أفأراد عمر بكتابه أن يبعث سعد رسله إلى رستم، أم إلى يزدجرد؟ وإلى أيهما سار الرسل بالفعل؟ هنا تختلف الروايات: فيجري بعضها بأن الرسل تحدثوا إلى رستم، فلما أخفقت رسالتهم وقعت القادسية، ويذهب بعضها إلى أن الرسل ذهبوا وفدا إلى يزدجرد بالمدائن فأخفقت رسالتهم فكانت القادسية، وتجري رواية ثالثة بأن الرسل ذهبوا إلى رستم، فلما لم تنجح مهمتهم ذهبوا وفدا إلى يزدجرد فلم يكونوا أكثر توفيقا في إقناعه، فعادوا من المدائن ليشاركوا إخوانهم المسلمين في غزوة القادسية.
ولعل وفد المسلمين ذهب إلى يزدجرد بالمدائن قبل أن يلقى أحدا منه رستم بالقادسية، فقد كان رستم لا يزال بساباط على مقربة من المدائن كما رأيت، ولم يكن قد سار منها إلى القادسية ليقف قبالة سعد وجيشه على ضفة الفرات الأخرى، وكان رستم يبطئ في مسيرته تنفيذا للسياسة التي أشار بها على يزدجرد؛ لذلك اكتفى حين بلغ ساباط بما بعثته مسيرة جيشه من الطمأنينة إلى نفوس أهل السواد، ثم بعث إلى أهل الحيرة وإلى غيرهم من أهل المدن المنتشرة من أسفل السواد إلى أعلاه يعاتبهم لتزعزع عقيدتهم في قوة دولتهم ولفزعهم من العرب، ويعدهم أنه ممزق شمل هؤلاء العرب، وملق بهم إلى صحاري شبه الجزيرة؛ فلا تحدثهم أنفسهم بالعودة إلى العراق أبدا.
أما سعد فلم يكن له من تنفيذ أمر عمر بد؛ لذلك بعث ليزدجرد وفدا فيه أهل الرأي والسياسة والشجاعة، بينهم النعمان بن مقرن، وفرات بن حيان، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، والمغيرة بن شعبة، والمعنى بن حارثة وغيرهم من أمثالهم، وأمرهم أن يدعوه إلى الإسلام، فإذا أبى فالمناجزة، وبلغ الوفد المدائن، فعجب أهلها حين رأوا رجاله عجافا، وجعلوا ينظرون إلى أشكالهم ، وإلى أرديتهم على عواتقهم، والسياط في أيديهم والنعال في أرجلهم، وإلى خيولهم الضعيفة وخبطها الأرض بأرجلها، ويتساءلون بينهم: كيف يقدم هؤلاء على غزونا ويطمعون في الظفر بنا واقتحام عاصمتنا؟! واستأذن الوفد على يزدجرد، فاستدعى وزراءه واستشارهم، ثم أذن للوفد فدخل عليه، فقال لهم في كبرياء وعظمة: «ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أتراكم اجترأتم علينا لما تشاغلنا بأنفسنا؟» فأجابه النعمان بن مقرن وذكر له بعث الله رسوله في العرب وما جاء به من عند الله، ودعاه إلى الإسلام، ثم قال له: «فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتموها فالمناجزة.» وختم كلامه بقوله: «فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتم بالجزية قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.»
كبر على يزدجرد أن يسمع مثل هذا القول، ولكنه آثر الحكمة والحلم مقرونين إلى الحزم فقال: «إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون في أن تقدموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم كثرته، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.» وسمع الوفد هذه المقالة فسكتوا، عند ذلك قام المغيرة بن شعبة فقال: «أيها الملك، هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به قالوه، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عنه، فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي، فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد ...» وذكر له من سوء عيش العرب وإرسال الله رسوله إليهم على نحو مقالة النعمان بن مقرن، ثم قال: «اختر: إن شئت الجزية، وإن شئت السيف، أو تسلم فتنجي نفسك.»
لم يطق يزدجرد الصبر على ما سمع فقال وقد أخذ منه الغضب: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي!» ثم أمر من جاء بوقر من تراب فقال: «احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور!»
لم يفزع الوفد لغضب يزدجرد ولم تنخلع قلوبهم لوعيده، بل قام عاصم بن عمرو فحمل التراب على عاتقه وهو يقول: «أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء.» وسار يحمل التراب فخرج من الإيوان، إيوان كسرى، فركب راحلته وانطلق وأصحابه حتى بلغوا القادسية ودخلوا على سعد بحصن فديك، وقص عاصم بن عمرو ما حدث وكيف حملوا أرض فارس ثم قال: «أبشروا فقد والله أعطانا الله مقاليد ملكهم.»
