البذور المسرحية في حياتنا
سبق أن ناقشنا حالات «التمسرح» التي نزاولها كشعب والتي كانت عرضة لتغييرات وتبديلات تبعا لتغير نظام الحكم والعقائد في تاريخنا منذ الفراعنة إلى الآن. ولكننا هنا سنناقش الشكل المسرحي الذي تبلور لدى الغالبية العظمى من جماهير شعبنا في الريف والمدن، وهو السامر. والسامر حفل مسرحي يقام في المناسبات الخاصة، سواء أكانت أفراحا أم موالد، ولكن الملاحظ أن عدد المحترفين فيه قليل جدا، لا يتعدى فرقة الموسيقى وراقصة الفرقة والمغني، أما الممثلون فهم في العادة أشباه محترفين، إذ هم أصحاب حرف يمضون نهارهم في عملهم اليومي المعتاد، حتى إذا جاءت الليلة وجاءت السهرة انقلب هؤلاء إلى فنانين باستطاعتهم إمتاع الألوف وإضحاكها.
والرواية في السامر أو كما يسمونها «الفصل» ليست رواية واحدة، وإنما هي عدة «فصولات» بعضها يعمد إلى الإضحاك وبعضها الآخر يعمد إلى إزجاء الحكم والمواعظ. وهذا النوع الأخير لا يهمنا كثيرا لانخفاض قيمته الفنية؛ إذ إن فنية هذا المسرح على حقيقته لا تتجلى إلا في الروايات المضحكة. هذه الروايات ليس لها نصوص مكتوبة، وإنما لها نصوص أو مواضيع متوارثة، وقبل بداية كل فصل يتفق الممثلون في همسات سريعة على الخطة العامة أو يعدلون فيها. هي ليست بالضبط «الكوميدياي لارتي»؛ لأن الأدوار في هذا النوع توزع توزيعا عادلا بين الممثلين، أما في كوميدياتنا نحن، فالأدوار غير موزعة؛ إذ إن هناك دورا رئيسيا واحدا هو دور «فرفور» أو في روايات وبلاد أخرى «زرزور» هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله الرواية، وبمواقفه وآرائه وحركاته يضحك الناس، بحيث يتضح لنا في النهاية أن الأدوار الأخرى ليست سوى مناسبات «تفرش» لفرفور جمل حواره أو سخريته وليست أدوارا تمثيلية بالمعنى المفهوم.
وفرفور أو زرزور مثال صادق للبطل الروائي المصري، الحدق، الذكي، الساخر، الحاوي داخل نفسه كل قدرة علي الزيبق وكل مواهب حمزة البهلوان.
وفرفور هذا أو زرزور ليس ممثلا بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة ممثل؛ لأنه في حقيقته أيضا وفي حياته العادية فرفور. إنه ظاهرة اجتماعية موجودة في كل زمان ومكان، تستطيع إذا ما فحصت ألفا أو ألفين أن تجده، ذلك الإنسان الساخر بسليقته وبطبعه، ذلك الذي لا يتصيد الانفعال ولا يدعي ما ليس فيه. إنه مضحك ومهرج وحكيم وفيلسوف في نفس الوقت. وعلى أمثال هذا النوع من الناس كان يعتمد التمثيل، زمان، قبل أن يعي الناس بحقيقة التمثيل وأن اسمه مسرح، وحقيقة الممثلين، زمان حين كان الجمهور يدفع بفرافيره فقط إلى الحلبة ويلتهب سعادة وحماسا وضحكا لكل ما يقولون؛ فالفرافير دائما لهم وجهة نظر جديدة وأصيلة وغريبة؛ ولهذا كان لا يجرؤ على الوقوف وسط الجموع المحتشدة إلا فرفور حقيقي يتحدث ويضحك ويهرج بالسليقة، ولا يفتعل؛ إذ هو في حياته أيضا فرفور، والناس تتداول أخباره الخاصة وعلاقاته بزوجته وأولاده وجيرانه وكأنها نوادر جحا. زمان قبل أن يصبح التمثيل «علما» يدرس في المعاهد، و«فنا» في الكتب، يستطيع كل من شاء أن يطلع عليه وينجح في القبول. زمان قبل أن تصبح المسارح بتذاكر وديكورات وحجز وتأليف.
وهؤلاء الفرافير كانوا لا يستطيعون أن يمثلوا إلا أدوار الفرافير؛ لأن التمثيل عندهم وعند الحقيقة ليس حرفة باستطاعة أي ممثل أن يتقمص أي شخصية تخطر للمخرج على بال؛ لأن التمثيل ليس مجرد «فن» التمثيل كما أن الكتابة ليست مجرد «فن» الكتابة؛ إذ إن الكاتب لا يستطيع أن يكتب في أي موضوع وإلا تحولت كتابته إلى نوع من الصنعة الحرفية، وممثل دور فرفور لا يمثل لأنه يمثل بوجهة نظر وبالذات بوجهة نظره الخاصة. إنه مبشر بوجهة نظره الخاصة هذه أكثر منه ممثلا، وهي التي تضحك.
