وأما الشعر فقد ميز الأوروبيون في مجاله منذ عصر الإغريق القدماء ثلاثة فنون كبيرة، لكل منها خصائصه وأهدافه، وهي: شعر الملاحم، والشعر التمثيلي، والشعر الغنائي، وذلك بينما لم يعرف العرب القدماء في مجال الشعر غير فن واحد، وهو الفن الغنائي، حتى إذا اتصلنا بالغرب ودرسنا آدابه، وتبينا فيها تلك الفنون المختلفة، أخذنا نحاكيها كما فعلنا في مجال النثر الأدبي، وذلك حين كان بعض تلك الفنون الشعرية الكبيرة قد انقرضت في الغرب، أو أخذت سبيلها نحو الانقراض، وحل النثر محل بعضها كالشعر التمثيلي، على حين مات البعض الآخر ولم يعد يستطيع الحياة بعد أن تطورت الإنسانية، وأصبحت عاجزة عن أن تأتي فيه بمثل ما أتى الشعراء القدماء في فجر الإنسانية، ونعني بذلك شعر الملاحم، وكأننا بذلك نود أن نعود فنمر بجميع المراحل التي اجتازها الأدب في الغرب، وذلك بدلا من أن نجاري تطور الإنسانية العام، فندرك أن الشعر أوشك أن يصبح اليوم مقصورا على الفن الغنائي، وأن التجديد والإبداع في الشعر إنما يتركز اليوم في هذا الفن، وأن معارك الشعر الأدبية إنما تدور عند الغرب في العصر الحديث حول وسائل وأهداف ذلك الفن الغنائي.
ومع ذلك فإنه على الرغم من تطور فنون الشعر على النحو الذي ذكرناه، فإنه لا يزال من الأهمية بمكان أن نوضح وأن نتفهم أصول وأهداف كل فن من هذه الفنون؛ لكي نستطيع فهم مذاهب الأدب المختلفة، ومدى انطباقها أو تأثيرها على كل من هذه الفنون، كما ندرك أسباب نجاح كل مذهب في السمو بأحد تلك الفنون دون الفنون الأخرى على نحو ما نلاحظه من أن المذهب الكلاسيكي مثلا قد أدى إلى تفوق الشعر التمثيلي تفوقا لم يستطع أن يلاحقه أو يدنو منه الشعر الغنائي عند الكلاسيكيين، وذلك على حين نلاحظ على العكس أن الرومانسية قد أنتجت شعرا غنائيا يبذ في قيمته الإنسانية والفنية، الشعر التمثيلي الذي أنتجه الرومانسيون، كل هذا على حين فشل شعر الملاحم عند الفريقين بل عند جميع المحدثين.
أما شعر الملاحم فقد ازدهر في فجر الإنسانية، وهو الشعر الذي يقص أنباء المعارك والبطولة والأبطال على نحو ساذج خال من التعقيدات العقلية والفنية، حتى ليظن أن الملحمتين اللتين تعتبران المثل الأعلى لهذا الفن وهما: الإلياذة والأوديسة لم يبتكرهما شاعر بعينه إنما ابتكر أجزاءهما المختلفة شعراء شعبيون متعددون، ثم جاء هوميروس - إذا سلمنا بصحة وجوده التاريخي - فوعى في ذاكرته كل تلك الأجزاء، ولربما أضاف إليها أجزاء من ابتكاره، ثم أخذ يجوب بلاد اليونان ومعه قيثارته أو ربابته منشدا على نغماتها تلك الأشعار الرائعة بما فيها سحر البساطة ونضرة الجمال الذي يشبه جمال الطفولة، حتى إذا جاء القرن الخامس قبل الميلاد، رأى بيز ستراتوس حاكم أثينا أن يؤلف لجنة من الأدباء والشعراء؛ لتدوين هاتين الملحمتين حفظا لهما من الضياع. ولما كان الخيال الشعري قد احتفظ بذكرى هوميروس الشاعر الضرير، وتوارثت الأجيال أنباء شهرته الذائعة فقد نسبت الملحمتان إليه، وهما تقصان بعض أحداث تلك الحرب الضروس التي نشبت فيما بين القرنين العاشر والحادي عشر قبل الميلاد بين بلاد اليونان ومملكة طروادة في آسيا الصغرى، نتيجة لخطف باريس أحد أمراء طروادة لهيلانة زوجة منيالاس الملك اليوناني أثناء رحلته البحرية إلى بلاد اليونان. ولما كانت اللغة اليونانية عندئذ موحدة المستوى، ولم تكن هناك لغة عامية ولغة فصحى، كما كانت أوزان الشعر وأصوله موحدة؛ فإن هذا الشعر لم يعتبر شعبيا بالنسبة إلى غيره من الشعر الثابت النسبة لشعراء معينين، بل على العكس اعتبر التراث الأدبي الأول عند اليونان؛ حتى رأينا شعراء التمثيليات يعترفون بأن مسرحياتهم ما هي إلا فتات تساقط من مائدة هوميروس.
