واضح أن ناو تكتب مذكراتها، وتقرأها روث بعد عدة سنوات. روث المنشغلة على الفتاة، والقلقة من فكرة انتحارها، تحاول البحث على الإنترنت لمعرفة مصيرها. المواد والمعلومات التي تجدها على الإنترنت مسار آخر للرواية. لن يحدث لقاء بين ناو وروث طول الرواية، لكن العلاقة بينهما قوية بشكل ما. ناو في مذكراتها تخاطب روث بشكل مباشر، وتسأل أسئلة أثناء الكتابة عن هذا القارئ المفترض وعن مكانه وجنسه وسنه. روث تنغمس في المذكرات بشدة، وتحاول بشكل غير منطقي إنقاذ الفتاة. الرواية في أغلب أجزائها تنقسم إلى فصول لناو، تليها فصول لروث. وأنت - أثناء القراءة - تقرأ في البداية مذكرات ناو، ثم تقرأ حكاية روث مع هذه المذكرات.
هذه المذكرات كانت ناو قد اشترتها، من أحد المتاجر، الذي يصنع مذكرات أنيقة عن طريق وضع ورق فارغ داخل أغلفة كتب قديمة، بعد نزع صفحات الكتاب الأصلي. اختارت ناو التي تعاني من اضطهاد زميلاتها لها، غلافا فرنسيا أحمر، لم تفهم معنى المكتوب عليه، لكنها اختارته لأن الكلمات الفرنسية ستبعد المتطفلات من زميلاتها. سيتضح فيما بعد أنه غلاف طبعة من طبعات رواية البحث عن الزمن المفقود. تسأل ناو بعد أن تعرف: «كيف يمكنك أن تبحث عن الزمن المفقود على أي حال؟»
روث بطلة الرواية كاتبة، وهي في الجزيرة التي تعيش فيها تعاني من سكتة كتابية، فهي غير قادرة على الكتابة منذ فترة، وفي يوم ما وهي تمشي على الشاطئ تجد هذا الصندوق الذي يحتوي على المذكرات. بعد فترة من القراءة وعند لحظة تمهد بشكل واضح لموت ناو، تقابل روث تجربة غريبة؛ الصفحات التي كانت هناك في اليوم السابق، لم تعد هناك. تتحير روث في تفسير ذلك، هل هي بشكل ما سكتة قرائية، معادلة للسكتة الكتابية كما تعرفها؟ في لحظة ما يغدو تداخل روث مع المذكرات التي تقرأها وثيقا إلى الدرجة التي تظن فيها أنها تدخلت لتغير الأحداث. هل العلاقة هنا هي علاقة الكاتب/القارئ المعتادة؟ هل ما أحدثته روث من أثر في مصير ناو هنا يقف عند حدود التأويل؛ وبالتالي يعبر الحدث الذي شاهدناه - ولم أحكه بالكامل - عن فعل القراءة بشكل رمزي؟ هل هي رواية عن الكتابة/القراءة؟ ربما.
أم أن الرواية في هذا الموقف تسائل مفاهيم الزمان والواقع بشكل أعمق، حتى وإن اختلف مع الحس العام؟ تشير الرواية في هذا المقطع وتشرح بقليل من التفصيل بعض أفكار ميكانيكا الكم، وتمزجها مع أفكار البوذية. في هذه اللحظة يتداخل واقع روث، مع أحلامها، مع المذكرات والرسائل التي تقرؤها.
توجد في الرواية حكاية فرعية نوعا لا أملك ألا أتكلم عنها، زوج روث بطلة الرواية يملك قطا، ونتيجة لخلفيته العلمية سماه شرودنجر. في الرواية حين تقرأ الاسم ستبتسم حتما إن كنت قد قرأت عن معضلة قط شرودنجر الشهير. الاسم صعب عمليا كي ينادوا به القط، فصار له اسم آخر بيست، أو بيستو. بيست في لحظة ما يخرج من المنزل ولا يرجع، الخوف هنا أن تكون الذئاب قد أكلته. هل القط حي؟ هل هو ميت؟ هذا أكثر ما يقلق موريل زوج روث. بالتوازي مع معضلة شرودنجر الكمية، فبيستو أيضا هو حي وميت في نفس الوقت، حتى يتأكدوا. علاقة روث مع ناو يمكن النظر لها بنفس الطريقة. بشكل ما تتساءل روث طوال الوقت: هل انتحرت ناو؟ وإن كانت لم تنتحر، فهل نجت من تسونامي الذي جرى في نفس المكان الذي كانت تعيش فيه؟ يمكنك أن تعتبر أن ناو هي ميتة وحية في نفس الوقت.
