وكذلك أسلم عمر عن بينة بعد أن تبين ما لهذا الدين من أثر قوي في نفوس المؤمنين به، يتعدى أفرادهم إلى حياة الجماعة ونظامها؛ لذلك دخل في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، وحرص على أن يكون لجماعة المسلمين نظام يدافعون عنه كما تدافع قريش عن نظامها، فما لبث حين أسلم أن عمل على أن يذيع في قريش كلها إسلامه، روي أنه قال: «لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت على أبي جهل بابه، فخرج إلي فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي! ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله! وقبح ما جئت به!»
وكان عبد الله بن عمر يوم أسلم أبوه غلاما يعقل ما يرى: وقد ذكر من حرص أبيه على إذاعة إسلامه، وتحديه قريشا في ذلك فيما روي عنه أنه قال: «لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، حتى إذا وقف على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ! فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، عند ذلك ثاروا به، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيا عمر فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأقسم بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا، فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟! قالوا: صبأ عمر! قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلوا عن الرجل، فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه ...»
فلما هاجر عمر سأله ابنه عبد الله: يا أبت! من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ فقال عمر: ذاك يا بني العاص بن وائل السهمي.
والعاص بن وائل السهمي هو أبو عمرو بن العاص، وقد بلغ من حمايته عمر حين أسلم أكثر مما رأيت، توعدت قريش عمر بعد أن انفضت عنه، فبات في داره خائفا يترقب، قال عبد الله بن عمر: فبينما هو في الدار خائف إذ جاءه العاص بن وائل السهمي وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال عمر: زعم قومك أنهم سيقتلونني أن أسلمت، قال: لا سبيل إليك، وبعد أن قالها أمن عمر، فقد خرج العاص من عنده فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فسألهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: قد صبأ عمر فما ذاك! فأنا له جار! فتفرق الناس.
ولم يكن عجبا أن يجير العاص عمر بن الخطاب بعد الذي قدمنا من جوار بني سهم لبني عدي بن كعب في الجاهلية، وذلك حين نافس بنو عدي بني عبد شمس فغلبوا على أمرهم، وأجلاهم بنو عبد شمس عن منازلهم عند الصفا، واضطروهم إلى جوار بني سهم، وقد زاد هذا الجوار عمر جرأة في إسلامه، وتحديا لقريش، ودفعا لأذاها عن المسلمين، بذلك زادت شخصيته بروزا واعتداده بنفسه ظهورا، فكان له من المواقف ما لم يكن لغيره ممن سبقه إلى الإسلام، وما يسجله له المؤرخون تسجيل ثناء عليه وإعجاب به أي إعجاب.
روي أن عمر راح يسأل النبي: يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «بلى! والذي نفسك بيده إنكم على الحق إن متم أو حييتم.» قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن! فما لبث النبي أن خرج في صفين أحدهما فيه عمر والآخر فيه حمزة، ولهما كديد
1
كأنه الطحين، فدخلوا المسجد وقريش تنظر وتعلوها كآبة، فلا يجرؤ سليط منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان.
نامعلوم صفحہ