فرح انطون: حیاتہ – ادبہ – مقتطفات من آثارہ
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
اصناف
أما النفع المادي فهو اعتبار الدير قوة ممدنة تستعمر الجهات التي يكون الدير قائما فيها، والديورة إنما تقام عادة في القفار والجبال والقرى البعيدة؛ أي في الأماكن المحتاجة أشد احتياج إلى تعمير وإحياء. فتأمل مقدار الخير الذي يستطيع ذلك الدير صنعه في تلك الجهات، إذا جعل نفسه عبارة عن شركة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتلقوا منها طريقة زراعة الأرض، ويتعلموا صناعات جديدة، ويعتمدوا عليها في جميع شئونهم العملية اعتمادا متبادل النفع بين الفريقين، فإن الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم.
وكيف لا يحلو للمتأمل أن ينظر ذلك الراهب الذي كان يصلي إلى الله منذ مدة يأخذ معوله وفأسه، ويقصد حقول القرية؛ حيث يقابله أهلها كرسول العلم والثروة والمدنية بينهم، ويسترشدون بإرشاداته التي اكتسبها بالدرس والمطالعة، والتي لا تصل إلى هؤلاء القرويين بدونه؟ لا ريب أن هذا الأمر يساوي عندي على الأقل خروجه من الدير وبيده الإنجيل لعيادة مريض في القرية أو تسلية حزين. ولست أعرف شيئا في العالم يعادل نفعه نفع هذه الديورة في التمدين والتعمير، إذا سلكت بإخلاص ونزاهة هذا السبيل.
هذا فيما يختص بالاشتراك الخارجي بين أهل الدير وأهل القرى في تعمير الأراضي ونشر الخير والثروة حولهم. بقي هناك اشتراك آخر داخلي، وهو تعاون الأفراد المجتمعين في ذلك الدير على جعل معيشتهم فيه عبارة عن مثال لأرقى حكومة في الأرض، فإن أهل الدير قد ارتفع عنهم عند دخولهم إليه هم تحصيل الرزق والطمع والجهاد في سبيله؛ وذلك مما يسكن النفس وينقي قواها، ثم أضف إلى ذلك الانفراد عن معارك الحياة، تجد أن النفس تصفو في ذلك الانفراد عن كدوراتها اليومية، وتتملص من كل أهوائها الفاسدة التي كانت تضغط عليها وتعذبها في حالة الاجتماع.
وهكذا يصبح أهل الدير عبارة عن بشر فوق البشر؛ لأنهم خرجوا عن دائرة البشر، ويصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وتصفت وصارت إنسانية جديدة لا هم لها في الأرض غير صنع الخير ومساعدة الضعفاء. وهذه الحالة تسوقهم بالطبع إلى الاشتغال بالعلم والأدب. وهنا مسألة المسائل الجديرة بكل اهتمام، هنا مفتاح ترقية العلوم والفنون والصناعات المختلفة؛ إذ ماذا يصنع الرهبان في كل أوقاتهم الطويلة؟ وبأي شيء يقطعونها؟ هل من شيء يقطع به الوقت ما عدا صنع الخير أنفس من الاشتغال بالعلم والأدب؟ وبذلك يكمل الرهبان المنفردون في أديرتهم الجميلة نقصا ظاهرا اليوم في هيئتنا الاجتماعية.
انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا، تجد أنها مطلوبة للمال لا لذاتها، وبما أن طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم؛ فالعلم يبقى بيننا قاصرا؛ ذلك لأن العلم لا يتقدم ولا يترقى إلا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعا لا دخل لشهوة المال فيه. وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم؛ فالرهبان إذا عليهم سد هذا الفراغ؛ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أتم الانقطاع؛ إذ كل حاجاتهم مضمونة عندهم، وفي وسع كل واحد منهم أن ينقطع إلى علم أو فن في عشرين سنة أو أربعين فيرقيه أتم ترقية عندنا دون أن يحتاج إلى شيء، وحينئذ تصبح الديورة مصدرا لنهضة علمية جليلة، ويصير كل واحد منها عبارة عن أكاديمية كبيرة، كل عضو من أعضائها عالم في فن وفي علم.
