ولو أن القوة المعنوية التي اندفع المسلمون بتأثيرها واجهت قوة معنوية تقف في سبيلها لتغير، ولو إلى حد، وجه الحوادث، لكن دولتي الفرس والروم كانتا تسيران مسرعتين إلى الانحلال؛ فلم يكن لأيتهما من الجلد ما يمكنها من الثبات أمام الغزاة المؤمنين، فقد كان النزاع على العرش في بلاط كسرى بالغا أشده، وكانت الثورات والحروب الداخلية تنشب الحين بعد الحين بسببه، ولم يكن الروم أحسن حالا؛ فقد ثار هرقل بالقيصر فوكاس وقتله وجلس على عرش بزنطية مكانه، ثم إنه رأى النزاع الديني بين الفرق المسيحية يفت في عضد الإمبراطورية، فأراد فرض مذهب رسمي تتوحد فيه هذه المذاهب ويؤمن به المسيحيون جميعا، فانقلب سعيه وبالا عليه؛ لأنه لم يدع إلى مذهبه بالحسنى، ولم يتخذ إليه سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، هذا إلى أن فارس والروم كانتا في حروب متصلة؛ تغزو فارس أرجاء الروم فتنتزع منها الشام ومصر، ثم يسترد هرقل للروم ما انتزعه الفرس منهم، فتذيب هذه الحروب الدولتين وتذهب بريحهما، وكان من أثر هذه الأحداث أن كان الشعب الفارسي ينظر إلى أعمال الأكاسرة وبلاطهم، فيرى عبثا يصرفه عن التشبث بنصرتهم، وكانت الشعوب الخاضعة للروم تجد من ظلم القياصرة وعمالهم ما يخذلها عن القيام بمعاونتهم، لهذا كله تداعت القوة المعنوية في فارس وفي الروم، فلم تستطع أي الدولتين أن تصد التيار الجارف الذي اندفع إليهما من شبه الجزيرة.
وثم عامل آخر لا يصح إغفاله، ذلك هو انتشار العرب في العراق والشام، وقيام الملوك اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام، هؤلاء وأولئك لم يلبثوا - حين رأوا بني عمومتهم يقاتلون الفرس والروم ويحالف النصر أعلامهم - أن انضم كثيرون منهم إلى صفوف المسلمين في القتال عونا لهم، وإن لم يدخلوا من بادئ الأمر في دينهم، وقد كان لهذه المعاونة من الأثر في غزوات عدة ما خذل الفرس وخذل الروم، وأسرع بالمسلمين إلى قهرهم واكتساح بلادهم.
هذه أهم العوامل التي أدت إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية بالسرعة التي قامت بها، وإلى استقرارها بعد ذلك القرون الطوال، على أن الفضل في هذا الاستقرار يشترك فيه عامل آخر كان له أعظم الأثر، هذا العامل هو السياسة التي أديرت على مقتضاها شئون البلاد المفتوحة وشئون البلاد العربية نفسها، ولعمر بن الخطاب في إقرار هذه السياسة حظ عظيم.
صحيح أن المبادئ الأساسية لهذه السياسة ترتكز على قواعد الإسلام وتعاليمه، وقد فصل رسول الله وفصل أبو بكر من بعده بعض هذه المبادئ تفصيلا اقتدى به عمر، فكان قوي الأثر في توجيهه، وعلى أساس من هذه المبادئ وهذا التوجيه أنشأ عمر للبلاد العربية وللإمبراطورية كلها نظاما اتبع في عهده، واتبع زمنا من بعده ، وهذا النظام هو الذي صان الإمبراطورية وأبقاها، ثم كان له أعمق الأثر في إسلام أهل فارس والعراق والشام ومصر وغيرها من البلاد التي انضمت من بعد إلى العالم الإسلامي، وقد اجتهد عمر برأيه في وضع هذا النظام اجتهادا يسجل له في صحف التاريخ مجدا لا يقل عن مجده في بناء الإمبراطورية إن لم يزد عليه.
وسيرى القارئ من تفصيل هذا النظام في فصول الكتاب ما يغني عن القول فيه هنا، على أنني أضرب منه مثلا، ذلك أن الغزاة المسلمين أرادوا أن يقسم الخليفة بينهم سواد العراق وأرض الشام على أنها فيء غنموه، فأبى عمر ذلك عليهم، وترك الأرض لأهل البلاد يستغلونها كما كانوا يفعلون من قبل، لقاء خراج يدفعونه عنها، ولم يكفه هذا، بل بعث رجالا قاموا بمساحة هذه الأراضي وبجلب المياه إليها لتسهيل ريها وتيسير كل السبل لاستغلالها، ومن قبيل ذلك أنه أقر سياسة عمرو بن العاص حين حبس من خراج مصر وجزيتها ما يقتضيه إصلاح الترع والجسور، ولم يبعث إلى المدينة إلا بما فاض عن ذلك.