ولكنه أبدا ليس نبيا ولا رسولا، إنه فقط فرفور، يبهر الناس وهو يضحكهم، ثم يضحك عليهم حين يبهرون، يأتيه الناس متسخي الأرواح متعبين، وهو الذي يتولى بقدرة خارقة غسل أرواحهم وتطهيرها بلسانه وبذراعيه وبجسده وبكل الطاقة المحشودة داخله، ينطق فيحسون جميعا أنه يتكلم باسمهم، وأنه ليس صوته وحده ولكن صوتهم جميعا إذا أرادوا التحدث، إنه وحده «كورس» كالكورس الإغريقي تمثل في فرد ليؤدي وجهة نظر الجماعة الساخرة.
قلت إن فرفور هذا ليس نبيا ولا فيلسوفا خاصا، ولكنه مجرد تلميذ من تلامذة الفرفورية الطبيعية التي ليست مذهبا ولا تمت إلى المذاهب بصلة. وتلامذتها لا يدخلونها بإرادتهم أو باختيارهم. إنها هي التي تختار تلاميذها ليتعلموها إلى آخر العمر. إن الفرافير هم ساعات الشعب المضبوطة التي عليها أن تضبط حياتهم، وليسوا أفرادا ممتازين بقدر ما هم ظواهر اجتماعية، وجدوا منذ أن وجد الإنسان، وسيظلون ما ظل المجتمع. إنها الجماعة البشرية حين تنتج من بين آلاف أفرادها فردا وظيفته الأولى وعمله أن يرى حياتها ويراقبها ويتذوقها، إذ الآخرون مشغولون تماما بمزاولة هذه الحياة، لتستطيع الجماعة بعدئذ أن تلتئم وتقضي كل حين ليلة تسمع فيها رأي هذا الذواقة الجريء الذكي الوهاج الصريح صراحة قد تخدش حياء المستحين فيهم، ولسانه يشملهم جميعا، ومن أكبر كبير إلى أصغر صغير، ولا تغضب الجماعة أبدا منه ومن رأيه وإنما تتقبله، ومن فرفور فقط على استعداد لتقبله، وتسلم به، بل وفي معظم الأحيان يعلمها كيف تكون مثله فرافير على حياتها الخاصة وأسرارها التي لا يعرفها سواها، وبهذا يكون فرفور قد حقق هدفه الأعظم بأن ترك في كل منا جزءا فرفوريا يراقب ويتذوق ويضيق ويسخر، وعلى أساس هذا الجزء الساخر، وليس على أساس ضميرنا الجاد، نمتنع عن أشياء وتتفتح آفاقنا على أوضاع ونقبل على الحياة مرة أخرى ونحن أكثر وعيا بأخطائنا وأكثر تواضعا وأكثر حبا للآخرين، فلنسمه إذن الضمير الجماعي الساخر، فلنسمه قرن استشعاره، فلنسم الفرفورية دينا صلاته الضحك، ولكننا أبدا لا يمكن أن نحيطها كلها باسم؛ إذ فاعليتها أكبر وأعظم من أي اسم. تلك هي الشخصية الرئيسية التي يقام حولها السامر من قديم الزمان في بلادنا، ومن ملامحها وملامح السامر نستطيع أن نتعرف على نقط هامة في حياتنا المسرحية. ولكن، هل هذه هي كل الملامح والنقاط؟
ذلك هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه.
الفرفورية إذن علامة واضحة مميزة من علامات التمسرح على هيئة سامر، ولكونها كذلك فهي سمة أصيلة من سمات الشخصية المسرحية المصرية. ولقد بلغت هذه السمة من القوة حد أنها فرضت نفسها فرضا على كافة الأشكال المسرحية التي وفدت إلى مصر وترعرعت في المدن، مكونة مسارح عماد الدين وروض الفرج، القائمة على الروايات المترجمة والمقتبسة والمعربة، وكانت هي السبب مثلا في خلق مسرح علي الكسار الكوميدي، إذ إن علي الكسار لم يكن يمثل طول حياته إلا دور فرفور غير تلقائي، فرفور متعمد، لا يظهر في حلقة السامر وإنما في مكان محدد، دخوله بثمن، والناس يدفعون الثمن ويؤمونه ليزاولوا حالة التمسرح.
نامعلوم صفحہ