183

فحكى سلمان حكايته مع حماد والأسد وكيف نجوا منه بتسلق تلك الشجرة وما تم لهم بعد ذلك من حديث هند ووالدتها ووالدها وحب حماد لها ثم ما كان من خطبة حماد وما اقترحه عليه جبلة بن الأيهم مهرا لابنته وما لاقاه حماد في سبيل ذلك من الأسفار والأخطار حتى جاؤوا مكة وشهدوا فتحها وكيف يئسوا من وجود القرطين هناك حتى تجدد أملهم بوجودهما في خزينة النعمان بن المنذر في الحيرة.

وكان عبد الله في أثناء الحديث مصغيا صامتا وأمارات الاستغراب ظاهرة على وجهه كأنه سمع أمورا لم يكن يتوقع حدوثها ولا يرضاها ولكنه سكن عن ذلك وأخذ يقص عليهم حديثه فبدأ بوقوعه بالأسر في غسام ثم مسيرة إلى بيت المقدس. ومقابلته هرقل إمبراطور الروم وما سمعه من حديث أبي سفيان ثم سفره معه وما كان من مشاهدته الفرس واستدلاله منها على ضياع حماد وكيف رافقه أبو سفيان في مسبعة الزرقاء للتفتيش عن حماد وما شاهدوه من عظام الفرس الآخر وبعض الآثار حتى انتهى إلى مسيرة منفردا إلى عمان ووقوعه أسيرا بين يدي الحجازيين الذين ساروا لمحاربة أهل الشام وما دار بينه وبين بعضهم عن السبب الذي جاءت تلك الحملة من أجله إلى أن قال: «فلبثت أسيرا عندهم وأنا على مثل الجمر لأن أملي لم ينقطع من لقاء ولدي حماد على إني كنت في بعض الأحايين لا أرتاب من فقده وأحيانا أراجع ما شاهدته من الأدلة على ذلك فلا أرى ما يقطع بوقوع القضاء فكان سجني في معسكر جيش الحجاز قيدا ثقيلا علي وخصوصا أنهم متبعوا القرى عني فقد كنت أستأنس به فبعد إن قضيت مدة بجوار عمان علمت ذات يوم أن الروم قد جندوا جندا كبيرا يبلغ عدده نحو مئتي ألف وفيهم الروم والعرب من بني غسان ونجم وجذام وبهرام فلما بلغ المسلمين ذلك خافوا الفشل لأن عددهم لا يزيد على ثلاثة آلاف فضلا عما في جند الروم من العدة والسلاح وبلغني أن أمراء جند المسلمين اجتمعوا في خيمة ابن رواحة أحد أمرائهم وتشاوروا في الأمر فقال أكثرهم: «نكتب إلى رسول الله في المدينة نخبره الخبر فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له» فقام فيهم ابن رواحة وخطب خطابا أنهض هممهم فقال: «يا قوم والله أن التي تكرهون لهي التي خرجتم إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا إنما هي إحدى الحسنيين أما ظهور وإما شهادة.» فقال الناس: «والله صدق ابن رواحة» واشتدت عزائمهم وصمموا على الحرب وكنت أعجب لبسالتهم وإقدامهم واتحاد كلمتهم واستهلاكهم في سبيل نصرة دينهم.

فبعد أيام نودي بالجند فقاموا وسرت أنا فيهم مخفورا أرى كل حركاتهم وسكناتهم فما زلنا سائرين حتى دنونا من بلدة على رحلتين من بيت المقدس يقال لها مؤتة وكان جند الروم قد عسكر هناك فالتفت إلى ذلك الجند فإذا هو مالئ السهول هناك وفيهم الفرسان والمشاة ورأيت في وسط المشاة مشاة عليهم ملابس كثيرة الألوان تبهر النظر تتلألأ في ضوء الشمس فلم أكن أظن الحجازيين ينظرون إلى ذلك الجند حتى يعودوا القهقرى وجلا ومهابة ولكن رأيت فيهم ثباتا لم أر مثله في أسفاري كلها وما ذلك إلا لوثوقهم بربهم وعدم مبالاتهم بأنفسهم في سبيل نصرة دينهم.

وخلاصة القول أن المسلمين تقدموا تحت قيادة ثلاثة من الأمراء ساروا أمامهم مشاة على أقدامهم وما ذلك إلا لاستهلاكهم في الجهاد والطاعة حتى التقى الجيشان وانتشبت الحرب وكان اللواء أولا بيد أخدهم زيد بن حارثة فقاتل وهو يعلم ضعف الجند ولكنه ظل مكافحا حتى قتل طعنا بالرماح فتقدم الأمير الثانى وهو جعفر بن أبي طالب فقاتل به وهو على فرس شقراء فألجمه القتال وأحاط به فنزل عن فرسه وبقرها وقاتل حتى قتل فأخذ اللواء عبد الله بن رواحة وهو على فرسه ثم نزل عن فرسه وحارب حتى قتل فوقع الرعب في قلوب المسلمين وكادوا يفشلون لو لم يقم فيهم رجل لم أر مثله باسلا اسمه خالد بن الوليد وسمعت بعضهم يسميه سيف الله فجمع كلمة الجند وهجم هجمة واحدة فظن الروم أن نجدة قد جاءتهم فاستولى الخوف على جند الروم وفشلوا وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا ولكنهم لم يبقوا على الحرب فعاد المسلمون يريدون المدينة وكنت أنا في أثناء هذه الموقعة في حيرة شديدة ولو كانت الحياة عزيزة علي لفررت من المعسكر ساعة اشتغال المسلمين بالحرب ولكنني وددت أن أصاب بنبلة أقتل بها فلم يقض الله بذلك فلما عاد المسلمون إلى هنا عدت أنا معهم أسيرا فأصابني في أثناء الطريق انحراف صحي فأصبحت وشعر لحيتي يتساقط وكذلك شعر شاربي حتى لم يبق منه إلا القليل فلما وصلت المدينة التقيت بشاعرنا (وأشار إلى حسان) فتعارفنا ودعاني للإقامة في داره فأقمت عنده كما ترون وفي أثناء ذهاب الجند إلى مكة للفتح الذي شهدتموه زارني الحرث بن كلدة طبيب العرب فوصف لي دهنا من عشب فأخذ الشعر ينمو وأرجو أن يعود إلى ما كان عليه».

الفصل الثالث والخمسون

يوم الشعانين

فلما أتم عبد الله حديثه هنأوا بعضهم بعضا بالسلامة ثم قال حماد: «وأين فرسي الآن».

قال: «هو معي هنا فهل تريد أن تراه».

قال: «نعم» وخرجوا إلى بستان بالقرب من المنزل وكان الجواد مشدودا إلى نخلة فلما وقع نظره على صاحبه أخذ في الصهيل كأنه يرحب بقدومه وتقدم حماد إليه فلمس جبهته وقبله بين عينيه ثم عادوا جميعا والفرح ملء قلوبهم إلا حماد فأنه عاد إلى هواجسه في هند وأبيها والقرطين فلما وصلوا المنزل وجلسوا نظر عبد الله إلى حماد وقال له: «العلك لا تزال مصمما على الاقتران بهند».

قال: «نعم يا أبتاه ولا أظنني قادرا على العدول عنه بعد أن كان ما كان».

نامعلوم صفحہ