وإذا كان عمر أمر برد السبي من أهل الردة إلى عشائرهم فكسب بذلك قلوبهم، فقد أقبلوا سراعا من كل حدب يلبون دعوته يريدون أن يأخذوا في الحرب بنصيب يطهرهم من سابق ردتهم، ويجعل لهم ولذويهم من مغانم الحرب ما لسائر المسلمين؛ لذلك اطمأن عمر إلى توفيق الله في معالجة الموقف الدقيق لجيوش المسلمين خارج شبه الجزيرة، فاتجه بتفكيره إلى ناحية أخرى لا تخالف سياسة رسول الله وسياسة الصديق في أساسها، وإن خالفت هذه السياسة في بعض تفاصيلها.
ذلك أن رسول الله دعا الناس كافة إلى دين الله، لم يفرق في دعوته بين أهل الكتاب وغيرهم، وقد رأى يهود المدينة في هذه الدعوة خطرا عليهم، فوادعوا محمدا وعاهدوه على حرية العقيدة، لكنهم ما لبثوا حين رأوه يستقر له الأمر أن ائتمروا به، فقاتلهم وأجلاهم عن المدينة وعن أكثر منازلهم من شبه الجزيرة، ولم يبق منهم إلا قليلون بعد غزوة خيبر صالحوه على البقاء بأرضهم والعمل فيها على أن يكون للمسلمين النصف من غلاتها، أما نصارى نجران فبعثوا وفدا يجادل النبي، فلما دعاهم ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، تولوا وعادوا إلى بلادهم، ثم إنهم بعثوا إليه وفدا صالحه على الجزية يدفعونها لقاء دفاع المسلمين عن حرية عقيدتهم، فلما تولى أبو بكر أقر نصارى نجران وعاهدهم على ما عاهدهم النبي عليه، واقتضى يهود خيبر ما كان يقتضيهم رسول الله.
ونظر عمر في الأمر يوم استخلف فاتجه فيه وجهة جديدة، فقد دعا إليه يعلى بن أمية وألقى عليه أن يجلي نصارى نجران عن ديارهم، وقال له: «إيتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجل من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من يجلى منهم، ثم خيرهم البلدان، وأعلنهم أنا نجليهم بأمر الله ورسوله ألا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرج من أقام على دينه منهم، ثم نعطيه أرضا كأرضهم إقرارا لهم بالحق على أنفسنا، ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك بدلا بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم من الريف.»
يحسب بعضهم أخذ عمر بهذه السياسة نقضا لما صنعه رسول الله وما تابعه الصديق عليه، والمستشرقون يذهبون لذلك في التحامل على عمر إلى حد لومه على ما صنع، أما المؤرخون المسلمون فيلتمسون له المعاذير، فيذكر بعضهم أن رسول الله إنما عاهد نصارى نجران على ألا يفتنوا عن دينهم «ما رعوا العهد، ونصحوا، ولم يأكلوا الربا»، وإنهم أكلوا الربا أضعافا مضاعفة، فنقضوا العهد، فحق لعمر أن يجليهم عن شبه الجزيرة، ويذكر آخرون أنهم اختلفوا فيما بينهم واشتد خلافهم، فطلبوا إلى عمر أن ينقلهم إلى ديار غير ديارهم، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أنهم قويت شوكتهم، فخشيهم عمر فأجلاهم، وسواء أصح بعض ما روي من ذلك أم لم يصح كله، فإنه في رأيي لم يكن السبب في تصميم عمر على إجلائهم عن شبه الجزيرة، وإنما يرجع السبب في ذلك إلى تكييف عام لسياسة الدولة اقتنع به عمر فنفذه في حزم وعدل.
ولكي نقدر هذا التكييف يجب أن ننفي عن عمر تهمة التعصب كما يلقيها عليه المستشرقون! فهم يذكرونها متخذين من اقتناع أهل هذا العصر الحاضر بمبدأ حرية العقيدة حجة لهم في مؤاخذة عمر بما صنع، وهذا خطأ أدى إليه تجاهل الواقع، فالواقع من عصر عمر أن العقيدة كانت أساسا جوهريا في حياة الجماعة، فكان المخالفون لعقيدة الجماعة أو الخارجون عليها يعدون في حكم الأجانب عن الجماعة، بل في حكم الخارجين عليها، وكان حربهم لذلك حلا لصاحب الأمر بل واجبا عليه، ولهذا حورب محمد في دعوته إلى الله وإلى دين الله، ولهذا شبت حروب شعواء بين الروم والفرس بسبب العقيدة، وقد ظل الأمر على هذا في أوروبا وغير أوروبا إلى عهد غير بعيد منا، ففي سبيل العقيدة شبت الحروب الصليبية بين النصارى والمسلمين، وفي سبيلها حدثت المآسي والمجازر بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد عاهد رسول الله نصارى نجران؛ لأن شبه الجزيرة لما تكن وحدتها السياسية قد تمت، فكانت نجران لصيقة باليمن التي ظلت على وثنيتها زمنا غير قليل بعد هذا العهد بين محمد وهؤلاء النصارى، فلما قبض رسول الله وخلفه أبو بكر، كانت اليمن في طليعة من انتقض على سلطان المدينة وارتد عن الإسلام، فكان طبيعيا أن يعاهد الصديق نصارى نجران على ما عاهدهم رسول الله عليه، وقد قضت حروب الردة على الانتقاض وعلى الردة جميعا، وأدى القضاء عليهما ثم أدى ما تلاهما من غزو العراق والشام إلى توطيد الوحدة السياسية والوحدة الدينية في أرجاء شبه الجزيرة جميعا، فأصبحت كلها دولة واحدة، عاصمتها المدينة، وحاكمها خليفة رسول الله، وكذلك تولى عمر أمر المسلمين وقد زالت الأسباب التي أدت إلى معاهدة نجران في عهد النبي وفي عهد الصديق، وآن لعمر أن يفكر تفكيرا جديدا في سياسة دولة اتحدت أجزاؤها من شمال شبه الجزيرة إلى جنوبها، وأصبحت المدينة عاصمتها لا ينازعها منازع.
