وأقام الفرس ينظرون إلى هؤلاء المغامرين، فلما رأوا عاصما وأصحابه توسطوا النهر أرسلوا فرسانا ليمنعوهم من الخروج وليقاتلوهم في الماء، ودنوا من عاصم حين دنا من الفراض، فقال عاصم لأصحابه: الرماح، الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون، وارتدت خيول الفرس حين أصابت الرماح عيونها، فلم يملك فرسانها دفعها ليلقوا هؤلاء الذين خاضوا غمار الموت في لجة النهر لا يبالون ما يصيبهم، ولم يصب أحد من كتيبة الأهوال بأذى، بل خرج عاصم على رأسها إلى الشاطئ ففر الفرس أمامه، وأدركه القعقاع على رأس الكتيبة الخرساء فلم يبق على الشاطئ من الفرس أحد.
ورأى سعد بن أبي وقاص تحكم أصحابه في فراض المدائن، فأمر فرسانه فاندفعوا جميعا ألوفا مؤلفة إلى لجة النهر من حيث اقتحمه عاصم، وامتلأ النهر بالخيل، فلم يكن ماؤه في هذه الساعة ليرى، وأمر عاصم أصحاب الزوارق والسفن من الفرس فدفعوها إلى جانب بهرسير، فنقلت من جيش المسلمين من لم يعبر على جواده، فلما عبر سعد بالجيش كان أهل المدائن جميعا قد فروا، ولم يبق منهم إلا من تحصنوا بالقصر الأبيض ، ولم يقاوم هؤلاء، بل قبلوا أداء الجزية، وفتحوا أبواب القصر للمسلمين.
هذه معجزة من معجزات الحروب لا يكاد العقل يصدقها، فيقول ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن يتم وصفها: «وكان يوما عظيما وأمرا هائلا، وخطبا جليلا، وخارقا باهرا، ومعجزة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع.» وهذه العبارة للمؤرخ الإسلامي تصور شعوره وتصور شعورنا حين ترتسم أمامنا هذه الفعال الباهرة وهذا الإقدام فاق كل إقدام، وهل كلمة غير المعجزة تصح وصفا لهذه الأعمال؟ وأية معجزة كأن تقتحم كتيبة الأهوال النهر وعاصم على رأسها، وأن تقتحم الكتيبة الخرساء النهر والقعقاع على رأسها، ثم لا يخشى رجل في الكتيبتين أن يبتلعه الموج أو أن يرميه الفرس من الشاطئ الآخر بالنبال! لكنه الإيمان بالنصر يسمو بالنفس إلى حيث تصبح الحياة ويصبح الموت أمامها ألفاظا يتساوى مدلولها في سبيل الغاية التي تريد دركها، ولم يكن للمسلمين صبر على المدائن، فهم يريدون أن يقتحموها وإن بذلوا لفتحها كل ثمن، وإن بذلوا لفتحها مهجهم وأرواحهم؛ لذا قال الفرس حين رأوهم: إنا لا نقاتل إنسا بل نقاتل جنا لم يثبتوا لهذا الجن الذي جاءهم من خلل الموج وكأنه بعض قوى القدر التي تزلزل الأرض وتدك الجبال، أليست البراكين والصواعق من قوى القدر؟ كذلك كانت الكتيبتان، وكذلك كان سعد وسائر الجيش إذ اندفعوا إلى النهر فرقة بعد فرقة يحيلون لجة مائه خيولا وفرسانا، كيف لقوة أن تثبت أمام هذه القوة! وماذا يصنع الفرس، وقد انحلت قواهم وتحطمت روحهم، إلا أن يفروا أمام هذا الجن الذي جاءهم فملأ نفوسهم رعبا وفزعا! «هذه معجزة لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع.» تلك ألفاظ ابن كثير، ولولا أن تيمورلنك أتى بمعجزة مثلها إذ عبر جيشه النهر سابحا حين هاجم بغداد في العقد الأخير من القرن الرابع عشر المسيحي، لتردد بعضهم في تصديقها، بل إن البلاذري ليذكرها في شيء من الحذر، ويضيف إليها روايات يراها أدنى إلى أن تصدق، من ذلك رواية أبان بن صالح إذ يقول: «انتهى المسلمون إلى دجلة وهي تطفح بماء لم ير مثله قط، وإذا الفرس قد رفعوا السفن والمعابر إلى الجيزة الشرقية وحرقوا الجسر، فاغتم سعد والمسلمون إذ لم يجدوا إلى العبور سبيلا، فانتدب رجل من المسلمين فسبح فرسه وعبر فسبح المسلمون، ثم أمروا أصحاب السفن فعبروا الأثقال، فقالت الفرس: والله ما تقاتلون إلا جنا فانهزموا.» ومنه رواية أبي عمرو بن العلاء إذا يقول: «لم يجد سعد معابر فدل على مخاضة عند قرية للصيادين، فأخاضوها الخيل، فجعل الفرس يرمونهم، فسلموا غير رجل من طيئ لم يصب يومئذ غيره.»