ثم إنه رأى إعفاء من أسلم من أهل البلاد المفتوحة من الجزية ومساواتهم بالمسلمين الفاتحين، فكان ذلك مغريا لكثير منهم بالدخول في الإسلام، وإسلامهم هو الذي جعل منهم في أجيال قليلة هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وقد أعفاهم عمر من الجزية وساواهم بالفاتحين وهو يعلم ما سيترتب على ذلك من نقص في موارد المدينة، ومن رد الحكم في هذه البلاد إلى أهلها، ومع ذلك لم يتردد في الأمر ولم تثنه هذه الاعتبارات عنه؛ لأن المسلمين لم يفتحوا هذه البلاد لإخضاع أهلها، وإنما فتحوها لتكون الدعوة للإسلام حرة فيها، فإذا أسلم بنوها أصبحوا بنعمة الله إخوانا للمسلمين الفاتحين، لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من الواجبات ما عليهم.
أما وقد كانت هذه سياسة عمر، وكان هذا هو النظام الذي وضعه للإمبراطورية الناشئة، فطبيعي أن يذكره المسلمون على كر الدهور في أرجاء العالم الإسلامي كله، وأن يقرنوا ذكره بكل إجلال وإكبار، وقد فعلوا، ولن يزالوا يفعلون، ولذلك أرخ العلماء والكتاب لعمر أكثر مما أرخوا لغيره من أمراء المؤمنين، لم يثنهم عن ذلك أن لم تكن لعمر بطانة تدعو إليه وتدفع الناس بمختلف الوسائل للإشادة بذكره.
بل لقد بلغ من إكبار المؤرخين لسيرته أن أضافوا إليه أمورا أدنى إلى المعجزات التي خص بها الأنبياء، وإن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ إثباته، وعمر في غير حاجة إلى شيء من ذلك يضاف إلى سيرته، فما قام هو به وما تم في عهده مما يقره النقد التاريخي؛ يقيم له في صحف التاريخ صرحا عاليا باقيا إلى الأبد.
ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى سيرة عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها، ولجنبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها، ولما طفف ذلك من قدر عمر، ولا نقص من جلال صنعه، وقد رأيت من الخير أن أغفل من هذه الحوادث ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد، ثم رأيتني بعد ذلك مضطرا إلى أن أثبت حوادث يتصور العقل في شيء من العسر وقوعها، ومع هذا تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر يدعو إلى النزول على حكمهم فيها، وما كان لي ألا أفعل، ومن هذه الحوادث ما يزيد صورة عمر وضوحا، ومنها ما يتصل بسياسته في الحرب وبسياسته في إدارة شئون الدولة أوثق اتصال، على أنني حاولت أن أفسر ما استطعت تفسيره من هذه الحوادث على هدي البحث العلمي، وأكبر رجائي أن يكون التوفيق قد صادفني فيما حاولته من ذلك.
على أن هذه الصعوبة في التمحيص والتفسير ليست كل ما يلقاه المنقب في كتب الأقدمين عن سيرة عمر، بل إنك لترى هؤلاء الأقدمين يختلفون في بعض الأحيان على الوقائع اختلافا يقف الإنسان منه موقف الحيرة، ثم إن من هؤلاء المؤرخين من يسهبون في طائفة من الوقائع ويتناولون أدق تفاصيلها، على حين يجملون طائفة أخرى إجمالا لا تكاد تبين معه دلالتها، وأسوق مثالا لذلك: إن الطبري وابن الأثير والبلاذري يتحدثون عن وقائع الغزو في العراق بإسهاب تكاد ترى معه أعمال كل بطل من أبطال هذه الوقائع، فإذا انتقلوا إلى سياسة المسلمين وإدارتهم للبلاد بعد فتحها أجملوا الحديث فيها إجمالا لا يتفق بحال مع إسهابهم الأول، وهؤلاء المؤرخون أنفسهم أقل إسهابا حين الحديث عن فتح الشام، وإن كانوا مع ذلك قد وفوه حقه، أما حديثهم عن مصر فموجز إيجازا لا يبالغ من يسميه مخلا، وحسبك لتشاركني في هذا الرأي أن تعلم أن الطبري قد أفرد لغزوة القادسية وحدها أكثر من ستين صفحة، وقد تحدث عن فتح المدائن في اثنتي عشرة صفحة، ثم لم يجعل لفتح مصر كلها غير خمس صفحات.
نامعلوم صفحہ