أدى إصرار عمر على رأيه في خالد أن يتسقط كل هناة له، وأن يطلب إلى الصديق مؤاخذته بها، تزوج خالد إثر انتصاره باليمامة بنتا بكرا، فكتب الصديق يعنفه ويقول له: «لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ! تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!» ونظر خالد في الكتاب فقال: هذا عمل الأعيسر، والأعيسر عمر بن الخطاب، ولما فتح العراق وبلغ فيه منازل هذيل وقضى عليهم، قتل رجلين معهما كتاب من أبي بكر بإسلامهما، ورأى عمر في مقتلهما ما يؤاخذ خالد به، وقال عن الرجلين: «كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب.»
يرى بعضهم عجبا أن يثور عمر بخالد كل هذه الثورة، وخالد خال عمر، وخالد سيف الله وناصر دينه، وقد يزيل هذا العجب ما يرويه بعض المؤرخين من أن عمر كان سيئ الرأي في خالد من قبل إسلامه، وكان سيئ الرأي فيه حياته،
4
ولعل عمر لم ينس لخالد غزوة أحد وموقفه منها، وانتصار المشركين على المسلمين بمهارته فيها، ثم مهاجمته رسول الله لولا أن وقف عمر في وجهه وصده عن غرضه، ومهما يكن من شيء فالثابت أن ابن الخطاب لم يحبب خالدا وإن لم يمنعه ذلك من تقدير قدرته والإعجاب بعبقرية قيادته، وكان خالد يبادل عمر هذا الشعور، ويرى إصبعه في كل أمر يجيئه من الخليفة لا يوافق هواه، وذلك قوله حين نقله أبو بكر من العراق إلى الشام: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.»
من حقك أن تعجب لهذا الاختلاف الواضح بين أبي بكر وعمر في أمر خالد بن الوليد، لكن من الحق عليك أن تعجب بهذين الرجلين العظيمين كيف لم يغير هذا الاختلاف البين من مودتهما ومن وثيق تعاونهما لخير الإسلام والمسلمين، فقد ظل عمر على ولائه لأبي بكر وعلى عهده معه، يؤدي واجبه في الإدلاء بالمشورة، وينفذ أمر الخليفة بإخلاص تام في كل ما يعهد الخليفة إليه في تنفيذه، وقد ظلت ثقة الصديق بعمر كما كانت، ولم يعرها وهن ولم تتغير في قليل ولا كثير، وهذا الإخلاص المتبادل وهذه الثقة الأكيدة هما ملاك النظام في الدولة ومصدر بأسها وقوتها، ولذلك بلغت المملكة الإسلامية في عهد هذين الرجلين شأوا لم يتح لمملكة غيرها في العالم كله، وظل اسم أبي بكر واسم عمر في صحف التاريخ علما على الصدق والأمانة والقوة، ولا يدانيه في الجلال والعظمة علم غيره.
أبى أبو بكر أن يقيد من خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة وتزوجه من ليلى، ووجهه إلى اليمامة، فكان نصره فيها حاسما، وكان إيذانا من الله بالقضاء على الردة في أرجاء شبه الجزيرة جميعا، وإن استشهد فيها من المسلمين ألف ومائتان، وقد جزع أهل المدينة لمن استشهدوا، وكان عمر بن الخطاب من أشدهم جزعا لمقتل أخيه زيد، حتى لقد واجه ابنه عبد الله حين رجع إلى المدينة بقوله: «ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عني!» وأجاب ابنه في صدق وإيمان: «سأل الله الشهادة فأعطيها؟ وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.»
على أن جزع عمر لمقتل أخيه لم يثنه عن التفكير في أمر هو أجل الأمور في حياة الإسلام والمسلمين خطرا، فقد كان فيمن استشهد عدد من حفاظ القرآن، فما عسى أن يكون الأمر إذا تلاحقت الغزوات فقتل فيها مثل من قتل من الحفاظ باليمامة؟ فكر عمر في هذا الأمر حتى استقر رأيه، ثم ذهب إلى أبي بكر وهو بمجلسه من المسجد، فقال له: «إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.»
فوجئ الصديق بهذا الاقتراح فكان جوابه: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟» وأيد عمر رأيه بالحجة فأقنع أبا بكر، فدعا زيد بن ثابت وذكر له ما دار بينه وبين عمر، ثم قال له: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه.» وتردد زيد كما تردد أبو بكر، ثم شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقام فتتبع القرآن يجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، وكذلك كانت مشورة عمر هي التي أدت إلى جمع القرآن وإلى بقائه كما جمع من يومئذ، حتى ليقول عنه المستشرق الإنجليزي وليم ميور: «والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.»
نامعلوم صفحہ