كانت هذه السيدة، أو الفتاة إن شئت، تدعى «فلورندا»، وهي ابنة «يوليان» الإسباني الذي كان حاكم «سبتة» من قبل القوط، وكانت ذاهبة إلى الأندلس للقاء أبيها. وعندما كانت السفينة على وشك الإبحار لمحت فلورندا عائشة أو لمحت - فيما رأته عيناها - فتى عربيا يتألق فيه ماء الشباب، فأطالت التأمل، وأتبعت النظرة النظرة، فإذا شاب وسيم تظهر عليه سيماء النبل وملامح البطولة، وجه مشرق كأنه تنفس الصباح، وقامة معتدلة كأنها صعدة الرمح، وشباب ورونق وفتوة. رأت فلورندا كل هذا بعينيها فترجمته غريزتها، وغريزة الفتاة في هذه السن الناضجة سريعة التأثر، ماهرة في الانتقال من الاستحسان إلى الرغبة والأمل. وكثيرا ما يطغى بها الخيال فتجعل الأمل حقيقة واقعة، فتنت فلورندا بما رأت، وتيقظت أنوثتها عاتية جامحة، فكادت تلتهم الفتى العربي بنظراتها، وتحرقه بزفراتها، وميل الفتاة إلى الفتى أو ميل الفتى إلى الفتاة أمر فطري يقوى ويضعف كما تقوى كل الميول والغرائز وتضعف، ولكن إذا اختلف الجنسان اشتد هذا الميل وعنف، كالكهرباء فإنها لا تتولد إلا إذا التقى سالب بموجب. وهنا التقى الجنس الآري بالجنس السامي؛ فكانت الشرارة لواحة متأججة اللهب، هتفت نفس فلورندا صاخبة ساغبة: «لم لا تتزوجينه؟ إنك لن تجدي له بين الفتيان مثيلا ولو ذهبت إلى أقصى الأرض، إن له وجها لم تطلع الشمس على أصبح منه. إن سمته وزيه ينمان عن أصل كريم ومجد عريق ، إن بسمته في الصباح صباح، وطلعته في المساء ضياء المساء، يجب أن تتزوجيه أو أن تعملي على أن تتزوجيه، فإن من جد وجد، وكل من سار على الدرب وصل.»
جالت بنفس فلورندا كل هذه الخواطر وهي جالسة إلى جانب عائشة والسفينة تنشر قلاعها للرحيل، فقالت في صوت تكلفت أن يكون غير مختلج: من أين وإلى أين يا أخا العرب؟ - من دمشق يا سيدتي إلى جيش طارق. - وهل اجتزت هذه الطريق الموحشة المزدحمة بالأخطار مع هذا العبد لا يصحبك سواه؟ - كان يصحبني سواه. - من هو؟ - سيفي.
فابتسمت فلورندا وقالت: «أنتم هكذا أيها العرب؛ لا تفارقكم هذه الثقة بالنفس التي نسميها غرورا؟!» - سموها يا سيدتي كما تشاءون ... ولكننا حينما نثق بأنفسنا نثق معها بخالق أنفسنا. - إني أخاف على هذا الشباب النضر أن تعصف به الحرب في إسبانيا. - نحن عقدنا صفقة بيع ولن نرجع فيها. - مع من؟ - مع الله، فإنه يقول، عز شأنه:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون «التوبة: 111».
فضحكت فلورندا ضحكة ناعمة، وقالت: إذن لا أستطيع أن أرجعك عن عزمك؟ - يا سيدتي كانت أمي أقوى منك. - ولكني قد أكون أقوى من أمك إذا كان لي مكان من قلبك.
قالتها مبتسمة وهى تنظر إلى عائشة بعينين فيهما كل حبائل الشيطان، فأحست عائشة بالخطر، وهالها ما لم تفكر فيه أو تحسب له حسابا. هالها أن الفتاة مفتونة بها مشغوفة، وأن هذا الشغف قد يكشف سرها الذي بالغت في كتمانه؛ فرأت من حسن الرأي أن تجامل وتراوغ حتى يفصل بينهما غمار الحرب، فقالت: إن لك مكانا يا فتاتي في كل قلب، ولو أن بنات الإسبان كن مثلك لانتصرن على طارق وجيشه بسهام عيونهن.
فضحكت فلورندا، ومدت يدها إلى عائشة، وسألت: أتعرف من أنا؟ - كيف أعرف يا فتاتي وأنا لم أصل إلى سبتة إلا هذا الصباح؟ - أولا ما اسمك؟ - أسامة الفهري. - أنا فلورندا. فلا تقل «يا سيدتي» أو «يا فتاتي»! ولكن ادعني باسمي هكذا مجردا كما يدعو الصديق الصديق. - سمعا وطاعة يا ... - فلورندا. - يا فلورندا. - إن أبي يوليان كان حاكم سبتة، وهو من عظماء القوط. وكانت العادة أن يرسل أمراء المملكة بناتهم إلى قصر الملك لتدريبهن على آيين القصور، فأرسلني أبي إلى بلاط لذريق؛ فرأيت من لمحاته وكلماته ما أعجلني إلى الفرار بعرضي. وعلم أبي بالأمر فاشتد غضبه، وأقسم بدين المسيح أن يكون حربا عليه مواليا مع العرب، وذهب إلى قائدكم ابن نصير فعاهده على مناصرته وتذليل طريق الفتح لطارق، ولولا أبي ما استطاع جيشكم أن يفوز بهذا النصر المبين.
فابتسمت عائشة وقالت: إن لك أن تنسبي الفضل كله في هذا الفتح إلى أبيك يا فلورندا، فكل فتاة بأبيها معجبة كما تقول العرب في أمثالها. ولكنني أعتقد أن سيل العرب الزخار سيلتهم إسبانيا أساعدهم أبوك أم لم يساعدهم.
إن هذه صاعقة من السماء يا فتاتي لا يقف أمامها جيش، ولا تصدها قوة، وهل كان يوليان يعين جيش عمرو بن العاص حينما فتح مصر بأربعة آلاف مقاتل؟ وهل كان يوليان مع سعد بن أبي وقاص حينما سار لفتح الفرس بسبعة آلاف؟ دعي هذا يا فلورندا فإني أخشى أن أقول: إن أباك كان حكيما ألمعيا، وأنه رأى أن لا بد مما ليس منه بد. - أنت تقسو على أبي. - أنا أصفه بالحكمة والألمعية، وأنت ترمينه بخيانة قومه ووطنه، فأينا أنصف الرجل؟ - هذا جدال على الطريقة العربية يا حبيبي. - أو على طريقة الحق.
وبلغت السفينة في المساء جبل الفتح أو جبل طارق، وأرادت عائشة التخلص من الفتاة، فقالت: أنت ذاهبة إلى أبيك، أما أنا فسأبقى هنا قليلا لأستريح.
نامعلوم صفحہ