هناك فارق بين ما نظن أننا نراه في العالم، وما نراه فعلا، فارق بين ما نظن أننا نعتقده وما نعتقده بالفعل، فارق بين ما نعيه عن أنفسنا وعن العالم، وبين ما نعرفه بشكل ما دون أن نعيه، تظهر هذه الانقسامات في أفعالنا ونظراتنا وأحلامنا وتعاملاتنا مع الآخرين. في مقال «أن ترى ما لا ترى» تحدثت من وحي حالة طبية نادرة قرأت عنها، يستطيع فيها المريض الاستجابة لمعلومات بصرية لا يدرك بشكل واع أنه يراها، هذه الحالة واقعية تستحق التأمل والتعلم منها، لكنها تصلح كذلك كاستعارة معبرة وكاشفة لحالة الكتابة، واستعارة العمى موجودة في مقالات أخرى من الكتاب، للتعبير عن زوايا أخرى من نفس الفكرة.
في مقال «كلام عن الكلام»، الموجود في القسم الأخير من الكتاب، أقول: «لو وضعت أي شيء في مركز اهتمامك فستبدأ في رؤيته في العديد من الأشياء الأخرى: صلات، تشابهات، تضادات، أعم، أضيق ... لو أنك شغوف بالعمارة فستشاهد البنايات والشوارع والنباتات والحيوانات والبشر والطبيعة والكون كمعمار، وستكون قادرا على التعلم منها والاستفادة منها كمصدر للإلهام.» وأظن أنني هنا في هذا الكتاب أضع الكتابة في مركز اهتمامي، أنظر إليها حتى عندما أكون في سياق الحديث عن موضوعات منفصلة ظاهريا.
مرايا
ماذا لو؟
يحكي «ديدرو» في «رسالة حول العميان» عن حداد أعاد له الطبيب نظره الذي حرم منه طوال عمره. كان قد تعود طوال خمسة وعشرين عاما أن يتحرك ويتعامل مع العالم فقط بواسطة حواس السمع واللمس والشم والتذوق؛ فلما عاد له نظره صار لفرط ارتباكه يغلق عينيه حتى يتمكن من التعامل مع العالم الذي تعوده، أو بالأحرى لكي يتجنب التعامل مع ارتباكات الحاسة الجديدة التي لا يعرف كيف يتعامل بها بعد. يذكر «ديدرو» كيف اضطر الطبيب إلى إجباره في أوقات على فتح عينيه حتى يتمكن من التدرب على الرؤية؛ «فكان «دافيل» يقول له وهو يوسعه ضربا: هلا نظرت أيها الفظ!»
يصف «ديدرو» في الرسالة نفسها - في سياق حديثه عن أعمى آخر - طبيعة الارتباك الذي قد يقع فيه مثل هذا الشخص. يصف كيف لم يميز لفترة طويلة بين الحجوم ولا بين الأبعاد ولا بين الأوضاع ولا حتى الأشكال. ارتبك بين الأقرب والأبعد، والأصغر والأكبر، يسأل كيف أن يدا توضع أمام عينيه قد تحجب عنه الغرفة؛ فيحتار: هل يدي أكبر من الغرفة؟! وهو يعلم أن هذا غير صحيح، لكنه لم يفهم بعد كيف خدعه نظره بهذه الطريقة. كان يرى لوحة مرسومة أمامه؛ فتريه إياها عيناه مجسمة، لكنه حين يمسها بيديه يجدها مجرد سطح سوي ليس فيه أي بروز. يقول «ديدرو»: «فسأل حينئذ عن المخادع؛ إن كان حاسة اللمس أم حاسة البصر!»
