تقع سجستان إلى الشمال من مكران، وكان عمر بن الخطاب قد عقد لواءها لعاصم بن عمرو، فقصد إليه ولحقه عبد الله بن عمير بها، ولقي أهل سجستان غزاتهم على تخوم بلادهم، فلم يثبتوا لهم بل انسحبوا إلى الداخل وتحصنوا بزرنج عاصمتهم، وحصرهم المسلمون بزرنج، ثم بثوا كتائبهم تغير على ما حول العاصمة وتغنم وتسبي، وأيقن المدافعون عن زرنج أن طول الحصار أضر بإقليمهم، فطلبوا الصلح على أن تكون مزارع سجستان حمى لا يطؤها المسلمون، وقبل المسلمون ما طلبوا، ثم كانوا إذا ساروا تحاموا الأرض خشية أن يصيبوا منها شيئا فينقضوا العهد، فتقوم لأهل سجستان الحجة عليهم فلا يدفعوا الخراج، وبذلك حفظ كل من الفريقين عهده وقام بواجبه.
كيف أسرعت سجستان إلى التسليم وهي فيما يقول المؤرخون: «أعظم من خراسان وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة»؟ أيسر التعليل أنهم رأوا كسرى يسرع إلى الفرار كلما رأى جيوش المسلمين مقبلة على مكان يقيم به، فكان طبيعيا أن يقتدوا به وألا يقاوموا مقاومة تجر عليهم النكال، فلم يقاومون والملك الأعظم لا يقاوم! ثم لم يضحون بأرواحهم، والملك الأعظم لا يضحي براحته!
ترى أيقاوم الملك الأعظم في مقره الأخير بخراسان؟ لم يكن له إلا أن يفعل! فلو أنه فر من خراسان كما فر من حلوان ومن الري ومن أصبهان ومن كرمان لما بقي له في أرض فارس ملجأ، ولكان بين أن يسلم نفسه لأعدائه وينزل على حكمهم كما فعل الهرمزان، أو يتخطى تخوم بلاده إلى بلاد التتار أو بلاد الصين، فيقيم في حماية عاهلها يلتمس منه العون، فإما أعانه فنصره على عدوه فرده إلى ملكه ، وإما تباطأ عنه فقضى في مقره حياة عار ومذلة لا نجاة له منها إلا أن يموت بائسا حزينا.
كان يزدجرد مقيما بمرو حين تخطى الأحنف بن قيس تخوم خراسان على رأس القوات التي عقد له عمر بن الخطاب لواءها، وخراسان بلاد واسعة؛ تتاخم العراق العجمي من الغرب، وأفغانستان والهند من الشرق، وتقع كرمان وسجستان إلى جنوبها وتمتد في الشمال إلى أقصى تخوم إيران، ومن أمهات مدنها نيسابور وهراة ومرو وبلخ، وكانت خراسان في ذلك العهد ذات ثروة زراعية، كما كانت تصنع بها المنسوجات القطنية والحريرية النفيسة، وقد طمع يزدجرد حين أقام بها يحرض أهلها، في أن تصد الغزاة عما بقي له من أرض آبائه وأجداده، ونسي أو تناسى أنه جمع قوات فارس كلها وقذف بها إلى نهاوند، فدارت الدائرة عليها، وحطمها المسلمون هناك كل محطم.
والواقع أن المؤرخين المسلمين لم يبالغوا حين سمو غزوة نهاوند فتح الفتوح؛ فلم يكن الفرس يثبتون بعدها للمسلمين في الوقائع الكثيرة التي دارت في شمال فارس وفي جنوبها، ولم تكن خراسان أكثر من غيرها ثباتا، دخلها الأحنف بن قيس من الطبسين، فلم يلق مقاومة تذكر حتى بلغ هراة، وهراة مدينة عظيمة قائمة في قلب خراسان، تحف بها الجبال من كل جانب، وتتشعب المياه في دورها وطرقاتها، ولها تجارة واسعة جعلتها من أكثر المدن رخاء وثروة، وأتاحت لها أن تحتفظ داخلها بأقوات تكفيها الشهور الطوال، ثم إنها كانت إلى مناعة موقعها الطبيعي، محصنة تحصينا زادها منعة، فكان بها حصون كثيرة تحيط بها، وسور يرد غائلة المعتدين عليها، مع هذا كله لم يطل وقوف الأحنف بن قيس أمامها، بل فتحها عنوة فدانت له وصالحته.
