فتاویٰ حدیثیہ
الفتاوى الحديثية
ناشر
دار الفكر
الْأَنْبِيَاء لما علمت مَا بَينهمَا من الْمُلَازمَة الظَّاهِرَة. وَقَول السَّائِل نفع الله بِهِ: وَهل الْولَايَة الْمَخْصُوصَة فِي مرتبَة النُّبُوَّة؟ كَلَام مُجْمل يحْتَاج لبَيَان فَإِن أَرَادَ بِالْولَايَةِ الْمَخْصُوصَة ولايات الْأَوْلِيَاء غير الْأَنْبِيَاء فَالصَّوَاب أَنه لَا يُمكن شرعا أَن وليا يصل لدرجة نبيّ، وَمن اعْتقد ذَلِك فَهُوَ كَافِر مراق الدَّم إِلَّا أَن يَتُوب، وَإِن أَرَادَ أَن السَّبَب الَّذِي اقْتضى أفضليته ﷺ أفضل من مُطلق النبوّة فَهَذَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، لأَنا قد علمنَا مِمَّا تقرر وَغَيره أَن نَبينَا ﷺ أفضل من سَائِر الْأَنْبِيَاء فِي كل وصف من أَوْصَاف الْكَمَال، وَمن ثمَّ خَاطب الله تَعَالَى الْأَنْبِيَاء بِأَسْمَائِهِمْ وَلم يخاطبه إِلَّا بِنَحْوِ ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هًّادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَ احْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ وَأوجب الله تَعَالَى عَلَيْهِم إِن بعث وهم أَحيَاء أَن يُؤمنُوا بِهِ ويتبعوه وينصروه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [آل عمرَان: ٨١] الْآيَة، وَوَقع لِابْنِ عبد السَّلَام ﵀ فِيهَا مَا لَا يَنْبَغِي فاجتنبه. وَقَول السَّائِل: وَهل ولَايَة النَّبِي الخ، كَأَن مُرَاده بِهَذَا أَيْضا الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة عَن ابْن عبد السَّلَام وَهِي قَوْله: إِن نبوّة النَّبِي أفضل من رسَالَته لِأَن النبوّة هِيَ الطّرف الْمُتَعَلّق بِالْحَقِّ والرسالة هِيَ الطّرف الْمُتَعَلّق بالخلق، وَمَا تعلق بِالْحَقِّ أفضل مِمَّا تعلق بالخلق وَهُوَ ضَعِيف جدا، وَمن ثمَّ ضعَّفه غير وَاحِد من الْمُتَأَخِّرين، وَبَيَان ضَعْفِه أَن الرسَالَة لَيْسَ لَهَا طرف من جِهَة الْخلق فَقَط بل لَهَا طرفان لِأَن الرَّسُول هُوَ الْمبلغ عَن الله تَعَالَى الْأَحْكَام للنَّاس فَهُوَ متلقِّ من جِهَة الْحق ومُلْق على الْخلق، فَكَانَت رسَالَته الَّتِي تأهل بهَا إِلَى الْخلَافَة عَن الله تَعَالَى أَفْضَل من مُجَرّد نُبوَّته لِأَنَّهُ لم يتأهل بهَا إِلَى الْمرتبَة الْعلية، وَالْكَلَام فِي نبوة الرَّسُول ورسالته، أما الرَّسُول فَهُوَ أفضل من النَّبِي إِجْمَاعًا، وَحمل بَعضهم النَّهْي عَن التَّفْضِيل بَين الْأَنْبِيَاء السَّابِق على النَّهْي عَن التَّفْضِيل بَينهم فِي ذَات النُّبُوَّة والرسالة فَإِنَّهُم فِي ذَلِك على حد سَوَاء لَا تفاضل بَينهم، وَإِنَّمَا التَّفَاضُل فِي زِيَادَة الْأَحْوَال وخصوص الكرامات والرتب، فذات النُّبُوَّة لَا تفاضل فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفَاضُل فِي أُمُور زَائِدَة عَلَيْهَا، وَمن ثمَّ كَانَ مُبْهما.