ومجموع الأعضاء يتألف منه مجموع المعارف البشرية، والاختراعات والاكتشافات تتابع من هذه الأكاديميات الجديدة لنشر الخيرات في الأمة وتحسين شئونها، فتكون هذه الديورة مثالا للعلم كما كانت مثالا للصلاح فيما تقدم. وهي ما عدا ذلك تكون أيضا مثالا للنظام المطلق، فإن معيشتها اشتراكية محضة. الكل إخوة متساوون قولا وفعلا، وليس أحد فيهم يقول «هذا لي.» لأن كل شيء يكون بينهم مشتركا، ولكنهم مع تساويهم هذا خاضعون لسلطة عليا خضوعا تاما بلا مراجعة ولا تردد؛ لعلمهم أنها لا تأمرهم إلا بالخير وما فيه خير؛ ولذلك ترى أكبرهم وأصغرهم يعفران رأسيهما بابتهاج وسرور تحت قدمي هذا النظام الذي أنقذهما وأعطاهما هذا الوسط الهادئ النقي.
وهكذا بينما تكون الدنيا قائمة قاعدة بالاضطرابات والفتن والثورات بين كل الطبقات، بينما ترى روح الاستفراد العصري الذي ضربه رينان بسوطه ضربات شديدة يبذر بذور الشقاق في العالم حتى بين الأب وابنه، والمرأة وزوجها؛ لرغبة كل إنسان في أن يعيش حرا على هواه، ترى الهدوء والنظام والخير عامة شاملة في الدير وما حوله من القرى كأنه صار قطعة من الجنان.
وهنا سكت سليم، وأخذ يمسح العرق عن جبينه لأنه قد تحمس في أثناء وصفه، فصاح جرجس مسرورا: عافاك عافاك يا معلمي! هكذا يجب الكلام عن آبائنا الرهبان. أما كليم فإنه قهقه شديدا وقال لرفيقه: كفى تحلم! كفى تحلم! فهم في واد وأنت في واد. ومن كلامك يظهر أنك لا تعرف ما هو الغرض من الدير. فمسكين أنت أيها الجاهل! معنى الدير عندهم اليوم أن يقيم فيه الرهبان يكررون صلوات مألوفة، ويجمعون من الناس بحجة هذه الصلوات ما أمكنهم جمعه
يبذلون بسخاء في هذا السبيل ابتغاء للثواب على ما يقولون. وهكذا بدل أن تكون هذه الديورة ناشرة للثروة والخير فيما حولها من القرى صارت ممصا للثروة لنفسها. وقد قلت إن أهل العلم عندنا مضطرون إلى التفكير بالمال قبل العلم، وإلا تعذر عليهم الاشتغال به، فأنا أخبرك أن أهل الدين الذين وظيفتهم نذر الفقر - كما ذكرت - صاروا أيضا يفكرون بالمال قبل الدين.
فقال سليم: لا، لست أحلم، بل أنا أنظر إلى الدير كما يجب أن يكون، وأنت تنظر إليه كما جعلوه اليوم. وهذا أوضح دليل على أن كل شيء إنما يصلح ويفسد تبعا للطرق التي يستعمل بها، والأشخاص الذين يتولون استعماله. وهذه مسألة المسائل في كل الشئون حتى سياسة الأمم، ولست أظنك تزعم أن الديورة كانت في القديم، وأعني القرون الأولى لا القرون المتوسطة على حالتها الحاضرة اليوم، فإنها لو كانت كذلك لما قام لديانتها قائمة، وإنما كانت الديورة يومئذ عبارة عن انقطاع حقيقي إلى الله؛ للخلاص من حياة الاجتماع التي تجر الإنسان أحيانا إلى ما لا يهواه، ولا عتب في ذلك على أولئك المتقدمين لأنهم كانوا يومئذ في الطور الذي يسمى طور الإيمان الحار.
نامعلوم صفحہ