ما السبب في قعود المقوقس عن إمداد حامية الفرما؟ هذا سؤال يرد بخاطر كل مؤرخ، ويذهب بتلر إلى أنه لا يجد ما يفسر به هذا القعود إلا خيانة قيرس لقيصر، طمعا منه في فصل بطرقة الإسكندرية وشقها عن القسطنطينية، بالاتفاق مع العرب وإعانتهم على دولته، وبتلر لا يدعم هذا الرأي بأي سند، من الواقع، بل يستنبطه من الحوادث استنباطا، وفي رأينا أنه مذهب أملته عاطفة مسيحية، ولم تمله حقيقة تاريخية، إذ لما يكن قيرس قد رأى أحدا من العرب ليتفق معه، وهو قد ثبت من بعد لقتال عمرو والمسلمين في بابليون وفي الإسكندرية، فالقول بأنه خان دولة الروم لغاية في نفسه استنباط مصدره العاطفة وليس له من منطق التاريخ سند.
ونحن نرى أن القعود عن إمداد حامية الفرما يرجع إلى أكثر من سبب وأول هذه الأسباب شعور الروم في مصر بعداوة الشعب المصري لهم عداوة لا يسهل التكهن بما يمكن أن تتنفس عنه، فلو أنهم بعثوا بقواتهم المعسكرة في مصر أو في الإسكندرية للقتال في الفرما ثم ثار المصريون بهم لفت ذلك في أعضادهم، ولما كان إمداد الفرما لينقذهم من شر هذه الثورة في المدن الكبرى، ثم إنهم كانوا يذكرون هزائمهم أمام المسلمين في سورية وفي فلسطين، وكانوا لذلك لا يريدون المغامرة بمقاومة هؤلاء الجبابرة في ميدان لا يثقون بقدرتهم على المقاومة فيه، لهذا آثروا أن يتحصنوا ببابليون على مقربة من مصر ومن منف ليكون النيل خندقا بينهم وبين عدوهم، وأن يقتصر أمرهم في الفرما وفي غيرها من البلاد الصغيرة الحصينة على وقف العرب أطول زمن حتى تتاح لهم الفرصة لتقوية حصونهم في المراكز الرئيسية، فإذا غامر العرب من بعد وبلغوا مدينة مصر صدتهم حصونها عن التقدم، وربما أمكن القضاء عليهم، فكان ذلك كافيا لصرفهم عن مصر وصدهم عن التفكير في العودة إليها.
قد يكون هذا التفكير خاطئا من الناحية الحربية، لكن الحوادث التي وقعت من بعد تدل على أنه كان تفكير المقوقس وأصحابه في الفترة الأولى من دخول العرب مصر، فقد انضم إلى عمرو بعد فتح الفرما جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية طمعوا في مغانم القتال، فعوضوا المسلمين عمن فقدوا في أول حصار ضربوه بمصر، ثم إن عمرا سار منحدرا إلى الجنوب ملازما هذه التخوم فتخطى مدينة مجدل القديمة إلى موضع «القنطرة» اليوم، ومن ثم اتجه غربا إلى القصاصين، وتابع مسيرته جنوبا بغرب حتى بلغ بلبيس، وفي الطريق الطويل الذي قطعه فرسان المسلمين في أرض مصر لم يكن عمرو «يدافع إلا بالأمر الخفيف» على تعبير ابن عبد الحكم ومن أخذ عنه من مؤرخي العرب، وهؤلاء المؤرخون يروون أن راعيا من البدو الموالين للمسلمين دنا من منازل قرية في طريق عمرو، فسمع نفرا من القبط يقول أحدهم: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم وهم في قلة من الناس! ويجيب آخر: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، وهذا السير الطويل وهذا الحديث الذي يتناقله المصريون صريح في الدلالة على أن المقوقس وأصحابه لم يكونوا مطمئنين لولاء المصريين، وأنهم لذلك آثروا التحصن عند مدينة مصر على مواجهة الغزاة في هذه الأرض المكشوفة المتاخمة للصحراء، فلم يلق المسلمون من يعترض طريقهم أو يدافعهم «إلا بالأمر الخفيف» حتى بلغوا بلبيس وصاروا على ثلاثة وثلاثين ميلا من مدينة مصر وحصونها.