كان سقراط هراة نذيرا بسقوط خراسان كلها، وقد خلف الأحنف فيها كتيبة من جنده، وبعث بقوات إلى نيسابور وإلى سرخس، وسار بنفسه على رأس الجيش يريد مرو الشاهجان حيث يقيم يزدجرد، ومرو هذه تقع إلى شمال هراة وتقع نيسابور بينهما، وكانت مرو عاصمة خراسان ومدينتها الكبرى، لكن موقعها الطبيعي لم يكن في مناعة موقع هراة؛ فقد كانت في أرض مستوية بعيدة عن الجبال، وكانت المياه والأقوات حولها وفيرة ميسورة؛ لذلك لم يلبث يزدجرد حين سمع بمسيرة الأحنف إلى مرو أن خرج إلى مرو الروذ، وهي مدينة قريبة منها، تقوم على نهر عظيم يمكن التحصن به، لكن الأحنف لم يمهله حتى يتحصن، فقد جاءته أمداد من الكوفة استطاع بها أن يتابع مسيرته، وأن يزعج كسرى مرة أخرى، فيخرج من مرو الروذ إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ثم اتبعهم الأحنف حين حاصروا المدينة القائمة على تخوم فارس وطخرستان، وكان طبيعيا ألا تقاوم بلخ أكثر مما قاومت هراة أو مرو، وكان طبيعيا أن يفر يزدجرد منها، فهو قد جعل الفرار أمام المسلمين دأبه وديدنه، ودخل الأحنف بلخ على رأس جند الكوفة، فلما اطمأن إلى إذعانها أقام ربعي بن عامر عليها وعلى ما حولها، وعاد هو فنزل مرو الروذ واتخذها معسكرا لجنده ومقرا لقيادته.
لم يبق ليزدجرد في أرض مملكته موضع يقر فيه أو يفر إليه؛ لذلك فر هذه المرة مجتازا النهر الذي يفصل بين فارس وأرض التتار، فنزل بسمرقند على خاقان الترك لائذا به لاجئا إليه، وكان قد كتب إلى خاقان الترك وإلى إمبراطور الصين، منذ كان بمرو الشاهجان يستمدهما ويستعديهما على المسلمين، فأبطأ رسله إليهما ولم يعودوا إليه من عندهما بجواب، فلما دفعه المسلمون فلجأ إلى خاقان الترك، دفعت النخوة هذا الأخير لنجدته، ولعل خاقان الترك رأى في تقدم المسلمين ما يهدد ملكه، فآثر أن يصدهم قبل أن يجتازوا إليه أرضه، واتخذ من لجوء كسرى إليه حجة يحرك بها نخوة قومه، وحشد خاقان جنده وحشد معهم أهل فرغانة والصفد، وسار بهم وبيزدجرد يلقى المسلمين بخراسان.
كان الأحنف بن قيس قد كتب في هذه الأثناء إلى عمر بفتح خراسان وغلبته على المروين وبلخ، فلما قرأ عمر كتابه تهلل وجهه وصاح: هو الأحنف وهو سيد أهل الشرق! لكنه ما لبث، بعد هذا الإعجاب بقائده الظافر، أن عاد إلى التفكير فيما يجب أن يعقب هذه الخطوة، فعاوده حذره فقال: «لوددت لو أني لم أكن بعثت إلى خراسان جندا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار!» وخشي أن يتقدم الأحنف بجنوده إلى ما وراء خراسان من أرض المشرق، كما خشي أن تأخذ المسلمين نشوة الظفر فتطغيهم فيعيثوا في الأرض فسادا، فكتب إلى الأحنف يقول له: «أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا على الذي دخلتم به يدم لكم النصر، وإياكم أن تعبروا فتنفضوا!»
وقد كان لهذا الحذر من جانب عمر ما يسوغه؛ فقد اتسعت رقعة الفتح في الشرق فتناولت أرض فارس كلها؛ وقد طالت خطوط المسلمين وتوزعت قواتهم في أرجاء الشام والعراق وفارس، ولا يأمن الخليفة انتفاض بعض هذه البلاد على نحو ما حدث إذ حصر أبو عبيدة بحمص، هذا إلى أن التقدم فيما وراء فارس قمين أن يثير به التتار والمغول دفاعا عن أنفسهم وعن بلادهم، فمن الخير ومن حسن الرأي أن يقف الفتح زمنا حتى يستتب الأمر ويطمئن أهل البلاد المفتوحة إلى حكم المسلمين، ومن الخير لذلك ألا يتقدم الأحنف أو غير الأحنف من أمراء الجند إلى ما وراء تخوم فارس.
دلت الحوادث من بعد على أن عمر كان حصيف الرأي، بعيد النظر في حذره؛ فقد سار خاقان الترك في جنده ويزدجرد إلى جانبه فعبروا النهر إلى بلخ، واضطروا جند الكوفة أن يتراجعوا إلى مرو الروذ، وأن ينضموا إلى الأحنف وجنده، وتعقبهم خاقان في تراجعهم وقد زاد عدد جنده بمن انضم إليهم من الفرس، وبلغ مرو الروذ في جمع عظيم مزعج، ورأى الأحنف دقة الموقف لكثرة عدوه، كما رأى أنه إن تم له النصر فردهم إلى بلخ وإلى ما وراء النهر لم يكن له أن يعبره، فذلك رأي أمير المؤمنين، لهذا رأى أن ينسحب بجنوده إلى موضع يجري نهر مرو الروذ أمامه، ويقوم جبل خلفه، حتى يكون النهر خندقا بينه وبين عدوه، ويكون الجبل حصينا يكفل له ألا يؤتى من خلفه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: «إنكم قليل وإن عدوكم كثير فلا يهولنكم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم وقاتلوهم من وجه واحد.» وانسحب الجند إلى هذا المكان، وأقبل الترك فوقفوا قبالتهم.
نامعلوم صفحہ