠
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتسع العمر
\٥٠
إذا مس بالنعماء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
\٥٠
ولما كان الشكر عرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله من السمع والبصر والعلم والمال والجاه وغيرها، فإن قلنا: إنه يصرف ذلك في وقت واحد لما خلق لأجله كان ذلك في غاية العسر، وإن قلنا في أوقات مختلفة أمكن ذلك، ويدل له ما مر عن داود ﵇، وقد قال أهل الأصول: شكر النعم واجب بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة، قال المحلي: أي الثناء على الله تعالى لإنعامه بالخلق والرزق والصحة وغيرها بالقلب بأن يعتقد أنه تعالى وليها أو اللسان بأن يتحدث بها أو غيره كأن يخضع له تعالى، وهذا منه بناء على أن المراد بالشكر في كلامهم الشكر اللغوي، وهو أنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه على الشاكر، وإنما كان الشكر من أخص ما يثنى به على المنعم، وكان ما أنعم به تعالى على داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام من الأمور الغريبة العجيبة المختصة بهما دون غيرهما أمرهما الله تعالى بعمل الشكر وعبر بـ: ﴿اعملوا﴾ دون: اشكروا مثلا؛ ليشمل كل عمل قلبي ولساني حالي أو قالي@، ولما
1 / 34