يتفق المؤرخون على أن المسلمين أقاموا ببلبيس شهرا قاتلوا في أثنائه عدوهم وظفروا به، لكنهم يختلفون: أكان القتال بين الفريقين عنيفا أم أن المسلمين لم يلقوا فيه من بأس الروم أكثر مما لقوا مذ غادروا الفرما، وتذهب بعض الروايات إلى أن المقوقس بعث إلى عمرو، أول ما نزل بلبيس، من يفاوضه ليرجع عن مصر، وأن عمرا تحدث إلى الأساقفة المفاوضين عن بعث الله رسوله بالحق، وأنه
صلى الله عليه وسلم
أمر أصحابه بالإعذار إلى الناس، «فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.» وفطن الأساقفة إلى أن عمرا يشير بصلة الرحم إلى هاجر أم إسماعيل، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء! ثم أضافوا: آمنا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكم ثلاثة أيام لتنظروا وتناظروا قومكم وإلا ناجزتكم فاستزادوه فزادهم يوما ثم يوما خامسا، ورجع الملأ إلى المقوقس فحدثوه بحديث عمرو فأبى القائد الأطربون إلا مناجزة المسلمين، وقال الأساقفة المفاوضون للناس وقد رأوا مخاوفهم: «أما نحن فنسجهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام فلا تصابون فيها بشيء إلا رجونا أن يكون له أمان.»
سار الأطربون عقب هذا الحديث في اثني عشر ألفا كاملي العدة حتى يأخذ المسلمين ببلبيس على غرة، ولقد فجاهم وبيتهم بياتا شديدا، لكن عمرا كان الحذر كل الحذر، وكان كل جيشه فرسانا في عدة القتال؛ لذلك حميت المعركة بين الفريقين، فيما يذكر أصحاب هذه الرواية، فقتل فيها من العرب عدد ليس بالقليل، وخسر الروم ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير، ثم انهزم الأطربون وتمزق جيشه، ويقال إنه قتل.
لماذا أقام عمرو شهرا كاملا ببلبيس؟ وهل أقام هذا الشهر قبل لقائه جند الروم وظفره بهم، فلما تم له النصر سار يريد مدينة مصر؛ أم أنه أقام هذا الشهر بعد انتصاره يدبر خطته ويفكر في موقفه، فلما اطمأن إلى تدبيره تابع مسيرته؟ ليس في المراجع التي وقفت عليها ما يكشف عن ذلك، وكل ما استطاع بتلر أن يستنبطه من بحوثه في تواريخ الفتح العربي أن جيش عمرو كان بالعريش في عيد الأضحى من السنة الثامنة عشرة للهجرة، وهذا التاريخ يوافق 12 ديسمبر سنة 639، وأنه فتح الفرما حول 20 يناير سنة 640 بعد حصار دام شهرا، وأنه بلغ هليوبوليس في الأيام الأخيرة من شهر أبريل لتلك السنة، فهو إذن قد بلغ بلبيس في شهر فبراير، ثم أقام بها معظم شهر مارس، لكن إيراد هذه التواريخ لا جواب فيه عما تسأل عنه، وأنت تستطيع أن تجيب استنباطا أن المفاوضين المصريين جاءوا عمرا أول ما نزل ببلبيس، وأن الموقعة بينه وبين الأطربون كانت في الأيام الأولى من مقامه بها، فلما تم له النصر لم يسارع إلى السير، بل أقام حتى يطمئن إلى ولاء البلاد المحيطة به، وأنه بقي لذلك شهرا اتصل فيه بالمصريين وكسب ولاءهم، لكنك تستطيع أن تجيب استنباطا كذلك بأنه أقام ببلبيس هذا الشهر قبل أن يجيئه المفاوضون المصريون، وأنه كان ينتظر أن يجيئه المدد الذي وعده الخليفة به في أثناء هذا الشهر، فلما سار الأطربون إليه فقدر عليه وظفر به، أراد أن يستفيد مما بعثه النصر إلى نفوس جنده من حماسة، وإلى نفوس عدوه من اليقين بأن المسلمين لن يغلبهم غالب، فسار يريد مدينة مصر راجيا أن يفتحها الله عليه ويوطئه أكنافها.
