قال: «لقد سررت كثيرا باجتماعكما بعد طول التشتت بسبب ذلك الغلام الغر (يريد ثعلبة) وقد كنت في غفلة عن أمره إلى ما بعد وفاة والده فتبعثر أصدقاؤه فأخبرني بعضهم بما ارتكبه هذا الخائن في سبيل الفتك بك على أثر ما أظهرته من الشهامة وكرم الأخلاق ويكفي أنك عفوت عن قتله في حلبة السباق بعد ما عاينت من غدره وسوء قصده ولكن ذلك الخائن قد نال جزاء ما جنته يداه وكان الناس إنما يرمقونه ببعض الاحترام مراعاة لمنصب والده فما كاد يتوفى الحارث حتى نبذ نبذ النواة وصار مضغة في الأفواه ومن أثقل المصائب عليه أن يعلم بمجيئك ونيل مرامك ولا أظنه يسمع باقترانك حتى يقع ميتا لشدة لؤمه وحسده قبحه الله». وكان جبلة يتكلم ولحيته تهتز وعيناه تتقدان غضبا مع محاولته إخفاء ما في نفسه وتخفيف ما به فلما أتم كلامه أخذ يتلاهى بتمشيط لحيته بأصابعه ويشاغل نظره بالالتفات إلى خيل مربوطة خارج القصر كانت تتزاحم وتتضارب.
أما الحضور فأنهم لبثوا بعد إتمام حديثه سكوتا تهيبا من غضبه ولكن قلوبهم كادت تطفح سرورا بما قاله عن ثعلبة. ثم وجه جبلة خطابه إلى سعدى قائلا: «اسقينا شيئا نرطب به أجوافنا ونشربه نخب اجتماعنا فرحا بقدوم صهرنا سالما». فقالت: «إلا ترى أن نجلس إلى المائدة فتناول الطعام والمدام معا».
قال: «حسنا تفعلين».
فصفقت فجاء غلام. فقالت: «هل تمت معدات الطعام؟»
قال: «نعم يا مولاتي».
فنهض جبلة ومشي فتبعه الجميع حتى دخلوا غرفة مدت فيها الأسمطة وعليها الأطباق والمواعين وكلها من الذهب أو الفضة فجلسوا يأكلون ويشربون والفرح شامل لهم.
فلما فرغوا من الطعام وقاموا عن المائدة تقدم جبلة إلى حماد وأشار إليه أن اتبعني فتبعه حتى خرجا من القصر وجعلا يتمشيان في بعض طرق الحديقة فلما خلوا قال جبلة: «اعلم يا حماد انك الآن بمنزلة ولدي وقد قسم الله أن تكون صهرا لي وهذا أمرا حسبه من حظ هند لأنك شهم يفتخر بشهامته وشجاعته ما يربو على الافتخار بالحسب والنسب. وقد تركت إليك تعيين زمن الاقتران ولكنني أوجه التفاتك إلى أمر واحد وهو أن هندا كما تعلم وحيدة ليس لنا ولد سواها فيشق علينا فراقها فاشترط عليك إذا تم الاقتران أن تقيم عندنا أنت ووالدك ومن تريده من ذويك فتنزلون على الرحب والسعة فان البلاد تحتاج إلى من يتولاها وليس لي ولد ذكر فإذا أحسنت السياسة مع القبائل اجتمعوا بعدي تحت لوائك وكنت ملكا عليهم».
فلم يعد يعرف حماد كيف يشكر نعمه ولكنه وقف وكانا ماشيين فوقف جبلة فقال حماد: «إن هذه النعم وهذه الشيم مما يقصر لسان الناس عن أداء الشكر عليها. إن شرطا اشترطموه يا عماه إن هو إلا نعم أنعمت بها على جزاك الله عني خيرا. أما وقت الاقتران فلا يمكننا تحديده الآن لدواع لا أخفيها عنك».
قال: «وما هي؟»
قال: «لعل مولاي رأى طول شعري لما لبست الدرع يوم السباق».
نامعلوم صفحہ