أعرف شابا لا يبالي أن يتغذى بأي طعام يكسر حدة الجوع، ولا يبالي أي لباس يتخذ، ومسكنه غرفة فوق سطح أحد المنازل، وهو بهذه المعيشة غير متمدن؛ أي إنه لا يستمتع بمتع الحضارة في السكنى واللباس والطعام! وهي متع لا تنكر قيمتها، ولكن هذه القيمة صغيرة جدا إلى جنب المتع الثقافية الفنية التي يلمع بها الذهن، وتسمو بها النفس. والمقارنة بين الذهن المثقف وبين حضارة السكنى والطعام واللباس هي أشبه المقارنات بنظافة الجسم إلى نظافة اللباس. وقد كان هذا شأن هذا الشاب؛ فإنه على الرغم من تقتيره في هذه الأشياء، أو بالأحرى إهمالها، كان لا يترك كتابا يستحق القراءة إلا كان يقتنيه، كما كان لا يتأخر عن شراء التذكرة الغالية لحضور حفلة موسيقية، وكنت أجده زري الهيئة نحيلا، ولكن ذهنه حافل بالأثاث العصري للثقافة، ونفسه فنانة لها قدرة كبيرة على التمييز الفني؛ ولذلك كان فقيرا بوسطه غنيا بنفسه.
وقد يكون هذا المثال متطرفا أو مسرفا، ولكن الحياة الراقية تحتاج إلى أن نمارس فنا جميلا ينعكس أثره في نفوسنا وعقولنا؛ فيجب ألا نقرأ الشعر والأدب فقط، بل نحاول ممارستهما. أجل، يجب أن نكون كلنا أدباء وشعراء، نكتب الأدب، ونقرض الشعر، بل أكثر من هذا، ننقل الأدب والشعر إلى حياتنا ليؤلف كل منا حياته؛ فنحترف المجد، ونمارس القداسة، وننزع إلى البطولة في الدفاع عن حق أو انتصار لمظلوم، ونفكر في أسمى المعاني، ونعبر بأنصع الكلمات.
وأولئك الذين ينشدون السعادة ولا يعرفون ما هي قد يجدونها في ممارسة الآداب والفنون من حيث لا يدرون؛ وخاصة إذا انتقلت هذه الممارسة من اللهو والتسلية إلى الكفاح والدعوة لعالم أسمى؛ أي عالم يعيش فيه الناس على مرتبة سامية من الحضارة الفنية.
السعادة
السعادة هي سلام النفس، وأول ما يجب أن نعرفه عنها أنها ليست مادية، ويجب أن نميز هنا بين السعادة والسرور ؛ لأنهما كثيرا ما يشتبهان؛ ذلك أن السرور أو اللذة، مادية، أما السعادة ففكرية. فنحن نسعد بالفكر أو بالإيمان أو الرؤيا أو الأمل، بحيث يحفزنا واحد من هذه الأشياء الأربعة إلى كفاح، ولكنا نسر ونلتذ بالطعام أو اللباس أو المال أو الشهوات الجسمية.
والمسرات واللذات لأنها مادية تتوقف على جوع يشبع أو طمع يحقق، ثم تؤجم في النهاية، أو تؤدي إلى السأم، ولكن السعادة، لأنها فكرية تنهض على إيمان أو كفاح أو اتجاه، لا تؤجم ولا تؤدي إلى سأم؛ فالقديس - مثلا - سعيد بإيمانه، وهو يستشهد في فرح وطرب، وسعادته هنا فكرية، ولكن لذة الطعام تنتهي عند الشبع، وقد تحدث صدودا.
وهناك اعتبارات أخرى تجعل السعادة دائمة باقية، والسرور وقتيا زائلا؛ ذلك أننا حين نسعد بالفكرة لا يعيق سعادتنا حد، أو غيرة، أو مقارنة مهينة لنا بغيرنا، أو إحساس النقص بأن هناك من يحوزون أكثر مما حزنا؛ فقد أسر لأني اشتريت عزبة أو اقتنيت أتومبيلا أو غير ذلك من المقتنيات المادية، ولكني في هذا السرور أحس أيضا أني كنت أكون أكثر سرورا لو لم ... فإن العزبة كانت تكون أسر لي لو كانت أكبر وأخصب، وكان الأتومبيل يمتعني أكثر لو كان من طراز آخر، وهلم جرا. ولكن السعيد بفكرة ما لا يحسد ولا يغار، ولا يحب أن يستأثر بفكرته، بل هو يحب العكس؛ وهو أن جميع الناس يسعدون بمثل سعادته، كما يحدث لأحدنا حين يطرب لاستماعه إلى لحن جميل، أو لأنه يتأمل مبنى عظيما، فإنه يحث رفيقه على أن يستمع أو ينظر ويتأمل.
والسعادة، كالشعر عند إسحاق الموصلي، أيسر مما نظن؛ فهي لا تحتاج إلى التكلف أو المشقة، بل إن السرور أدعى إلى التكلف أو المشقة من السعادة؛ وذلك لأن السعادة ذاتية، في ذوات أنفسنا؛ إذ هي حال معينة أو اتجاه معين، أما السرور فمادي نحتاج فيه إلى الاقتناء.
وقد يكون أيضا من الحق أن نميز بين السرور والسعادة بأن نقول: إن السرور اشتهائي غريزي يتعلق بما نأكل أو نلبس أو نسكن أو نقتني، ولكن السعادة وجدانية مرجعها الفكر؛ أي العقل. والسعادة لهذا السبب تحتاج إلى التربية الفنية، بل إلى المعارف العلمية التي تكشف عن خبايا وكنوز لا تصل إلى كنهها الغرائز؛ فأنا حين أمارس الزهو الاجتماعي باقتناء الأثاث الفاخر، أو بالقيام بالضيافة المطهمة أو نحو ذلك أمارس نشاطا غريزيا شهوانيا له ذيول وهوامش من الغيرة والحسد والطمع؛ أي إنه سرور معلق، ولا أحتاج أن أتعلم كيف أمارسه، ولكني حين أقعد إلى جدول الماء، وأتأمل الطبيعة وهي ترغي وتزبد في الحقول أيام الربيع، وأتابع فراشة في نشاطها الغذائي أو الجنسي أحس سعادة مطلقة؛ سعادة مخية وجدانية، وليست غريزية شهوانية. وهذه السعادة تحتاج إلى تعلم.
وإذا كان القارئ قد تابعنا من منطقنا، فإنه يستطيع أن يعرف لماذا نكون سعداء عندما نتأمل مقطوعة فنية من الشعر أو الرسم أو البناء، أو نستمع إلى مقطوعة فنية من الغناء أو الموسيقى، فنحن هنا إزاء سعادة مطلقة هي فوق الشهوات الغريزية. ونحن لا نأجم هذه السعادة ولا نملها، كما أنها لا تبعث فينا غيرة أو حسدا أو طمعا، ومن هنا سعادة الفنان وسعادة الفيلسوف؛ كلاهما سعيد بفكرته، بل إن العالم الذي يبحث موضوعا علميا سعيد أيضا بعلمه؛ لأنه يحاول كشف سر من أسرار الطبيعة المغلقة؛ فهو هنا كالقديس يرى رؤيا ويعتقد أنها ستتحقق.
نامعلوم صفحہ