فما وصل ذلك البناء حتى غابت الشمس وأغبر وجه الأفق فجلس على حجر من أحجار الهيكل ملقى عند بابه وأمسك بزمام الفرس ونظر إليه فرآه هادئا كئيبا كأنه شعر بما يخامر قلب عبد الله من الهواجس فشاركه في الأسف على فقيده ثم نظر عبد الله إلى ما حوله فإذا هو في أرض خالية من أنفاس الناس لا يسمع فيها صوت ولا يرى فيها إلا أشباح بعض التلال أو الأحجار أو الأشجار وإلتفت إلى ذلك البناء على عظمه فرأى الذلة والمسكنة قد ضربتا عليه لما يتجلى فيه من آثار الخراب فكان له بذلك عبرة عن مصير الإنسان فتذكر حاله مع حماد وما مر به في ذلك اليوم من الأهوال فغلب عليه القلق واشتد به الحزن حتى ترقرقت الدموع في عينيه ثم حانت منه إلتفاتة فرأى بيوت القرية عن بعد فحدثته هواجسه أنه سيجد حمادا بين أهلها فنهض بغتة يريد الذهاب إليها ثم عاد إلى صوابه فقال في نفسه (لا أراني إلا في أضغاث أحلام أن حمادا قد أصبح في عداد الأموات) فعادت إليه أحزانه فجلس على ذلك الحجر وعاد إلى البكاء.
وقضى مدة في مثل هذه الحال يتردد بين اليأس والرجاء والليل قد سدل نقابه وعلا نعيق الغربان وضجت أصوات الضفادع في ذلك الغدير القليل الماء فخاف أن يكون في بقائه هناك خطر على حياته من وحش يفترسه أو لصوص تسطو عليه فيقضي نحبه قبل أن يتحقق أمر حماد فعاد إلى ذكرى أحزانه فأمسك بحسامه وقبله وأجهش في البكاء.
وما زال في مثل ذلك حتى شعر بالبرد والنعاس على أثر ما قاساه من تعب المشي فأسند رأسه إلى جدار الهيكل وهو بين اليقظة والمنام وعنان الفرس في يمينه فما شعر إلا والجواد يصهل ويفحص الأرض بحوافره فعلم أن هناك أمرا ذا بال فوقف وأصاخ بسمعه وحدق بعينيه فلم ير شيئا ولا سمع صوتا فعاد إلى متكأه وهو لا يستطيع الرقاد لشدة هواجسه فألقى بأذنه إلى الأرض ليستطلع سبب اضطراب الجواد لعله يسمع أصواتا أو يستنبئ نبأ جديدا فسمع وقع أقدام كثيرة فعلم أن الجواد لم يجفل عبثا وإن جماعة قادمون إلى ذلك المكان فهيأ نفسه للدفاع وصعد إلى ربوة بالقرب منه لعله يرى أشباحا عن بعد فلم ير شيئا لأن الظلام كان شديدا فعاد إلى مكانه وهو يتوقع أمرا خطيرا فشغله ذلك عن هواجسه برهة فقضى بقية ذلك الليل في مثل هذه الحال حتى دنا الفجر وكان قد غمض جفنه قليلا فأفاق على صهيل الجواد فرأى بالقرب منه جماعة كبيرة من الرجال في لباس البدو فظنهم لأول وهلة من رجال أبى سفيان لأنهم في مثل زيهم وقيافتهم ولكنه ما لبث أن سمع بعضهم يناديه منتهرا ثم هموا به يريدون القبض عليه فهم بالركوب على الجواد للدفاع عن نفسه فتجمهروا حوله وهم كثار فلم يستطع دفاعا فقبضوا عليه وأوثقوه وساقوه وهو يكاد يتمزق غيظا فقال لهم: «ما تريدون مني ولا ثأر بيني وبينكم.» فناداه أحدهم قائلا: «كيف لا ترى ثأرا بيننا وبينك وأنت من رجال غسان وقد قتلتم رسولنا وأهنتم نبينا.»
فقال: «لقد أخطأتم المرمى فما أنا من غسان وإنما أنا غريب في هذه الديار.»
فقالوا: «إذا كنت صادقا فيما تقول فبرئ نفسك أمام أميرنا.» قالوا ذلك وساقوه موثقا وأخذوا سلاحه وفرسه فمشى معهم برهة فأشرف على خيام مضروبة ورأى جموعا كثيرة من عرب الحجاز ومعهم الأحمال والأثقال والخيول والجمال فساروا به إلى فسطاط كبير علم من العلم المنصوب أمامه أنه فسطاط الأمير وكان العلم أبيض ولم يكد يدنو من الخيمة حتى تقاطر الرجال زرافات ووحدانا وكلهم من أهل البادية مكشوفو الرؤوس تغطى أبدانهم شملات يلتحفونها إلا قليلين منهم وقد لوحت وجوههم الشمس وظهرت عليهم آثار الأسفار ومعظم سلاحهم من الرماح والنبال.
فلما وصل الفسطاط أوقفوه خارجا ودخل بعضهم ثم عاد فقاده إلى داخل فرأى في صدر المجلس رجلا بعمامة وجبة جالسا على بساط وبين يديه بضعة من رجال في مثل لباسه فعرف أنهم أمراء ذلك الجيش فاستعاذ بالله مما هو مساق إليه فخاطبه الأمير قائلا: «من أنت يا أخا العرب ألعلك من رجال الحارث بن أبي شمر.»
قال: «لست من أهل هذه الديار.»
فقال: «ألست من غسان.»
قال: «كلا.»
قال: «وممن أنت.»
نامعلوم صفحہ