أما وقد أصبحت بلاد العرب دولة متحدة تدين كلها بدين واحد، ويسوسها رجل رضي أهلها جميعا بيعته، فجدير بأميرها أن ينفي عنها كل سبب للضعف أو الوهن، ومن أسباب الوهن لأمة أن تتعدد أجناسها أو تتعدد الشرائع ذات السلطان النافذ بين أهلها، ذلك أمر أقره الناس ولا يزالون يقرونه، ولذلك نرى المعاهدات المختلفة إلى أحدث العصور تنقل الجماعات من أهل الجنس الواحد إلى صعيد واحد، ولذلك لا تبيح أمة متحضرة أن يقوم فيها أكثر من تشريع واحد، والإسلام يتناول فيما يتناوله أمورا لا تتفق ومقررات النصرانية، فهو يحرم الربا، والنصرانية لا تحرمه، ويحرم الخمر، والنصرانية لا تحرمها! وهو دين التوحيد، والنصرانية دين تثليث، وقد كانت هذه المقررات وما إليها نافذة يومئذ لا يستطيع أحد أن يتسامح فيها كما يتسامح الناس فيها اليوم باسم حرية العقيدة، فلم يكن عجبا أن يصر عمر على ألا يترك بجزيرة العرب دينين وقد أصبح للعرب في شبه الجزيرة كلها دين واحد ارتضوه في عهد رسول الله وعادوا إليه بعد ما ارتد بعضهم عنه في عهد أبي بكر، فوحدة الدين هي الكفيلة بطمأنينتهم وبمتانة وحدتهم، وبألا تقوم بينهم وبين من لم يكونوا على دينهم ثائرات تجني على الطمأنينة أو تعبث بالوحدة، وهذا ما فعل؛ ولهذا دعا إليه يعلى بن أمية وألقى عليه أن يجلي نصارى نجران.
وتصرف عمر في هذا الأمر خليق بالحمد، غير خليق بالتحامل ولا باللوم، فهو لم يلجأ إلى ما لجأ إليه أصحاب الكثرة من الكاثوليك أو البروتستانت؛ إذ كانوا يرهقون خصومهم في المذهب حتى ليقتلوهم بعد أن يذيقوهم العذاب ألوانا؛ بل كان أول ما أوصى به يعلى ألا يفتن نصارى نجران عن دينهم، وأن يدع لهم الحرية كاملة في البقاء عليه أو التحول عنه إلى الإسلام، وأن يعطيهم أرضا كأرضهم خارج شبه الجزيرة، بذلك لا يظلمهم ولا يصنع معهم إلا ما تصنعه الدول المتحضرة اليوم، إذ تنقل أهل جنس من الأجناس إلى حيث تقيم كثرة من بني جنسهم، وحيث يأمنون أن يضرهم الاختلاف في الجنس مع جيرانهم أشد مما يضر الكثرة الضخمة القائمة من حولهم.
لم يرتب الناس بعد ما عرفوا من أمر عمر بإجلاء نصارى نجران في أنه سيجلي اليهود ويجلي غير المسلمين جميعا عن شبه الجزيرة، وقد كانت هذه السياسة جديدة، لكنهم لم ينكروها ولم يعجبوا لها، بل لعلهم كانوا أكثر عجبا لتولية أبي عبيد الثقفي إمرة الجيش بالعراق وفيه من فيه من أهل المدينة مهاجريهم والأنصار، ثم كانوا أكثر من ذلك عجبا لعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش بالشام، لكنهم رأوا عمر يأخذ الأمر بالحزم والعدل معا، وذكروا مواقفه من رسول الله ومن أبي بكر، ثم ذكروا موقف المسلمين ودقته بالعراق والشام، ورأوه يخطبهم منكرا نفسه متجردا لله في سبيل خيرهم جميعا، فآثروا أن يدعوا له الأمر وأن يلقوا عليه التبعة، وأن يضرعوا إلى الله بالدعاء أن يوفقه كما وفق أبا بكر قبله.
ولم يكن ما يخطبهم عمر به أقل من سائر الاعتبارات أثرا في نفوسهم؛ فقد كان إخلاصه يتجلى في عباراته، وكان إنكاره لنفسه وتجرده لله في سبيل خيرهم تنم عنهما كل كلمة من كلماته، كان يقول لهم:
إني لأرجو أن عمرت فيكم، يسيرا أو كثيرا أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، وألا يبقى أحد من المسلمين، وإن كان في بعثه، إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله.
نامعلوم صفحہ