Bradshaw ، بل شيء علينا أن نطلبه ونثني عليه في أوقات مناسبة وفي أماكن محددة، لا تستشعر الثقافة توقا مسيطرا إلى الفن كالذي يستشعره المرء تجاه الطباق، بل تنظر إلى الفن كشيء يجب أن تتناوله بجرعات محتشمة معتدلة، مثلما يود المرء أن يتناول الرفقة من معارفه الأقل تشويقا. والتعامل مع الفن هو عند الطبقات المثقفة مثل الممارسة الدينية عند الطبقة المتوسطة السفلى؛ هو جزية تدفعها المادة للروح، أو - بين الشرائح الأعلى - يدفعها الفكر للعاطفة، فلا المثقفون ولا أدعياء التقوى لديهم حساسية أصيلة تجاه الانفعالات الهائلة للفن والدين، بل كلاهما يعرف ما يليق به أن يحس ومتى ينبغي عليه أن يحسه.
فإذا كان إثم الثقافة لا يعدو خلق طبقة من السيدات والسادة الرفيعي التعليم الذين يقرءون الكتب ويرتادون قاعات الموسيقى ويسيحون في إيطاليا ويتحدثون الكثير عن الفن دون أن يخطر لهم قط أي ضرب من الأشياء هو؛ إذا كان إثم الثقافة لا يعدو ذلك لما كان أمرها يدعو إلى أي جلبة، لكن الثقافة لسوء الحظ مرض نشط يجلب لنا شرا محققا ويفوت علينا خيرا ممكنا. يرغب المثقفون أولا وقبل كل شيء في أن يثقفوا الآخرين؛ فالآباء المثقفون يثقفون أطفالهم، آلاف المخلوقات الصغيرة المسكينة يلقنون كل يوم أن يحبوا ما هو جميل، فإذا اتفق أنهم ولدوا غير مرهفي الحس فلا طائل من هذا التلقين. أما المؤلم في الأمر فهو أن نتصور حال أولئك الأطفال الذين كانت لديهم حساسية حقيقية دمرها آباء حريصون. إن من العسير جدا أن نحس انفعالا شخصيا أصيلا نحو شيء فرض علينا الإعجاب به بالتربية، إلا أن الأطفال لكي يصيروا في الكبر أعضاء مقبولين في الطبقة المثقفة فلا بد أن يلقنوا أن يتبنوا الآراء الصحيحة؛ أي لا بد أن يتعرفوا على المعايير، معايير الذوق هي جوهر الثقافة، هذا هو السر في أن المثقفين كانوا دائما أنصارا للقديم. لقد نشأ في فن الماضي تصنيف تقليدي للروائع القياسية يستطيع به حتى أولئك الذين لا يملكون حساسية أصلية أن يميزوا بين الأعمال الفنية، وهذا بالضبط ما تريده الثقافة؛ ومن ثم فهي تلح على تقديس المعايير، وتنظر شزرا إلى أي شيء لا يمكن تبريره بالرجوع إليها، تلك هي التهمة الخطيرة الموجهة إلى الثقافة. إن الشخص الملم بالروائع الأوربية ولكنه غير حساس تجاه الشيء الذي يجعلها روائع سيقف محيرا تماما أمام أي تجل جديد لذلك «الشيء» الخفي. إن علينا أن نحترم أساتذة الماضي، ذلك شيء طيب، والأطيب لو أننا نتلقى كل فن حي بالترحاب. الفن الحي ضرورة، والفن الحي تخنقه الثقافة التي تلح على الفنانين أن يحترموا المعايير، أو لنقل بصريح العبارة، أن يقلدوا أساتذة الماضي.
ومن ثم فإن المثقفين الذين يتوسمون في كل لوحة إشارة ما على الأقل إلى إحدى الروائع المعروفة، يخلقون عن غير وعي منهم مناخا غير صحي على الإطلاق؛ ذلك أنهم أغنياء ورعاة وأسخياء. إنهم الأعداء الأبرياء جدا للأصالة، ولكنهم أعداؤها الطبيعيون؛ لأن العمل الأصيل هو المحك الذي يكشف الذائقة المصنوعة المتنكرة في هيئة حساسية فنية، ومن المعقول، بالإضافة إلى ذلك، أن أولئك الذين كانوا دائما حريصين كل الحرص على أن يتعاطفوا مع الفنانين لا بد أنهم يتوقعون أن الفنانين يفكرون ويشعرون كما يفكرون هم ويشعرون. إلا أن الأصالة تفكر وتشعر لنفسها، والفنان الأصيل في عامة الأحوال لا يعيش تلك الحياة المهذبة الفكرية التي يمكن أن تلائم العشيق من الطبقة المثقفة. إنه ليس فاتنا، وربما يكون لا فنيا
5
على التحقيق. إنه ليس من النبلاء ولا الأوغاد؛ الثقافة غاضبة لا تصدق، فها هو امرؤ ينفق ساعات عمله في خلق شيء ما يبدو غريبا ومقلقا وقبيحا، ويكرس وقت فراغه للجوانب الحيوانية البسيطة. أليس من المؤكد أن رجلا مختلفا عنا كل هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون فنانا؟ ولذا تهاجمه الثقافة وأحيانا ما تدمره، فإذا استمر بعد ذلك فإن على الثقافة أن تتبناه، بذلك يغدو جزءا من التراث، يغدوا معيارا، عصا ليقرع بها العبقري الأصيل القادم الذي يجرؤ على الخروج على التقليد متكئا على نفسه لا ولي له إلا فنه.
في القرن التاسع عشر ذهل المثقفون إذ وجدوا أن وغدين مثل كيتس
Keats
وبيرنز
Burns
كانا أيضا شاعرين عظيمين، فكان لا بد أن يقبلوهما، وأن يئولوا نذالتهما لإزالة الخلاف. أما انغماس بيرنز في الإدمان المغثي فقد رثي له في بضعة أسطر وضرب عنه صفح، كما لو أن بيرنز لم يكن سكيرا صميما مثلما هو شاعر صميم! وأما سوقية رسائل كيتس إلى فاني برون فقد نالها الاستهجان الودي من جانب ماثيو أرنولد الذي لا ينتظر منه أن يرى أن رجلا لا يقدر على كتابة مثل هذه الرسائل ما كان ليكتب «عشية عيد القديس أجنس»
نامعلوم صفحہ