وأدرك عمرو شريكا والذين معه، وسار في قوته الكاملة تاركا فرع رشيد عن يمينه، متابعا الفرع الكانوبي المؤدي إلى الإسكندرية، وعلم أن الروم أعدوا للقائه عند سلطيس على ستة أميال إلى الجنوب من دمنهور، فقصد إليهم واشتبك معهم، ودار بين الفريقين قتال شديد انتهى بهزيمة الروم، وما كان لهم ألا ينهزموا وليس ثم حصون يمتنعون بها! ولقد فروا بعد هزيمتهم فلم يقفوا بدمنهور، بل لم يقفوا دون حصون كريون آخر سلسلة من الحصون قبل الإسكندرية، وهناك انضموا إلى سائر جيش الروم، وتأهب الجميع للقتال يقودهم تيودور.
وقدر تيودور قائد الروم الأكبر في مصر أنهم إن ينهزموا بكريون تنكشف العاصمة أمام العرب، فيغريهم ذلك بحصارها والتضييق عليها، ولئن كانت حاميتها قوية والدفاع عنها يسيرا، فإن الخير كل الخير في الحيلولة بين الغزاة وبلوغ أسوارها ما كان إلى هذه الحيلولة سبيل؛ لذلك خرج بنفسه إلى كريون في جند عظيم اطمأن به إلى قدرته على الوقوف عندها وصد الغزاة دونها، وزاد في اطمئنانه أن الروم كانوا قد رمموا حصون كريون وزادوها قوة، وأن ترعة الثعبان أمامها كانت تحمي المدافعين عنها، وأن الطريق بينها وبين الإسكندرية كان معبدا يحمل المدد الكثير إذا أحوج الأمر إلى مدد، وإذ عرف الروم في الموقع المحيطة بكريون أن الموقعة حاسمة، وأن لها لذلك ما بعدها، فقد أقبلوا من كل حدب ينسلون يعززون تيودور وجنوده، أقبلوا من خيس ومن سخا ومن بلهيب ومن غيرها من البلاد، وانضموا إلى صفوف الإمبراطورية يؤيدونها ويزيدونها بأسا وقوة .
كم كان عدد الجند الذين بلغ بهم عمرو كريون؟ لم يذكر المؤرخون ما يفيد أن أمير المؤمنين بعث إلى مصر غير الاثني عشر ألفا الذين سبق أن ذكرناهم وقد خاض هؤلاء معارك عدة قتل منهم فيها لا ريب عدد غير قليل، وقد ترك عمرو منهم مسالح في البلاد التي فتحها ليحفظوا الأمن والنظام فيها، وليكفلوا السكينة في ربوعها، أتراه استعان بالبدو الضاربين في صحاري مصر شرقا وغربا على نحو ما فعل بعد انتصاره في الفرما؟ يتعذر القول بأي من هذين الاحتمالين، وأغلب الظن أن أمير المؤمنين أمد عمرا بمدد جديد بعد ظفره بحصن بابليون وحين أذن له في السير إلى الإسكندرية، ولم يكن إمداده في ذلك الوقت متعذرا؛ فقد كانت مسالح البصرة والكوفة هي التي تمد جيوش المسلمين في فارس، وكانت الشام قد سكنت إلى حال من الطمأنينة لم يبق معها خوف من انتقاض أهلها بحكامهم، وكان الروم في شغل بمصر عن محاولة الرجعة إلى الشام أو مهاجمة ثغوره، فضلا عن اشتغالهم بما فشا من الدسائس في بلاطهم، فإذا ذكرنا مع ذلك كله أن عمر لم يضن يوما على أمراء جنده في مختلف الميادين بمدد، وأنه وعد ابن العاص أن يمده إذا دخل مصر، كنا في حل من القول بأنه أرسل إليه الجند تلو الجند بعد الذي صادفه من نجاح في فتح مصر، وأن عمرا سار إلى الإسكندرية وفي إمرته ما يزيد على خمسة عشر ألفا إن لم يزد على عشرين ألفا.
ولعله قد استعان بالمصريين وبالبدو في تعبيد الطرق وحراستها، وفي المجيء بالميرة إلى جيشه، بل لعله قد استعان بمن اطمأن إليه منهم، وجعله في المسالح التي تشرف على الأمن وتحفظ النظام، أما الجند المقاتلون الذين كانوا يلقون الروم في المعارك فكانوا جميعا من العرب المسلمين.