يتفق مؤرخو العرب جميعا على رواية ما حدث بين يزدجرد ووفد سعد، ولا يقع بينهم خلاف إلا على بعض العبارات التي تبادلها الفريقان، ويذهب بعض المستشرقين إلى أن هذه الروايات وضعت من بعد، إن لم يكن في جوهرها، فعلى الأقل في تفاصيلها، ونحن لم نورد هنا من هذه التفاصيل إلا أقلها، ويستشهد المستشرقون على ما يقولونه بأن هؤلاء المؤرخين المسلمين لا يفوتهم في كل مناسبة يتصل فيها وفد من المسلمين بغيرهم من المجوس أو من النصارى أن يجروا على لسان المتكلمين من المسلمين حديث العرب قبل بعث النبي وما كان بينهم من عداوة وبغضاء، وما كانوا فيه من بؤس وشقاء، حتى إذا بعث الله رسوله إليهم بالهدى ودين الحق ألف بين قلوبهم وأغناهم من جوع، وأفاء عليهم من الخير ما لم يعرفه آباؤهم وأجدادهم، مع أن من هؤلاء المسلمين من كانوا يعيشون قبل الإسلام في رخاء ونعمة، كأهل اليمن وأهل البلاد التي تشاطئ الخليج الفارسي، لقد نسب المؤرخون مثل هذه الأقوال إلى المسلمين الذين هاجروا في عهد النبي إلى أرض الحبشة، وذلك حين دعاهم النجاشي وسألهم عن سبب خروجهم على دين قومهم، وقد نسبوا مثلها إلى المسلمين الذين ذهبوا إلى أرض العراق واتصلوا بأهله في عهد أبي بكر، ثم نسب ما يشبهها إلى خالد بن الوليد حين لقي جرجة القائد الرومي في موقعة اليرموك، وها هم أولاء ينسبون مثلها إلى الوفد الذي لقي يزدجرد، أفلا يدل ذلك على أن هذه الأقوال وضعت في أزمان متأخرة لغايات سياسية، وأنها أجريت على ألسنة المسلمين الأولين دعاية للإسلام من ناحية، وتثبيتا لسلطان أمير المؤمنين من ناحية أخرى؟
ويضيف المستشرقون، تأييدا لنقدهم، أن المؤرخين المسلمين لا يتورعون عن رواية أمور هي أدنى إلى الخرافة، من ذلك أن يزدجرد دعا إليه أولي الرأي ودعا رستم من ساباط، وذكر لهم ما كان بينه وبين وفد المسلمين وقال: إنه استحمق أشرفهم لحمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره، فقال له رستم: إنه ليس بأحمق، وليس هو بأشرفهم، وإنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، وتطير رستم لما سمع، وخرج من عند الملك غضبان كئيبا، ذلك أنه كان منجما دلته النجوم على أن الذين خرجوا من المدائن بترابها إنما خرجوا معهم بأرض فارس، وليتقي مغبة هذه النبوءة بعث في أثرهم رجلا وقال: «إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا.» ولما لم يدركهم الرجل ازداد رستم تطيرا، واستهجن رأي الملك وفعله.
لكنه مع ذلك لم يستطع أن يخالف الملك حين أمره أن يسير لمواجهة المسلمين، ذلك أن يزدجرد قال له: «لتسيرن أو لأسيرن بنفسي.» وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفا، وخرج هو في ستين ألفا، وجعل على الميمنة الهرمزان وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي، ثم إنه كتب إلى أخيه البندوان يقول: «أما بعد فرموا حصونكم واستعدوا وأعدوا فكأنكم بالعرب قد قارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تنقلب سعودهم نحوسا.» وبعد أن ذكر ما يرى من ذلك في النجوم ختم كتابه بقوله: «ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما يلينا.» مع ذلك تابع سيره وكأنما يدفعه القدر كارها إلى حتف فارس وحتفه.
يرى المستشرقون هذه الرواية عن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة ، ويجدون فيها تأييدا لنقضهم رواية المؤرخين المسلمين عما دار بين وفد سعد ويزدجرد، ولا أراني أميل ميلهم وإن كنت لا أتهمهم فيه.
نامعلوم صفحہ