5
ونشب بين الفريقين قتال مر المذاق. وحين قدم أبوك من هذه الحرب، ذهب على الفور إلى حجرة أمك حزينا مهموما، فظننا أول الأمر أن الهزيمة لحقت بجيشه. وأخذت أمك بما وهب الله لها من لباقة ومعرفة بفنون الكلام، ترفه عنه، وتلوح من بعيد بأن هزيمة الشجعان خير من انتصار الجبناء، وأن النصر كالمرأة الفروك
6
تجفو الرجل أحيانا ليتشبث بها، ويزيد بها حبا وجنونا. فالتفت إليها أبوك وغبرة الحزن لم تفارق وجهه وقال: ماذا تقولين يا سخينة؟! لقد انتصرنا على بني تميم وطاردناهم إلى مضاربهم. وهنا قفز الطفل من سريره صائحا: حياك الله يا أبي، وسقيا لجدثك الطاهر، لقد خفت يا عائشة أن يكون قد هزم أو أن يكون ...
ففهمت عائشة ما تلجلج في صدره، وقالت في غضب: إن أباك لا يعرف الفرار، ولو عرفه لكان بيننا الآن يملأ جوانب القصر حياة وقوة، ويشيع فيه البهجة والسرور. إنه لم يفر في آخرة مواقعة أمام خمسمائة فارس من العتاة الأشداء، فقاتلهم حتى ضاق مجال فرسه، وحتى تحطم حسامه، فمات كريما شهيدا. ثم عادت إلى حديثها الأول فقالت: وحينما علمت أمك بانتصاره قهقهت في سخرية مصنوعة، وقالت: وماذا إذا يحزن فارسنا المغوار، ويشوه من وجهه الوسيم، بعد أن شتت الجموع، وعاد بالأسلاب والغنائم؟ فاتجه إليها الأمير سعيد وقال: الذي يحزنني أنني بعد أن ركد غبار المعركة، سألت عن تمام القضاعي وقد كنت شهدته يجول في ميدان القتال ويصول، ويقذف بنفسه بين الكتائب كأنه أخذ على الموت عهدا، فعلمت أنه قتل، فحزنت أشد الحزن وأمضه. ولم أحزن لأن رجلا قتل، فإن في موت الشجاع في الحومة
7
شرفا لا يدرك معناه الجبان، ولكني أعلم أن له زوجا وأما عجوزا وبنيات أضعف من الثمام،
8
وأوهن من أضغاث الأحلام، كبراهن في نحو الخامسة عشرة. لذلك أسرعت عند بلوغي «منبج» إلى داره. وحينما قابلت أمه أخذت في مواساتها فلم تزد على أن تقول: إن ابني اشترى الجنة بحياته ففاز بالثمن الربيح. ولما حاولت أن أقذف بين يديها كيسا به مائتا دينار، شخصت عيناها واربد وجهها في غضب، وصاحت في وجهي قائلة: رحماك بنا أيها الأمير! إننا لا نبيع رجالنا بالمال، وخير لنا أن نموت جوعا من أن نجمع بين موت تمام ومعرة الأبد! خذ مالك أيها الأمير، فإن فتات الخبز في ظل العزة والكرامة خير من موائد الملوك، فبهرت وأطرقت حزينا، وخرجت من الدار حائرا مبهوتا. ثم اتجه إلى أمك وقال: ألا نستطيع أن نعمل شيئا لهذه الأسرة يا سخينة؟ إن لك طرائق في التفكير ورثتها عن أجدادك الروم لم تدع أمامك بابا من الرأي مغلقا. فأسرعت أمك وقالت: هون عليك أبا العلاء، فإن الأمر جد يسير، إننا نستطيع أن نزوج كبرى بناته بأحد حراس القصر، وأن نمهرها بمائتي دينار، ولن تجد العجوز غضاضة في الأمر ولا حرجا، بل تسر؛ لأن الأمير شرفها بالإصهار إلى أحد حراسه، حينئذ تلألأ وجه أبيك بشرا وصاح: مرحى بابنة أفلاطون مرحى! لقد علمت أنك لا يعوزك الرأي الأصيل، والحيلة البارعة. - وهل تم هذا الزواج؟ - تم بعد شهر من قدوم أبيك، وتزوج عمار الحارس بصبيحة القضاعية، وأصغر أبنائها اليوم هو أسامة خادمك، الذي تلعب معه في حدائق القصر.
هكذا كان يغذى الطفل بأحاديث البطولة، وهكذا كانت تثار حميته إلى ترسم خطوات آبائه العظام. وقد وجدت هذه الأحاديث من نفس الطفل أرضا خصبة ومنبتا طيبا فزادها خياله ضخامة وعظما، وكانت شغل نهاره ومسرح أحلامه، فطالما استبطأ الزمن الذي حال دونه أن يجرد سيفا أو يشهد في قتام
نامعلوم صفحہ