3
فحدت عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله.»
هذه الكلمة التي قالها عمر هي أول ما يروى عنه في هذه الغزوة التي وجهت تاريخ الإسلام وتاريخ العالم كله وجهة جديدة، وهي تصور الأثر الذي تركه الإسلام في نفس عمر أدق تصوير، ففي سبيل هذا الدين يجب أن يستهين الإنسان بكل شيء، ويجب ألا يتردد حين القتال إذا واجهه أخ أو قريب، إنه يقدم حياته لله وفي سبيل الله، فليس له أن يتردد لأي اعتبار دون ما ينصر دين الله.
وأسر المسلمون سبعين من قريش أكثرهم من ساداتها وذوي المكانة فيها، فكان عمر بن الخطاب أشد المسلمين على هؤلاء الأسرى وأحرصهم على أن يقتلوا، وقد طمع الأسرى في الحياة وأن يفتدوا، فبعثوا إلى أبي بكر أن يكلم رسول الله ليمن عليهم أو يفاديهم، ووعدهم أبو بكر خيرا، وخافوا أن يفسد عمر عليهم أمرهم، فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل قولهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرا، وتحدث أبو بكر إلى رسول الله ليمن على هؤلاء الأسرى أو يفاديهم فيأخذ منهم ما يأخذ قوة للمسلمين، أما عمر فكان الشدة كل الشدة والبأس غاية البأس، قال: «يا رسول الله! هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، هم رءوس الكفر وأئمة الضلالة، يوطئ الله بها الإسلام ويذل بهم أهل الشرك.»
واستشار رسول الله المسلمين في هذا الأمر فانتهوا إلى قبول الفداء، وأفدى النبي الأسرى وأطلق سراحهم، لكن الوحي ما لبث بعد ذلك أن نزل بقوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .
وكذلك كان عمر محدثا فيما أبدى من رأي عن أسرى بدر، كما كان محدثا في أمر النداء بالأذان للصلاة، وبذلك زاد في نظر النبي وفي نظر المسلمين قدر رأيه وزادت عند النبي وعند المسلمين رفعة مكانته.
وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان سهيل خطيبا بالغ الحجة، فلما رأى عمر مكرزا يفتديه، أسرع إلى رسول الله يقول: دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، وأجابه رسول الله: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا.» وعبارة عمر صريحة الدلالة في إصراره على رأيه وألا يترك القادرون من هؤلاء الأسرى يعودون لمناوأة المسلمين، وهو قد أصر على هذا الرأي مع ما كان من إقرار جماعة المسلمين قبول الفداء.
نزل الوحي مؤيدا رأي عمر في أمر الأسرى، فزاد ذلك عمر قربا من النبي ومكانة عنده، وأصبح وزيره كما كان أبو بكر وزيره، وكانت حفصة بنت عمر زوجا لخنيس بن حذافة أحد السابقين إلى الإسلام، وقد فارقها خنيس قبل بدر بأشهر، فتزوجها رسول الله كما تزوج عائشة بنت أبي بكر من قبل، وربطت المصاهرة بينه وبين عمر، وأتاحت لابن الخطاب أن يتردد عليه، كما كان أبو بكر يتردد عليه.
استدار العام وخفت قريش تأخذ لثأرها من بدر، وأشار الناس على رسول الله بالخروج لملاقاتهم بظاهر المدينة عند أحد، ودخل رسول الله بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه درعه، وتقلد سيفه وسار في أصحابه يواجه عدوه، وانتصر المسلمون أول النهار، ثم دارت الدائرة عليهم حين خالف الرماة أمر رسول الله فنزلوا من مراكزهم فوق الجبل يشاركون الناس في الغنيمة؛ فقد دار خالد بن الوليد بفرسان قريش وراء المسلمين، ثم صاح صيحة ردت قريشا لمهاجمة محمد وأصحابه وهم في شغل بجمع أسلاب الموقعة، واضطرب المسلمون لهجوم قريش وتداعت صفوفهم، ثم زادهم تداعيا أن صاح مشرك: إن محمدا قد قتل؛ فقد خيل إلى المسلمين حين سمعوا هذه الصيحة أنهم لم يعد لهم ولا للدين الذين آمنوا به بقاء، وما بقاء هذا الدين ثم ما بقاؤهم وقد وعد الله رسوله النصر، وهذا رسول الله يقتل بيد المشركين، وهؤلاء أصحابه يهزمون ويفتك المشركون بهم! بل لقد ألقى رجال من كبار المهاجرين والأنصار بأيديهم وتولاهم اليأس، فانتحوا ناحية من الجبل جلسوا فيها، وانتهى أنس بن النضر إلى مجلسهم ذاك، فألفى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وطائفة من المسلمين معهم وهم في اضطرابهم ويأسهم لا يدرون ما يصنعون، عند ذلك هتف بهم: «ما يجلسكم؟» قالوا: «قتل رسول الله.» قال: «فماذا تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه.» ثم استقبل المشركين، فقاتلهم قتالا شديدا، وأبلى في قتالهم أحسن البلاء، ولم يقتل حتى ضرب سبعين ضربة أزالت معالمه، فلم يعرف جثمانه بعد موته إلا أخته، عرفته ببنانه.
نامعلوم صفحہ