فراشہ و دبابہ
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست
اصناف
وفي العاشرة من عمره، أهداه والده بندقية، وأهدته والدته آلة تشيللو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وكان يهرب من دروس العزف ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشد والجذب للصبي بين عالم والده وعالم والدته أن أصبح همنجواي شابا عاكفا على التفكير، شديد الحساسية في نفس الوقت. وقد قال مرة بعد ذلك عن أيام حياته الأولى: «إن أفضل مدرسة للكاتب هي طفولة شقية» وقد تسببت هذه الأيام في إصابته ببعض «التهتهة الخفيفة» في كلامه، لازمته طوال حياته.
وتلقى همنجواي تعليمه في مدرسة «أوك بارك»، حيث التحق بفريق كرة القدم بها. وفيها ظهر ميله للكتابة لأول مرة، فكان يكتب بعض القصص القصيرة على الآلة الكاتبة، عن تجاربه في الصيد وعن الهنود الحمر، وينشرها في المجلة الأدبية للمدرسة. وقد اشتغل وقت فراغه في هذه الأيام والتحق بمدرسة لتعليم الملاكمة.
وبعد أن حصل على شهادته الثانوية من المدرسة عام 1917م، كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب العالمية الأولى التي اندلعت نيرانها منذ سنوات ثلاث في أوروبا، وهجر همنجواي كل مشروعاته بشأن الجامعة وبشأن المستقبل وتطوع في الجيش، ولكنه رسب في الكشف الطبي بسبب عيب كان قد أصاب عينه في إحدى مباريات الملاكمة. وفشلت محاولات همنجواي في الالتحاق بأي سلاح من أسلحة الجيش، وبعدها نجحت مجموعة من الأكاذيب، ونقص في الموظفين إبان الحرب، ونفوذ أحد أعمامه في حصوله على عمل في صحيفة «كانساس سيتي ستار» التي كانت تعتبر أيامها أكبر مدرسة للصحافة في الغرب الأمريكي. وقد تعلم فيها كيف يقص الخبر بأسلوب الصحيفة المعروف عنها: الأحدوثة المباشرة المقتضبة والفقرات القصيرة واللغة القوية. وقد قال همنجواي بعد ذلك عن هذه الفترة من حياته: إنه قد تعلم في هذه الشهور عن الكتابة وعن الصحافة أكثر مما تعلمه في أي فترة أخرى من فترات حياته. وبعدها قرأ عن حاجة الصليب الأحمر العاجلة لمتطوعين للعمل على الجبهة الإيطالية، فتقدم لهذا العمل وقبل فيه في أبريل 1918م كسائق لعربة إسعاف ، وكان أصغر المتطوعين سنا فلم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. وارتحل من نيويورك إلى باريس عن طريق البحر، ثم أرسلوا به إلى ميلانو حيث عمل في خط النار. وبعد أسبوع من الأحداث المثيرة، أصابته قنبلة من مدفع مورتار نمسوي حين كان يحاول إنقاذ أحد الضباط الإيطاليين الجرحى، وأطاحت بطاسة ركبته وجرحته في رأسه. وفي مستشفى «ماجيوري» بميلانو، أجروا له سلسلة من العمليات أخرجوا بها 227 شظية من ساقه. ولم يخرجوا كل الشظايا رغم ذلك، فقد أجروا له عملية أخرى عام 1959م أخرجوا بها من ساقه شظية أخرى استقرت فيها منذ ذلك الوقت. وفي مستشفى ميلانو تعرف على ممرضة إنجليزية حسناء من ممرضات الصليب الأحمر، عقد معها علاقة عاطفية ألهمته فيما بعد حبكة روايته المشهورة «وداعا للسلاح». وقد طاف همنجواي بعد شفائه بصفوف القتال على الجبهة الإيطالية مرتديا سترة عسكرية أمريكية ليبعث الحماس في قلوب المحاربين ويقص عليهم قصة بطولته في الحرب، وكان نتيجة هذا أن أنعمت عليه السلطات الإيطالية بالميدالية الفضية للشجاعة العسكرية ووسام الاستحقاق الحربي.