وَقَول السَّائِل: هَل كَانَ نَبينَا ﷺ متعبدًا الخ. جَوَابه: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا هَل كَانَ ﷺ قبل بعثته متعبدًا بشرع من قبله أَو لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُور: لم يكن متعبدًا بِشَيْء. وَاحْتَجُّوا بِأَن ذَلِك لَو وَقع لنقل وَلما أمكن كتمه وَلَا سَتْره فِي الْعَادة وَلَا افتخر بِهِ أهل تِلْكَ الشَّرِيعَة ﷺ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ بِأَن ذَلِك لَو وَقع لنقل وَلما أمكن كتمه وَلَا ستره فِي الْعَادة وَلَا افتخر بِهِ أهل تِلْكَ الشَّرِيعَة ﷺ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لم يَقع شَيْء مِنْ ذَلِك، علمنَا أَنه لم يكن متعبِّدًا بشرع نبيِّ قبله، وَذهب طَائِفَة إِلَى امْتنَاع ذَلِك عقلا قَالُوا: لِأَنَّهُ يبعد أَن يكون متبوعًا وَقد عرف تَابعا. وَذهب آخَرُونَ إِلَى الْوَقْف فِي أمره ﷺ وَترك قطع الحكم عَلَيْهِ بِشَيْء فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لَا قَاطع من الْجَانِبَيْنِ، وَإِلَى هَذَا ذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ عَاملا بشرع من قبله. ثمَّ اخْتلفُوا فَوقف بَعضهم عَن التَّعْيِين واحْجم وجسر عَلَيْهِ بَعضهم. ثمَّ اخْتلف المعينون فَقيل نوح وَقيل إِبْرَاهِيم وَقيل مُوسَى وَقيل عِيسَى وَقيل آدم، فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وأظهرها الأول وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وأبعدها مَذْهَب المعينين إذْ لَو كَانَ شَيْء لنقل كَمَا مر.
وَلَا حجَّة لمن زعم أَن عِيسَى آخر الْأَنْبِيَاء ﷺ فلزمتْ شريعتُه ﷺ مَنْ جَاءَ بعده، لِأَنَّهُ لم يثبت عُمُوم دَعْوَة عِيسَى، بل الصَّحِيح أَنه لم يكن لنَبِيّ دَعْوَة عَامَّة إِلَّا لنبينا ﷺ، وَمن ثمَّ لم يُرْسل للجن غَيره ﷺ، وإيمان الْجِنّ بِالتَّوْرَاةِ كَمَا يدل عَلَيْهِ أَوَاخِر سُورَة الْأَحْقَاف كَانَ تَبَرعا كَإِيمَانِ بعض الْعَرَب من قُرَيْش وَغَيرهم بالإنجيل، إذْ لم يثبت أنَّ مُوسَى أُرسل لغير بني إِسْرَائِيل والقبط وَلَا أنَّ عِيسَى أُرسل لغير بني إِسْرَائِيل، وَزعم بعض من لَا تَحْقِيق عِنْده وَلَا اطلَاع على حقائق الْكتاب وَالسّنة، أنَّ نَبينَا ﷺ كَانَ على شَرِيعَة إِبْرَاهِيم ﷺ وَلَيْسَ لَهُ شرع مُنْفَرد بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود من بعثته إحْيَاء شرع إِبْرَاهِيم تمسكًا بِظَاهِر قَوْله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النَّحْل: ١٢٣] وَهَذَا القَوْل أَي أَن الشَّرِيعَة شَرِيعَة إِبْرَاهِيم بالغلط بل بالخُراف أشبه، ومِنْ ثمَّ قَالُوا: إِن مثله لَا يصدر إِلَّا من سخيف الْعقل كثيف الطَّبْع، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة الِاتِّبَاع فِي التَّوْحِيد الْخَاص بمقام الخُلة الَّذِي هُوَ مقَام إِبْرَاهِيم الْمشَار إِلَيْهِ بِصِيغَة ﴿حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ والمتسبب عَن تفويضه الْمُطلق لما أَن ألْقى فِي النَّار وَجَاء إِلَيْهِ جِبْرِيل ﵉ قَائِلا لَهُ (أَلَك حَاجَة؟ قَالَ أما إِلَيْك فَلَا)، فوصل غَايَة من التَّفْوِيض لم يصل إِلَيْهَا أحد قبله وَلَا بعده إِلَّا نَبينَا مُحَمَّد ﷺ، فَإِنَّهُ وصل إِلَيْهَا وارتقى عَنْهَا
1 / 111