الحكايات في الرواية كثيرة، فناو تحكي عن والدها هاروكي، ومحاولات انتحاره، وعن جدتها جيكو الكاهنة البوذية، ذات الأربعة والمائة عام، وعن عمها هاروكي الأول الذي كان قائدا لطائرة انتحارية، من الطائرات التي هاجمت أمريكا. ولروث حكاياتها أيضا: أصولها اليابانية، زوجها، أمها، الكتابة، القط شرودنجر. والرواية مليئة بالتفاصيل الممتعة، التي لا أظن أني أفسدتها بالحديث عن بعضها.
السرد أيضا ذكي يتنقل بين راويين: ناو، وروث. وهناك رسائل وحوارات، ورسائل موبايل قصيرة تتخلل السرد وتخلق به إيقاعا محببا. في الجزء الخاص بناو مثلا، ترسل رسالة ما لجدتها، و«سأخبركم بردها حين يصل»، وفي المكان المناسب من السرد يجيء الرد الذي قد يكون دعابة أو حكمة أو نصيحة وهو يخلق حالة ممتعة. السرد ممتع، يتخلله حس ساخر مرح، سواء في كتابة ناو أو في الفقرات التي ترويها روث. أعجبني أيضا طريقة استخدام الرواية للأحلام ببراعة، بحيث تكون مرتبطة بأحداث وأحاديث وأفكار ما قبل النوم التي تم حكيها، ومعبرة عن روث ومشاعرها ورغباتها، ولكن ارتباط الأحلام مع الواقع كعادة الأحلام ارتباط غير شفاف، يفتح للقارئ فرصة للتأمل. يمكنك أن تقرأ الرواية على أنها عن الزمن، أو عن ثنائية الكتابة/القراءة، أو عن الموت والانتحار، أو عن علاقة الشرق والغرب، أو عن كل هؤلاء معا. أحيانا ما يضفر الكاتب الحكايات لكي يكون بناء ما، لوحة كبيرة متخيلة، نهاية ما يرنو إليها. أحيانا قد تقرأ رواية ما وتصل بشكل واضح إلى ما تتكلم عنه هذه الرواية، وتصل بسهولة لمركزها. وأحيانا قد تسأل الكاتب بحيرة: ما الذي تريده؟ فتجيء عدة إجابات في ذهنك، كلها ممكنة، بل وكلها صحيحة. لست مضطرا إذا إلى الاختيار. ربما كلها مقصودة بشكل ما. ربما اختارت الكاتبة بشكل متعمد أن تكتب رواية دون مركز وحيد، لتناسب الموضوعات غير التقليدية للرواية، وربما ليس مهما ما أرادته حقا. ما دمت - وأنت تقرأ - قد تفاعلت مع النص بفهم، فمن حقك أن تساهم بوضع بصمتك الخاصة عليه.
ترجمة هذه الرواية ستكون صعبة للغاية، بنية اللغة في الرواية نفسها معتمدة على مزج الإنجليزية بكثير من المصطلحات اليابانية التي يتم شرحها في الهوامش. المسألة هنا جزء من بنية اللغة، أن يقابل من يقرأ باللغة الإنجليزية عبارة غير مفهومة ويجد بجوارها الإحالة فيرجع لها ليعرف ما المعنى. جزء من لعبة اللغة في الرواية. نقل المعاني سيكون بسيطا نوعا لكن نقل الحالة هو الصعب؛ لأن الهوامش هنا لم تتم إضافتها من قبل شارح أو ناشر، بل هي جزء من بنية العمل كما اختارته المؤلفة.
الفكرة أن اللغة الإنجليزية ربما تكون أكثر مرونة لتقبل ألفاظ من خارجها، والأمريكان ربما متفاعلون بحكم الهجرات والانفتاح على الثقافة اليابانية، بحيث أن دخول ألفاظ بهذه الطريقة هو ممتع للقارئ.
التنسيق ، والشكل الطباعي أيضا يتم استغلالهما بشكل جيد، لكنهما يصعبان أيضا عملية الترجمة. كيف ستترجم خربشات ناو وروث، التي تعبر فيها صورة الكلمات المكتوبة مع مضمون هذه الكلمات عن المقصود، كاشفة مشاعرهما. حتى لو ترجمت هذه الرواية، فأنصحك بقراءتها بلغتها الأصلية إن تمكنت من ذلك.
نامعلوم صفحہ