من ضمن الأمور المثيرة للاهتمام والفضول عند التفكير في مسألة العمى، ما نتعلمه عن أنفسنا عندما ننظر إلى حال من فقد بصره. نصاب بالدهشة في أوقات كثيرة من حدة ودقة استغلاله لحواسه الأخرى بشكل قد نظن تلقائيا أنه غير ممكن. لكن جانبا آخر مثيرا للاهتمام يلح علينا في هذا السياق، هو الطريقة التي يتمثل بها شخص ولد أعمى العالم. يقول «ديدرو»: «يتكلم صاحبنا عن المرآة في كل آن، وأنت تظن أنه لا يدري ماذا تعني كلمة مرآة؛ إلا أنه لن يضع مرآة على نحو معاكس للنور أبدا.» يسأله أحدهم: «وما العيون في رأيك؟» فيجيبه بأنها «العضو الذي يؤثر عليه الهواء تأثير عصاي على يدي.» قياسا على هذه الإجابة البديعة تخيل كيف سيصف أعمى مرهف الحس تفاصيل العالم المعتادة بالنسبة لك بشكل مختلف تماما عن المتوقع، لك أن تتصور كم من الشعر سيظهر بشكل تلقائي في إجاباته تلك. اسأله عن: الدائرة، أو المثلث، أو الخط المستقيم، أو الشمس، أو القمر، أو السماء، أو الأرض، أو الطريق، أو الجمال، أو القبح؛ اسأله عن أي شيء يخطر على بالك ، وسيجيب. كي يسير في هذه الحياة ويتواصل ويتكلم، لا بد أن يضع في عقله تعريفات لهذه الأشياء، لكن تعريفاته تتناسب مع خبراته ومع الطريقة التي يعيش بها في العالم. عالم الأعمى ليس عالما خاليا من المعاني، حتى لو وجد مجتمع كامل من العميان، سيوجد ويتطور في مساره الخاص، وسيكون مليئا بالمعاني العميقة، والتصورات التي تستحق الالتفات لها، والتعلم منها.
لكن في المقابل: هذا الفارق الذي تصنعه حاسة الإبصار في تمثلنا للعالم مثير للاهتمام، خاصة حين نتخيل تصورنا للعالم حال غيابها بالكامل، ربما يجعلنا هذا نفكر في احتمال أن تكون هناك حاسة أو حواس أخرى يفتقدها الجنس البشري ولا يدري عنها شيئا، تجعل تمثله للعالم ناقصا، وواهيا بالضرورة، إذا قورن بمخلوق خيالي آخر يمتلك مثل هذه الحواس الإضافية.
كان لأفلاطون تصور مهم في هذا السياق، كان يرى أننا في هذا العالم نشبه من يجلسون منذ ولادتهم في كهف وظهورهم متجهة إلى مدخله، كلما مر أحد أو شيء أمام مدخل الكهف رأوا ظله على الحائط. كل تصورهم عن العالم ينبع من هذه التجربة المحدودة؛ هذه الظلال هي العالم بالنسبة لهم. في هذا المثال الذي تخيله أفلاطون يقرر أحد هؤلاء في وقت ما أن يقوم من مكانه ليخرج من الكهف، تؤلمه عيناه في البداية من كمية الضوء التي لم يعتدها، يصاب بعمى مؤقت، يفكر في العودة إلى الكهف في الحال، لكنه لسبب ما يقرر البقاء في العالم الجديد بعض الوقت، يظل حائرا لأيام، بعدها لعله سيبدأ في تفهم الحقائق الجديدة التي يقابلها، لعله سيدرك أن ما كان يعتبره من قبل هو كل العالم، لم يكن سوى ظلال لحقيقة أوسع وأعمق وأكثر تنوعا، وحين يقرر فيما بعد العودة مرة أخرى للكهف قد تكون كل تصوراته القديمة عن العالم قد اختلفت بالكامل. ما الذي سيحدث إن حاول أن يخبر رفاقه في الكهف عما رأى؟
هذا المقال ليس كتيبا إرشاديا، لا يريد أن يقدم نظرة ما للحقيقة أو للعالم، بل هو في المقابل يتحيز للسؤال، يتحيز ل «ماذا لو؟» التصورات المختلفة للعالم موجودة دائما، وهي لا تحتاج إلى أن تكون دائما متحاربة؛ هناك تصورات أنضج من تصورات، لكن هناك دائما حقيقة ما في كل تصور للعالم. لا تحتاج إلى تبني فكرة ما لتستفيد منها أو لتستمتع بها، يكفيك أن تتبنى السؤال لبعض الوقت، وأن تتعلم ما الذي ستستفيده من كل منظور. اللعب مع العالم، ومساءلته، مفيد ومسل في أوقات كثيرة. أن نتعلم تصورات الآخرين له، والكيفية التي يتعاملون بها مع تفاصيله، وأن نتساءل عن سبب رؤيتهم للعالم بهذه الطريقة، هو أمر ملهم لأفكار وتصورات إبداعية وفكرية مختلفة. لا تحتاج أن تشهر أسلحتك في وجه كل منظور مختلف للعالم، لمجرد أنك تختلف معه؛ لأنه حتى لو كان خاطئا يمكنك أن تتعلم منه. كما أن طرح الأسئلة يقينا من الجمود؛ فأحيانا تكون عيوننا مفتوحة على اتساعها لكنها لا ترى ما هو باد أمامها، ربما لأنها لا تتوقعه، أو لعله التعود الذي يخفي عنا التفاصيل أحيانا.
نامعلوم صفحہ