أفجاءه المدد الذي كان ينتظره قبل أن يلقى الأطربون فتغلب عليه وهذا المدد معه، أم أنه ظفر به وليس معه إلا الجند القليل الذي بقي له بعد الفرما والبدو الذين انضموا له وعوضوه عمن فقدهم في حصارها؟ الظاهر من الروايات أن المدد لم يجئه إلا بعد انتصاره ببلبيس ومسيرته منها، يقول ابن عبد الحكم ويتابعه السيوطي وابن تغري بردي: «فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين، فقاتلوه بها قتالا شديدا وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف.» وظاهر هذا النص صريح في أن عمرا غادر بلبيس بعد انتصاره على الأطربون قبل أن يصله المدد، وأنه هزم الأطربون وعدة جيشه اثنا عشر ألفا بأربعة آلاف من الذين كانوا معه من العرب ومن بدو مصر.
سار عمرو من بلبيس متاخما الصحراء حتى نزل قريبا من قرية «أم دنين» على النيل عند مأخذ خليج تراجان الذي يصل مدينة مصر بالبحر الأحمر عند السويس، وكانت أم دنين تقع في موضع حي الأزبكية من أحياء القاهرة اليوم، وكانت حصينة يجاورها مرفأ على النيل فيه السفن كثيرة، وكانت تقع إلى الشمال من بابليون، حصن مدينة مصر الأعظم، فكانت مسلحتها لذلك طليعة الدفاع عن هذه المنطقة العزيزة على المصريين ومقر ملكهم في عهد الفراعنة الأقدمين، وكان حصن بابليون حصنا رومانيا منيعا يقع موقع مصر القديمة اليوم، وكان متين البنيان قوي الأسوار، قاومت متانته أحداث الزمن فلم ينقض بنيانه إلا في العشرين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر المسيحي، ثم بقيت مع ذلك منه أطلال لا تزال تشهدها أعيننا، وعلى أميال قليلة إلى الجنوب من هذا الحصن كانت تقع مدينة منف الخالدة الذكر الباقية الأثر، منف عاصمة مصر حين كان العالم كله يتطلع إلى مصر على أنها مهبط الوحي ومستقر الحضارة فيه، وقد بقي لمنف كل جلالها حتى نافستها الإسكندرية بهاء وجلالا، وظلت تفاخر الإسكندرية بما حولها من تراث ضخم خلفه زوسر ورمسيس وفراعنة مصر أيام أظلت العالم حضارة مصر، كما كانت تفاخرها بالأهرام وبالمقابر العظيمة القائمة حولها، وكان اسم مصر يطلق على مدينة منف أو على مدينة تقابلها على الجانب الآخر من النيل نما أمرها وزاد سكانها حتى كانت تسمى باسم منف في بعض الأحايين، وفي الصحراء الغربية الذاهبة بين منف والجيزة كانت تتصل سلسلة من الأهرام ذات العظمة والجلال، تتلاحق حتى تنتهي إلى هرم خوفو والهرمين المجاورين وأبي الهول الرابض تحت سفوحها يرقب بعيون ثابتة مطلع كل شمس، وقد قامت كلها قبالة حصون الروضة وبابليون وأم دنين.
نامعلوم صفحہ