قال: «أرى أني أسير بين يدي حضرة البطريق.» «لماذا لا تعترف بحقيقة أمرك ونحن نعدك بالإفراج.» «قلت لكم الحقيقة فلم تصدقوني.» «انبئنا أين هو ابنك فنعفو عنك.» «من أين لي أن أعلم ذلك وقد أخذتموني على غرة وهو خارج البيت فلا أعلم مقره.»
ثم ناداه رومانوس قائلا: «أنظر يا هذا إذا أنت أصررت على الإنكار لا نرى بدا من إرسالك إلى مولانا الإمبراطور في حمص فهو أولى بالاقتصاص منك وإذا وصلت إليه لا ينجيك من بين يديه حيلة فالأفضل لك أن تعترف بالحقيقة هنا وتنجو بنفسك.»
قال: «قلت لكم الحقيقة فلم تصدقوني فافعلوا ما بدا لكم.»
فأمر رومانوس بإعداد خفر يسير بعبد الله والخاتم إلى حمص فيدفعهما إلى الإمبراطور هرقل فقال عبد الله بنفسه: «لعل في ذلك بابا للفرج فإن الإمبراطور أكثر رأفة وتعقلا من هؤلاء.» فاركبوه فرسا وهو موثق وحوله عشرة خفراء بينهم خمسة من جند الروم بلباسهم المتقدم ذكره وقد ركبوا الخيل بلا ركاب على جارى عادتهم.
الفصل الثالث عشر
هرقل
وكان هرقل إذ ذاك في حمص جاءها على أثر انتصاره على الفرس انتصارا لم يكن يتوقعه فنذر أن يسير إلى بيت المقدس ماشيا فوصل عبد الله إلى حمص وقد خرج هرقل منها على قدميه وفاء لنذره والحارث بن أبى شمر الغساني قد جاء حمص ليتولى تدبير ما يلزم لذلك المسير فكان هرقل يسير ماشيا والبطاركة والأساقفة بين يديه وقد لبس التاج وتوكأ على الصولجان متزملا بوشاح ارجواني مزركش وأمامه الحارث ورجاله يفرشون له البسط في الطرق ليمشى عليها فسار عبد الله مخفورا وراء الموكب من حمص إلى بيت المقدس ورأى الجند يحف بالموكب وكلهم مشاة يتقدم كل فرقة منهم علم في أعلاه نسر من الفضة أو صليب إلا سرية صليبها من الذهب مرصع بالياقوت والألماس كانت تحيط بالموكب عن قرب. وكان الناس في أثناء الطريق يخرجون من القرى والمدن لمشاهدة الإمبراطور ماشيا وحاشيته حوله يسيرون جميعا على البسط والسجاد والناس يلقون الأزهار على الطرق وبعضهم ينثرها على الإمبراطور ورجاله وآخرون يرشون الطرق والمارة بالأرواح العطرية على أنواعها حتى وصلوا بيت المقدس وقد زينها أهلها وخرج البطريرك والأساقفة بالصلبان والمباخر يحرقون فيها البخور والند والعنبر ويسيرون بالمشاعل أمامهم فاستقبلوا الإمبراطور على مسافة خارج المدينة وعادوا به بالتراتيل والأناشيد والصلوات والناس يزاحم بعضهم بعضا يتسابقون لمشاهدة الإمبراطور وكانت شوارع بيت المقدس تعج عجيجا بالمارة فضلا عن المطلين من النوافذ والشرفات والأسطحة حتى وصل الموكب إلى كنيسة القيامة والنواقيس تدق والقسس يرتلون ويسبحون ثم أقيمت الصلاة شكرا لله على ما أولاهم من النصر على أعدائهم الفرس.
كل ذلك وعبد الله وحراسه يرافقون الجماهير فلاحظ عند إشرافهم على أسوار المدينة أنها متهدمة وآثار منجنيق الفرس والروم لا تزال ظاهرة فيها حتى لحق معظمها بالأرض وما زالوا سائرين حتى أتوا دار الحكومة فساقوا عبد الله إلى السجن فلما أصبحوا ساروا إلى الحارث بن أبى شمر فبلغوه الرسالة وسلموا إليه عبد الله وحكوا له حكايته ودفعوا إليه الخاتم فحفظه حتى يعرضه على هرقل فبقي عبد الله في محبسه شهرا لم يتمكنوا في أثنائه من تقديمه إلى هرقل لتزاحم الوفود من سائر الأنحاء يهنئون الإمبراطور بما أوتيه من النصر.
فلما تمت مهمة الحارث وهم بالرجوع إلى بصرى تذكر عبد الله فاستأذن هرقل أن يدخل به عليه فأذن له فساقوه مخفورا إلى قاعة كبيرة بالقرب من الكنيسة أعدت لجلوس الإمبراطور ورجال دولته قد أحدق بها الخفر بأسلحتهم وملابسهم الرسمية وقوفا إجلالا للإمبراطور فدخل أولا الحارث ثم استدعى عبد الله فدخل القاعة وقد هاله ما فيها من مظاهر الأبهة والعظمة فشاهد الإمبراطور جالسا في صدر القاعة على سرير من الذهب الخالص يكاد لمعانه يبهر الناظرين وعلى رأسه تاج مرصع يتلألأ كالمصابيح وعلى منكبيه وشاح من الخز سماوي اللون مزركش بالذهب وفى يده صولجان الملك وهي عصا طويلة من الذهب المرصع في أعلاها رسم النسر الروماني مرصع بالحجارة الكريمة. وكان هرقل كبير الجثة عظيم الهيبة زاد المشهد وقارا وإلى يمينه بطريرك أورشليم بملابسه الرسمية وعصاه وإلى يساره سرجيوس بطريرك القسطنطينية وإلى كل من الجانبين القواد والأساقفة وسائر رجال الدولة على كراس من الذهب وكانت أرض القاعة مكسوة بالسجاد المزركش والأبسطة الثمينة.
ورأى بين الأساقفة أسقفا شاهده مرة في الحيرة وهو كيروس أسقف فاسيس في بلاد الأكراد وكان يسمع بسعة علمه ودهائه فعجب لوجوده هناك وازداد عجبا لما رآه جالسا بجانب البطريرك الأورشليمى في منزلة البطاركة ورأى بجانب البطريرك القسطنطيني بطريركا لم يعرفه.
نامعلوم صفحہ