وسار الزمن سيرته، وأخذت الثقافة تنمو، وبنموها أخذت الطبيعة الإنسانية تتعقد وتبتعد عن الطفولة الأولى، كما أخذت فنون الأدب الأولى - وبخاصة الشعر - هي الأخرى تتعقد وتبدأ فيها بوادر الصنعة اللفظية، ومع ذلك استطاع فرجيل شاعر الرومان أن يضع لبني وطنه ملحمتهم، وهي: الإنيادة التي تقص أنباء جدهم الأعلى البطل أتيوس وتأسيسه لمدينة روما، وما كان له من معارك ومغامرات في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضا. وعلى الرغم من براعة فرجيل الفنية، ونمو ثقافته وتفكيره، فإن أدباء العالم كله لا يزالون يؤثرون الإلياذة والأوديسة على الإنيادة؛ وذلك لسحر بساطتهما وجمال شعرهما التلقائي.
وفي العصور الحديثة حاول عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر كتابة ملاحم، لكنهم فشلوا جميعا، وطوى الزمن ملاحمهم في جوف أمواجه، ولم تعد الإنسانية تقرأ وتعجب إلا بالملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة والإنيادة في الغرب، والمهبراته والرميانا في الهند، والشاهنامة في فارس.
والواقع أن الآداب الفنية في العصر الحديث، قد تركت فن الملاحم للآداب الشعبية، بل في استطاعتنا أن نلاحظ أن العصر الحديث قد أخذت تختفي منه أيضا الملاحم الشعبية، وذلك باختفاء شعراء الربابة المتجولين تدريجا بعد أن تطورت الإنسانية وتعددت لديها وسائل التسلية الآلية كالراديو وغيره، بل بعد أن تعقدت الطبيعة البشرية بنمو الثقافة والتفكير الوضعي، وانقضاء روح الطفولة الغضة بين البشر.
وهكذا نستطيع أن نسجل أن فن الملاحم انتقل بعد العصر القديم من الأدب الفني إلى الأدب الشعبي، ثم انتهى به الأمر إلى الاختفاء فلم تعد الإنسانية تبتكر ملاحم جديدة، وإن ظلت تطرب للملاحم القديمة فنية كانت أم شعبية؛ بحيث يتضح لنا أن محاولة بعض شعرائنا المحدثين كتابة ملاحم إنما هو ضرب من المجازفة التي تتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية. وما نظن أن أحدا منهم يستطيع أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة والسذاجة الساحرة التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة.
هذا، والملاحظ أن الملاحم كانت تتناول معارك وبطولة الماضي السحيق الذي جعل منه الخيال الشعبي والرواية الشفوية ما يشبه الأساطير وخوارق الأمور. والعالم اليوم لم يعد يخترع أساطير، كما أن اختراع الكتابة وتدوين التاريخ لم يعودا يسمحان بتحويل أحداث الماضي إلى خوارق وأساطير، ومن باب أولى أحداث الحاضر؛ بحيث يستطيع أحد شعرائنا المعاصرين أن ينظم قصيدة قصصية أو حماسية طويلة عن حرب فلسطين مثلا دون أن نستطيع إدخالها في فن الملاحم الذي تميز بخصائصه المحددة التي لم يعد يجهلها أحد من عامة الأدباء والدارسين في الغرب.
هذا، وقد ترجم سليمان البستاني إلياذة هوميروس شعرا، وكتب لها مقدمة ضخمة عن الشعر ونشأته وفنونه وأوزانه، لكننا نلاحظ أن هذه المقدمة هي التي تقرأ اليوم أكثر مما تقرأ الترجمة؛ وذلك لجهامة الأسلوب الذي استخدمه، وبعده عن سحر الأصل اليوناني وسذاجته.
كما ترجمت هي وغيرها من الملاحم القديمة إلى اللغات الأوروبية الحية جميعها، ومن بين تلك التراجم النثرية والشعرية ما يقارب الأصل في جماله، لكنه لا يلحق به، ومع ذلك فباستطاعة القارئ لترجمة إنجليزية أو فرنسية، فضلا عن الأصل اليوناني؛ أن يتبين عناصر السحر في تلك الملاحم، وملامح تلك السذاجة الغضة التي تتفتح لها النفس، بل باستطاعتنا أن نحيل السامع لحسن الحظ إلى عدة ترجمات ودراسات ظهرت حديثا في لغتنا العربية عن الملاحم القديمة، مثل: الترجمة الدقيقة التي نشرها الأستاذ أمين سلامة للإلياذة في مطبوعات «كتابي»، ومثل ترجمة ودراسات أديبنا الكبير الأستاذ دريني خشبة لأشعار هوميروس، وأساطير اليونان الأقدمين، ومثل التراجم التي صدرت لبعض ملاحم الشرق مثل: ترجمة أستاذنا المرحوم عبد الوهاب عزام لشاهنامة الفردوسي، والمحاولات التي بذلت لترجمة المهباراتة.
نامعلوم صفحہ