أنت لا ريب ترى ما في هذه الروايات من احتياط يشعر بأن أصحابها يترددون في التسليم بالرواية التي سقناها وأجمع عليها الطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولكن هذا الاحتياط لا ينفي هذه الرواية ولا يثبت ما يعارضها، وإنما هو احتياط من يرى فيها عجبا يدعو إلى شيء من الشك فيها، ولو أن هؤلاء الذين تشككوا عاشوا إلى أواخر القرن الرابع عشر المسيحي وعرفوا أن تيمورلنك عبر دجلة بجيشه، كما عبر سعد بجيشه؛ لانقضى عجبهم وزال من نفوسهم كل شك في الرواية التي اجتمعت الأقوال عليها، بل لما رأوا عجبا فيما يدعو منها إلى العجب، ولأيقنوا أن سعدا «اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملئوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده ... وأن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد، ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل كانت علاقته رثة فدفعه الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه ... وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي، فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال له سلمان: ذللت لهم والله البحور كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا، فخرجوا منه كما قال سلمان لم يغرق أحد ولم يفقدوا شيئا.»
وخرج جيش المسلمين من الماء تنفض خيوله أعرافها صاهلة، ودخلوا المدائن فلم يجدوا إلا من تحصن بالقصر، ذلك أن يزدجرد كان قد أخذ سائر أهله وما قدر عليه من الأموال والمتاع وفروا إلى حلوان، ودعا سعد من تحصنوا بالقصر لينزلوا فنزلوا، ودخل بجنده، وجعل يجيل بصره فيما احتواه هذا القصر المنيف من نفائس ومتع ويتلو قوله تعالى:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .
ما أعظم هذا الفتح وأجله! فهذه مدينة كسرى وهذا إيوانه، وهؤلاء هم جنود شبه الجزيرة المجدبة الجرداء يسيرون تولاهم البهر خلال جنات القصر بين أزهار يانعة وأشجار باسقة وتمر وفاكهة وأعناب شتى ألوانها، لم تقع أعينهم على مثلها، وينتقلون من الحدائق إلى الأبهاء فيزيدهم ما فيها بهرا، نقوش جل جمالها وجلت دقتها عن الوصف، وأثاث لم يروا في دمشق نظيره، وطنافس من حرائر فارس طرزت بالذهب والفضة، وأسباب الترف والنعمة جمعت إلى هذا الإيوان من بدائع صنع الشرق في مختلف أرجائه، أي شيء هذا كله! وهل يجزي الشكر لله عنه؟! لكن سعدا وأصحابه لا يملكون غير الشكر لله على ما فتح عليهم؛ لذلك صلى سعد شكرا لله صلاة الفتح، ثماني ركعات بتسليمة واحدة، ثم أمر أصحابه فجاءوا بعيالات المسلمين من الحيرة ومن سائر مدن العراق وقراه، فأنزلهم في المدائن.
ونزل سعد قصر الأكاسرة وأقام به، واتخذ الإيوان مصلى، وترك ما به من تماثيل قائما لم يحركه ، وما له يحركها ولم تكن إلا بعض الزخرف الذي ازدان به القصر وازدانت به أبهاؤه جميعا، وإن خص الإيوان منه بأكثره بهاء وروعة! وقد كسا الزخرف وكست النقوش جدران القصر من مستوى الأرض إلى أعلى العقود، ثم تركت الجدران التي تبدو للنظر من الخارج ملساء ساطعة البياض.
نامعلوم صفحہ