التقى عمرو والروم في كريون، واشتد القتال بين الفريقين شدة لم تؤلف فيما سبقها من المعارك، وظلوا كذلك حتى فصل بينهم الظلام ولم يظفر أي الفريقين بخصمه، بل لعل الروم كانوا أرجح في ذلك اليوم كفة لكثرة عددهم، ولاستماتتهم في الدفاع عن مواقعهم، ولأن حصون كريون كانت تحمي ظهورهم وتشد أزرهم، واستحر القتال منذ الصباح إلى اليوم التالي ثم انفصل الفريقان في آخره كما انفصلا في اليوم الأول، وظل القتال دائرا على هذا النحو بضعة عشر يوما، ترجح فيه كفة المسلمين تارة، وترجح كفة الروم تارات، وقد أظهر الروم فيه من ضروب البراعة ومن شدة البأس وصلابة العود ما أدخل الروع إلى نفوس المسلمين، حتى لقد صلى عمرو يوما صلاة الخوف ركعة وسجدتين مع كل طائفة من جنده، على أن بأس الروم لم يذهب عزم المسلمين ولم يضعف روحهم، بل زادهم حماسة وإقبالا على الموت، كان وردان مولى عمرو بن العاص يحمل اللواء في مقدمة المسلمين، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقاتل إلى جانبه، وأصابت عبد الله في أحد أيام المعركة جراحات بالغة هاضته وأجهدته، فالتفت إلى جاره وقال له: «يا وردان! لو تأخرت قليلا نصيب الروح!» يريد فترة يتنفس فيها وينفس بها عن نفسه، فأجابه وردان، وهو يندفع أمامه واللواء في يده والحماسة آخذة منه «الروح تريد، الروح أمامك وليس خلفك.» واندفع عبد الله لسماع هذا الجواب يقاتل متقدما غير عابئ بجراحه، وعرف أبوه ما أصابه، فبعث رسولا يسأل عن حاله، فكان جواب عبد الله أن تمثل بقول ابن الإطنابة:
أقول لها إذا جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
ورجع الرسول إلى عمرو بجواب عبد الله، فرضي عنه وقال: هو ابني حقا، وبهذا الصبر، وبهذه الحماسة، وبهذا الإقبال على الموت لا يهابونه، فتح المسلمون مدينة كريون وحصنها وهزموا الروم عنها.
كيف كان انتصارهم؟ وماذا كانت فعالهم؟ وكيف انهزم الروم بعد الذي أبدوه من براعة وأظهروه من بأس وقوة احتمال؟ ذلك ما لا يذكر المؤرخون عنه شيئا، مع اتفاقهم على أن معركة كريون دامت عشرة أيام أو بضعة عشر يوما، وأن الفريقين كانا يريانها حاسمة بينهما، وكل ما يذكره ابن عبد الحكم، بعد الذي قدمنا من صلاة الخوف ومن جراحات عبد الله بن عمرو، قوله: «تم فتح الله للمسلمين وقتل منهم المسلمون مقتله عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية.» وتلك هي بعينها عبارة السيوطي ومن أخذوا عن ابن عبد الحكم، وهذا القول على إيجازه، وعلى أنه لا يصف فعال المسلمين وكيف كان انتصارهم، صريح في أن هزيمة الروم كانت تامة منكرة، أما بتلر فيشتم من رواية حنا النقيوسي أن تقهقر الروم إلى الإسكندرية كان وئيدا مع أن رواية حنا كما أوردها بتلر لا تزيد على أن عمرا أرسل جيشا عظيما من المسلمين إلى الإسكندرية فملكوا كريون، فسار من فيها مع قائدهم تيودور إلى الإسكندرية.
وهذا الإيجاز في تصوير معركة حاسمة دامت عشرة أيام أو أكثر، يوجب الشيء الكثير من الأسف، فمعرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين وهزيمة الروم لها من غير شك قيمتها في الدلالة على الحالة النفسية للفريقين من ناحية، وعلى الحالة النفسية للشعب المصري بإزاء الفريقين من ناحية أخرى، لقد استأسد الروم في أول الأمر وكانت الإسكندرية تمدهم كلما احتاجوا إلى المدد، فما بالهم تقاعسوا في نهايته مع أنهم كانوا أضعاف المسلمين في العدد، وكانوا في منعة بحصونهم وبالمدد الذي تبعثه العاصمة لهم؟ أفكان ذلك الضعف في قيادتهم ومهارة في قيادة عدوهم؟ أم كان سببه وصول أنباء إلى الإسكندرية بتفاقم الاضطراب في عاصمة الإمبراطورية، وأن هذه الأنباء بلغت الجند في كريون فأضعفت معنوياتهم؟ أم أن العرب وصلتهم أمداد قووا بها فاقتحموا على عدوهم حصونه؟ أم شعر المسلمون بحرج موقفهم فتعاهدوا على النصر أو الموت، كما فعلوا باليمامة وباليرموك، فلم يستطع الروم في حرصهم على الحياة أن يصدوا هجمة المسلمين؟ أم كان للشعب المصري أثر في موقف الفريقين بأن عاون العرب على الروم، فكان لهذه المعاونة أثرها؟ قد يكون لبعض هذه العوامل، وقد يكون لها جميعا أثر في النتيجة التي انتهت المعركة إليها، وقد يكون ثم عوامل أخرى، لا اتصال لها بها، هي التي أدت إلى هذه النتيجة، نحن لا نستطيع على كل حال أن نثبت أن عاملا بذاته كان سبب النصر؛ لأن المؤرخين الذين أسهبوا ما أسهبوا في تصوير القادسية، وفي تصوير اليرموك، وفي تصوير نهاوند، لم يذكروا شيئا فيه غناء يمكن الاطمئنان إليه في بيان العوامل والأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين وهزيمة الروم في كريون.
نامعلوم صفحہ