وإذا فرغنا إلى أن الشعر عامة، والغنائي خاصة، تصوير بياني يجب أن ننظر في مجالات هذا الشعر، وهل للشعر كواحد من الفنون التعبيرية المتعددة مجال خاص كما حاول أن يثبت الناقد الألماني الكبير «لسنج» في كتابه «لاوكون» أم أن كل المجالات مباحة له حتى ولو اختلفت وسيلته عن وسائل الفنون الأخرى، كما يريد بعض الفلاسفة والنقاد المحدثين؛ بحيث يحق للشاعر أن يلج جميع الميادين دون أن يخشى التخلف في قوة التعبير والإيحاء عن غيره من الفنانين كالمصورين والنحاتين والموسيقيين.
وأخيرا لا بد أن نواجه مشكلة الصورة الشعرية التي كثيرا ما تقوم على المجازات والتشبيهات والاستعارات، لننظر في وظيفة هذه الصورة، وهل هي مخاطبة الحواس فحسب بأن يستند التشبيه إلى جامع من المظهر الشكلي، أم يخاطب الروح فيكون الجامع بين المشبه والمشبه به هو الواقع النفسي لكليهما؟ وبذلك ننتقل إلى الطرائق الرمزية في التعبير على نحو ما نحس في قول شاعر كبير مثل رابندرانات طاغور «السكون المشمس»؛ إذ من الواضح أنه لا يشبه هنا السكون بالإشماس، ولا يصفه به، وإنما يشبه وقع ذلك السكون المبهج في نفسه بوقع ضوء الشمس المشرقة؛ لأن المقصود بالتصوير البياني هو الإيحاء لا الإخبار، وهنا تجرنا نظرية الإيحاء إلى النظر في موسيقى الشعر، ومدى أهميتها في التعبير الشعري، هل هي جوهرية كما يزعم الرمزيون، أم أنها مجرد وسيلة كغيرها من وسائل التعبير الشعري!
كل هذه رءوس مسائل نرجو أن نعالجها في الأبواب القادمة مع ضرب أمثلة منتقاة من الشعر العالمي والشعر العربي على السواء، وتحليل تلك الأمثلة، وتطبيق النظريات الجمالية المختلفة عليها.
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
لقد عرف اليونان القدماء الذين يعتبرون رواد الشعر العالمي منبعين أساسيين للشعر، قالت بأحدهما الأساطير الشعبية التي زعمت أن للشعر إلها يوحي به هو أبوللو، وربات لكل فن من فنونه كانوا يسمونها «الميز»، فلشعر التراجيديا ربة، ولشعر الكوميديا ربة، وللشعر الغنائي ربة ثالثة، وباستطاعتنا أن نجد شبيها لهذا التصوير الشعبي عند الكثير من الشعوب القديمة، فالعرب القدماء كانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا في مثل قولهم «لولا هبيد ما كان لبيد.» وإذا كان اليونان القدماء قد تصوروا أن لآلهة الفنون جبلا تقيم فيه هو جبل «البرناس»، فإن العرب قد زعموا أن شياطين الإلهام تأوي إلى واد في بلادهم سموه وادي «عبقر»، ومنه اشتقت لفظة «العبقرية» التي تعتمد على الإلهام.
ولقد اعتنق أفلاطون هذا الخيال الشعبي في فلسفته أخذا عن أستاذه سقراط الذي كان يؤمن ويبشر بالوحي والإلهام، ويزعم أنه كان يتلقى هذا الوحي عن عرافة الإله أبوللو التي تقوم على معبده في مدينة «دلفوس»، وقد نمى أفلاطون نظرية الإلهام كمنبع للشعر في عدد من محاوراته وبخاصة في محاورة «أيون» ولكن هذا الاتجاه الغيبي لم يلبث أن عفى عليه أرسطو بفلسفته العقلية الخالصة؛ فرأيناه في كتابه عن «الشعر» يجعل منبعه - كما قلنا - المحاكاة؛ أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح، وبتخلي أرسطو عن نظرية المثل الأفلاطونية لم يعد الشعر محاكاة لتلك المثل! وإن كان أرسطو قد قرر أن تلك المحاكاة يمكن أن تكون لما يجب أن يكون لا لما هو كائن أو محتمل أن يكون فحسب، ولكن دون تقيد بعالم المثل الذي يمكن أن يفتح الباب لما سماه أفلاطون وسمته الشعوب القديمة بالإلهام، بينما يسميه علماء التحليل النفسي المحدثون كما سنرى ب «اللاوعي» أي مختزنات العقل الباطن ومكبوتاته التي تنطلق من مكامن النفس الخفية فيما يشبه فيض الإلهام.
