فرح انطون: حیاتہ – ادبہ – مقتطفات من آثارہ
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
اصناف
فثار هنا جرجس وقال: أرجوك يا معلمي ألا تجدف على الدير والرهبان، فإننا في طريق، وأخاف على أفراسي لا على نفسي، وبالأمس كان جارنا أبو يعقوب سائرا قرب البلمند قادما من المدينة (يعني طرابلس)، وكان الراكب على حمارته واحدا من السوقة لا يحب الرهبان، وكان يتهكم عليهم، فبركت الحمارة في الأرض قرب الدير، ولم تنهض حتى نذر أبو يعقوب للدير نصف الأجرة التي يأخذها من الراكب.
فصاح كليم بصاحبه: أسمعت قول الرجل؟ هذه هي المبادئ التي يعلمها للشعب الرهبان الذين نسلمهم أرزاقنا، وننفق على تسمينهم.
فقال سليم: هذه مسألة أخرى غير تلك؛ فإننا لا نبحث الآن في هل هم قائمون بوظيفتهم التي وجدوا لها، ولكني أسألك هل تحب المعيشة في الدير إذا كان الدير قائما بحسب النظام الذي وضع له، للغرض الحقيقي الذي يجب أن يوضع له؟ فأجبتني أنك تفضل على هذه المعيشة معيشة الإنسان الذي يأكل من كسب يده.
فقال كليم: نعم، هذا هو رأيي؛ لأني أكره الكسل والبطالة، ولا أستطيع أن أتصور أناسا كالبعوض والبق والعلق والبراغيث يعلقون على جسم الهيئة ليمتصوا دماءها وهم قاعدون بلا عمل؛ بحجة أنهم يخلصون أنفسهم ويصلون لغيرهم.
فسكت سليم برهة يفكر، ثم قال: كل من يسمع هذا الكلام يوافقك عليه لأول وهلة، ولكن لدى التأمل يظهر أنك ظلمت المعيشة الديرية بهذا الوصف الذي لا ينطبق عليها، إلا إذا كانت بلا عمل أرضي ينفع كما قلت. قلت أرضيا؛ لأن السماوي ليس من بحثنا الآن، وعندي أن معيشة الدير لها صورتان كل واحدة منهما جميلة بحد ذاتها. ويطيب لي الآن في هذه الأرض؛ أرض الأديرة والرهبان، أن أرسم معك هاتين الصورتين. وإذا كان في الهواء الذي يحيط بنا آذان خفية تسمع ورامت إيقاف صوتنا، فنحن باسم إله الحرية الساكن في هذه الجبال نقوى عليها؛ ذلك لأنها لا تستطيع إنكار إله الحرية ؛ إذ طالما استنجدت به في هذه الجبال. وبما أن الحرية واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم، سواء كانت في الفعل أو في القول، فمن الحق والعدل أن تخضع لهذا الإله بعد أن أخضعت له غيرها.
فالصورة الأولى للمعيشة الديرية هي ما ذكرت: بشر ضعفاء من طبقات لا تقدر على كسب رزقها ينسد في وجهها باب الرزق في العالم، وترهب معارك الحياة وتنازع البقاء، فتطلب مكانا تلتجئ إليه وتعيش فيه بأمان. وهي للحصول على هذه المعيشة تتنازل عن أشرف وأثمن ما لدى الإنسان؛ أريد حريته الشخصية، فتصبح آلة في يد الرئيس لا إرادة لها ولا قوة؛ ذلك أنها تنذر أول شيء الطاعة العمياء، ثم الفقر، ثم ترك الزواج. وبهذه النذور الثلاثة المشهورة تحرم الهيئة الاجتماعية قوات ضرورية.
فبنذر الطاعة تضع ضميرها بين يدي الرئيس. وما أدراك ما هو التنازل عن الضمير؟ فإن ذلك يفني شخصية الإنسان ويحقر الإنسانية فيه، ويجعل تحت سلطة ذلك الرئيس جيشا كثيفا مطيعا، يؤثر أشد تأثير في الهيئة المدنية لفائدة الهيئة الدينية، وبنذر الفقر يحرم الإنسان نفسه وغيره ثمار تعبه من خيرات الأرض التي حلل له التمتع بها، فيعيش ذليلا وضعيفا، وبنذر العفاف يجني على أمته؛ لأن الأمم يهمها تكثير النسل، وهي لا تألو جهدا في الحث عليه بالطرق المحللة؛ فالنذور الثلاثة إذا تعارض المدنية الحاضرة وتعاكسها، لا سيما وأن هذه المدنية جلبت معها مبادئ جديدة مناقضة لمبادئ الهيئة الدينية كل المناقضة في كثير من شئونها الأساسية.
والصورة الثانية للمعيشة الديرية: أن ينقطع بعض البشر عن البشر لنفع روحي ومادي. أما النفع الروحي فلا يدركه حق الإدراك إلا كل من رمته عواصف الدهر بين معارك الحياة اليومية، ورأى ما في هذه المعارك من الهمجية والخشونة والفظاعة، فهناك - وا أسفاه - يكون البشر حيوانات وحشية لا بشرا، هناك الظفر والغلبة لا يكونان بالاستقامة والفضل وشرف المبادئ والأخلاق، فإن هذه الفضائل التي هي جميلة في المجتمعات الرسمية والنوادي الأدبية تكون سببا لضعف صاحبها في وسط تلك المعارك، لا لقوته، وإنما يكون الظفر والغلبة للأكثر وقاحة، والأكثر ظلما، والأكثر اعتداء، والأكثر خداعا؛ ولذلك قال رينان: إن الإنسان لا يكون دائما قويا في الحياة إلا متى كان يظهر دائما أنه كان مغشوشا فيما صنعه من الخطأ، مع أنه كان غاشا.
فماذا تصنع النفوس الحساسة اللطيفة التي جبلها الله لا تحب الغش والظلم والاعتداء حين وجودها في هذا الوسط الهائل؟ هل تسلم سلاحها خافضة جناح الفضيلة أمام وقاحة الرذيلة، وتقع في ميدان العراك في جملة الأسرى أو القتلى؟ أم تخلع عنها ثوب الفضائل السماوي الذي ألبستها إياه اليد الجميلة الأبدية، لترتدي بدله ثوب الظلم والاعتداء والغش والنهب والسلب، وتصنع ما يصنعه غيرها؟ وهل يجوز أن تبخل عليها الأرض والسماء حينئذ بزاوية صغيرة في إحدى زوايا الأرض؛ لتعيش فيها بأمن وسلام دون أن تضطر إلى ذلك الانتحار، وهذه الجناية؟
إن هذه الزاوية هي الدير؛ فالدير وجد لسد فراغ في نفوس فريق من البشر في الأرض، وهو موجود قبل الديانة المسيحية بقرون عديدة؛ لأن انفراد بوذة وأنصاره في جبال الهند نوع من المعيشة الديرية. وستبقى هذه الحاجة لازمة في الأمم ما دام فيها نفوس تتألم، وجهاد في تحصيل الرزق والطمع يحكي جهاد الفاتحين. وقد احترم صاحب الشريعة الإسلامية هذه الحاجة؛ لأنه أوصى بالصوامع والرهبان خيرا، وكذلك الخلفاء الراشدون، فضلا عن أن التكايا التي أنشئت بعد ذلك في أنحاء العالم الإسلامي إنما هي نوع من المعيشة الديرية أيضا. وهذا يدل على أن هذه المعيشة الاشتراكية للزهد والانقطاع إلى الله كانت حاجة من حاجات النفوس في كل الأزمان.
نامعلوم صفحہ