وعاد همنجواي في 21 يناير 1919م إلى نيويورك واستقبل فيها استقبال الفاتحين، فقد كان من أوائل العائدين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى من الأمريكيين. ولكن جو بلدته «أوك بارك» بدا له خانقا قاتلا، خاصة الآن بعد أن ذاق طعم الحرية والإثارة، فدفعه ذلك إلى الاستقلال بحياته عن والديه، وعاش وحده في شيكاغو بعد أن حصل على عمل يقيم به أوده عن طريق كتابة بعض القطع الصحفية لجريدتي «تورنتو ديلي ستار»، «وتورنتو ستار ويكلي». وكان يقسم وقت فراغه ما بين صالة الألعاب الرياضية، والتمرس على فنون الكتابة. وفي أثناء رحلة له إلى «ميتشجان» في هذا الوقت، تعرف على فتاة أمريكية ذات موهبة في العزف على البيانو تدعى «هادلي ريتشاردسون» تزوجها أخيرا في سبتمبر 1921م. واقترح همنجواي على أصحاب الصحيفتين اللتين يعمل فيهما أن يعينوه مراسلا لهما في باريس، حيث يوافيهم بمقالاته وقصصه من هناك، ووافقوا على ذلك. وحمله صديقه شرود أندرسون، بخطابات توصية إلى معارفه الأدبيين في باريس، أمثال جرترودشتاين وعزرا باوند، وتعد سنواته الأولى هذه في باريس من أخصب أيام عمره، قضاها طوافا في البلاد والمدن الأوروبية، يعقد الصداقات مع شخصيات الأدب والفن المشهورين. وفي باريس تعلم همنجواي التمييز بين الأصل والمزيف، بين العبقرية والتصنع، وتعلم كما قال بنفسه: «كيف يكتب القصص بالتطلع إلى اللوحات في متحف اللوكسمبرج في باريس»، وعندما ألمح له الرسام بيكاسو عن مصارعات الثيران في مدريد، صمم همنجواي على خوض هذه التجارب الفريدة، فشد رحاله على الفور هو وزوجته إلى إسبانيا حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في حبه العريض للبلاد الإسبانية ولمصارعة الثيران التي لازمته طوال حياته ولم يكد يخلو كتاب من كتبه من أي منهما.
وبعد ذلك أبرقت له الصحيفة بالتوجه إلى إيطاليا لتغطية أخبار المؤتمر الاقتصادي في «جنوه»، وبعدها طار إلى القسطنطينية ليغطي أحداث الحرب التركية اليونانية التي استعر أوارها في تلك الأثناء. وفي القسطنطينية شهد فظائع انسحاب الجيش اليوناني من المدن التركية وتقدم الجيوش التركية للاستيلاء على هذه المدن؛ وقد ألهمه هذا الانسحاب الوصف الذي ورد بعد ذلك في مشهد انسحاب من «كابريتو» في «وداعا للسلاح» ... وبعد عودته من تلك المهمة بقليل طار إلى لوزان لتغطية مؤتمر السلام هناك. وهكذا تحقق حلم همنجواي بأن أصبح مراسلا أمريكيا جوالا في البلاد الأوروبية.
واستدعى همنجواي زوجته هادلي لتلحق به في لوزان. وفي الطريق وقعت لها حادثة مفجعة؛ إذ فقدت جميع مخطوطات القصص التي كان زوجها قد كتبها طوال السنوات الأربع السابقة، وكانت قد وضعتها كلها في حقيبة حملتها معها إليه. وقد أثر هذا الفقدان الأدبي في همنجواي فترة طويلة من حياته ولم ينسه مطلقا. وطار همنجواي مرة أخرى إلى ألمانيا لكتابة تحقيق صحفي عن إعادة احتلال «الروهر» بالقوات الألمانية. وفي باريس، أجرى همنجواي كتابه الأول، مجموعة من القصص والقصائد بعنوان «ثلاث قصص قصيرة وعشر قصائد»
2
كما كان يزيد من دخله بالمراهنة عن سباق الخيل الذي برع فيه وربح من ورائه الكثير من المال. ولكنه اضطر إلى العودة لجريدتي «ستار» و«ستار ويكلي» حين أشرفت زوجته على وضع طفلها جون، وأصرت على أن تتم الولادة في موطنها بالولايات المتحدة. وبعدها بفترة قضاها في جو من الضيق و«الإقليمية»، استقال من العمل، ورحل هو وزوجته وطفله إلى باريس حيث خلع عنه أخيرا معوقات الكتابة، ونزل إلى الساحة ليحارب معركته في سبيل الجودة والظهور كمؤلف له قيمته وأصالته. وكانت باريس أيامها تموج بالكتاب والفنانين الذين يأتون بكل مستحدث مستطرف، يغرقون همومهم في الجنس والخمر والسهر طوال الليل. وقد أسمتهم جرترود شتاين بالجيل الضائع، ولكن همنجواي كان يمثل بينهم شخصا مختلفا، فقد أضفت عليه جديته بشأن عمله في الكتابة وتجاربه في الحرب صفة خاصة من النضج. وانضم في هذا الوقت إلى الجماعة التي كانت تلتقي في مكتبة شكسبير التي تملكها شابة أمريكية تدعى «سيلفيا بيتش» في الحي اللاتيني، وتعرف هناك بالمشهورين من أمثال جيمس جويس، وجون دوس باسوس، وأرشبولد ماكليش، بالإضافة إلى جرترود شتاين، وعزرا باوند. وكانوا يعقدون الندوات التي يناقشون فيها مسائل الفن والأدب وقضاياهما.
ومرت بهمنجواي فترة قاتمة في أيامه تلك في باريس، فكانت المجلات ترفض قصصه الواحدة بعد الأخرى، ولم يكن يجد ما يقيم أوده هو وزوجته. ولم يفت هذا من عضده، بل لم يمنعه عن الاستمتاع بكل ما كان يستمتع به من صيد ومن سباق الخيل وسباق الدراجات، ونجح أخيرا بعد ذلك في نشر كتابه الثاني، وهو مجموعة من القصص القصيرة ظهرت تحت عنوان «في أيامنا».
3
نامعلوم صفحہ