ولما كان أرسطو يكاد يكون المفكر الوحيد الذي لم تمت مؤلفاته، بل ظلت حية نامية مؤثرة، بل مسيطرة خلال القرون الوسطى ذاتها وبعد ركود الثقافة الإنسانية القديمة؛ حيث لم تجد فيه الديانات السماوية الموحدة كالمسيحية والإسلام، اللتين سيطرتا سيطرة كاملة على جميع نواحي الحياة الفكرية والعاطفية والفنية خلال القرون الوسطى؛ ما يتعارض مع تعاليمهما، بل على العكس وجدتا في فلسفته العقلية ومنطقه ما يعين على تأييد مبادئهما الروحية العقلية مما ثبت سيطرته ونماها، بحيث نلاحظ أنه عندما ابتدأت حركة البعث العلمي بأوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي كانت فلسفة أرسطو لا تزال حية مؤثرة، وبقوة القصور الذاتي ظلت هذه الفلسفة مسيطرة أيضا في عصر البعث، ثم في عصر النهضة التي تلته وازدهرت في القرن السابع عشر قرن الكلاسيكية الأدبية الفنية، بينما ظلت فلسفة أفلاطون منزوية حتى القرن التاسع عشر؛ حيث بعثها الرومانسيون ومكنوا لها، فعادوا يقولون: إن الشعر إلهام وإن منبعه هو الحاجة إلى التعبير عن الوجدان المنفعل بالطبيعة، والحياة والله لا غريزة المحاكاة التي رد إليها أرسطو النشاط الأدبي والفني.
ونتيجة لطغيان نظرية المحاكاة على المذهب الكلاسيكي لم يزدهر من الشعر في هذا المذهب غير الشعر الموضوعي الذي تمثل في الشعر التمثيلي عند شعراء فرنسا الكبار: راسين وكورني وموليير مثلا، وأما الشعر الغنائي، أي شعر القصائد والمقطوعات، فقد ظل خافت الصوت ضيق الإنتاج، وإذا كان هذا الشعر الغنائي، الذي يمكن أن يستند إلى الأساس الفلسفي للمذهب الكلاسيكي وهو المحاكاة، بحيث يأخذ هو الآخر طابعا موضوعيا؛ قد ازدهر في فترة من فترات أدب عالمي كالأدب الفرنسي، فإن هذا الازدهار لم يحدث في العصر الكلاسيكي؛ أي في القرن السابع عشر، وإنما حدث بعد ذلك بقرن كامل؛ أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عندما ظهر شاعر غنائي شاب راح ضحية روبسبير إبان الثورة الفرنسية الكبرى، وهو الشاعر أندريه شينيه الذي ولد من أب فرنسي وأم يونانية، وكان يعشق الأدب اليوناني القديم من كل قلبه، فنادى بما سماه مؤرخو الأدب «الكلاسيكية الجديدة» التي لخصها الشاعر في بيت له يقول فيه: «فلنصغ أفكارا جديدة في ثوب قديم» وبالفعل نراه يكتب في حياته القصيرة باقة جميلة من القصائد التي اتخذ لكل منها موضوعا صب فيه أفكاره وأحاسيسه الحضارية الجديدة في أسلوب بسيط سهل جميل خال من كل تعقيد لفظي أو معنوي، وكأنه أسلوب أحد شعراء الإغريق القدماء، وإن لم تمنعه الموضوعية من أن يعبر عن ذات نفسه من خلال موضوعه على نحو ما نحس في قصيدة الحرية التي صاغها في صورة حوار بين راعي غنم وراعي معز، أحدهما عبد والأخر حر، ومن الواضح أن الإحساس بمرارة العبودية والعطف على العبيد إنما هو شعور حديث؛ فالعصور الوسطى بل والعصر القديم كانت ترى في نظام الرق ظاهرة اجتماعية طبيعية، وإذا كانت الديانات قد أوصت بالشفقة بالرقيق فإنها لم تحرم هذا النظام الذي ظل موجودا حتى العصر الحديث الذي قضى عليه وحرمه باتفاق دولي.
وقصيدة «الحرية» لأندريه شينيه تعتبر مثلا واضحا للشعر الغنائي الذي يمكن أن يقوم على أساس نظرية المحاكاة؛ فالشاعر يريد أن يظهرنا فيها على نزعات الخير التي لا بد أن تنمو في نفس الرجل الحر مقابل نزعات الشر التي لا بد أن تنمو في نفس العبد، وكأنه بذلك يعطينا صورة لنفس الرجلين كما يراها، وإن يكن قد عبر في الوقت نفسه عن وجدانه الخاص وطريقة انفعاله بالوضعين وسخطه على أحدهما ولكن بطريق غير مباشر، وإن يكن من القوة والوضوح بحيث يخرج هذا الحوار الشعري من مجال الأدب التمثيلي إلى مجال الأدب الغنائي.
وها هي ذي القصيدة:
نامعلوم صفحہ