على أن عمر لم يلبث حين راجعه صوابه أن عاد الرجل السياسي، فأخذ يفكر في مصير المسلمين بعد الحادث الفاجع، وقد كان لتفكيره ولتصرفه في مواجهة هذا الموقف الدقيق من الأثر ما رد عن الإسلام كل عادية، وما مهد لانتشاره في الخافقين.
هوامش
الفصل الرابع
في عهد أبي بكر
أيقن عمر أن رسول الله قد مات، فأخذ يفكر في مصير المسلمين من بعده، وكان الأمر جديرا بأعمق التفكير؛ فلو أن العرب تنازعوا أمرهم بينهم لأصاب الإسلام شر ما له من دافع، فقد كان البعيدون عن مكة والمدينة، في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة، لا يخفون برمهم بسلطان قريش وسلطان المدينة، وبرمهم بهذا السلطان هو الذي أثار الأسود العنسي في اليمن، وهو الذي دفع بني حنيفة من أهل اليمامة ليتابعوا مسيلمة بن حبيب حين زعم أنه نبي، ودفع بني أسد ليتابعوا متنبئهم طليحة بن خويلد، فما عسى أن يكون مصير الإسلام بعد رسول الله إذا لم يحزم المسلمون أمرهم، ولم يواجهوا هذا الحادث الجلل بوحدتهم وثبات عزمهم؟
فكر عمر في هذا الأمر لأول ما أيقن أن رسول الله قد مات، وسرعان ما تبين في وضوح أن الأمر إذا ترك فلم يتوله في الحال من ينهض به ويدبر سياسة المسلمين، أوشك المهاجرون والأنصار أن يختلفوا، وأوشكت الثورة أن تضطرم في بلاد العرب كلها؛ لذا أسرع يشق طريقه خلال المجتمعين بالمسجد يتحدثون في وفاة رسول الله، وسار حتى أتى أبا عبيدة عامر بن الجراح، فقال له: «ابسط يدك أبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله.» ووجم أبو عبيدة حين سمع مقالة عمر، وأدرك ما أدركه من ضرورة البت العاجل في أمر المسلمين، لكنه لم يرض رأي عمر، بل حدق فيه وقال له: «ما رأيت لك فهة
1
قبلها منذ أسلمت! أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين!» وإن الرجلين ليتبادلان الرأي في هذا الأمر الخطير إذا جاءهم النبأ بأن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يريدون أن تكون الإمارة على المسلمين لهم، عند ذلك أسرع عمر فأرسل إلى أبي بكر في بيت عائشة ليخرج إليه، ورد أبو بكر الرسول يقول: «إني مشتغل.» لكن عمر رأى أمر المسلمين أخطر من أن يترك لحظة أو يشغل عنه شاغل ولو كان جهاز رسول الله؛ لذا بعث كرة أخرى يقول لأبي بكر: «إنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره.»
وخرج أبو بكر يسأل: أي أمر يمكن أن يصرفه عن جهاز رسول الله؟ قال عمر: «أما علمت أن الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير؟» ورأى أبو بكر خطر الموقف ، فأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة يريدون السقيفة.
فلما بلغوها تولى أبو بكر مجادلة الأنصار في حزم ورفق، أما عمر فأقام إلى جانبه ينتظر ما يصير إليه الأمر، فلما رأى الحباب بن المنذر يحرض الأنصار ليثوروا إن لم يكن منهم أمير ومن المهاجرين أمير قام فقال: «هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم! ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم! ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة!» ورد الحباب يطلب إلى الأنصار إجلاء المهاجرين عن المدينة أو يتولوا عليهم الأمر، ثم وجه الحديث إلى المهاجرين الثلاثة يقول: «أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة.» فصاح به عمر: «إذن يقتلك الله!» ورد الحباب: «بل إياك يقتل!»
نامعلوم صفحہ