41

والجامد الرجعي لا يحيا الحياة الطبيعية؛ لأن النمو والتطور من سنن الطبيعة التي تشهد بهما ألف مليون سنة من تاريخ الأحياء، ومعنى هذا أنهما أصيلان في أعماق سريرتنا، وأننا لن نعيش المعيشة السوية، ولن نقارب السعادة، أو على الأقل السعادة السلبية، إلا إذا كنا في نمو وتطور لا ينقطعان طوال حياتنا.

بل أحيانا، حين نتأمل أحلام اليقظة التي نستسلم إليها في لذة، نجد أننا نطلب التطور كما لو كان شهوة في نفوسنا؛ أي إننا نحس أننا غير راضين عن حالتنا؛ إذ ندأب في التفكير في تغييرها. وليس الإيمان بالمستقبل، بل بالشجاعة والإقدام، سوى إيمان بالنمو والتطور والارتقاء، وكذلك ليست المحافظة والجمود والرجعية سوى الجبن والخوف، وكلاهما يحملنا على الركود والتقلص.

والأمم «الشرقية» لفرط ما عانت من مظالم ملوكها وأمرائها وحاكميها يغلب عليها الجمود؛ إذ هي على الدوام متشائمة بالمستقبل تخشاه وتتراجع عنه كأنها تريد أن تعيش في الماضي. أما الأمم الأوربية فتكاد ترقص للمستقبل، وهي ترضى بالتغيير والتطور، وقد جعلت الارتقاء مذهبا.

وليس من السداد هنا أن ننصح للقارئ أن يكون متفائلا، وأن يتجنب التشاؤم؛ لأن هاتين الحالتين قد تكونتا في الأغلب منذ الطفولة، أو لأن كوارث الحياة قد تراكمت فملأت القلب شكوكا وشبهات بشأن المستقبل، ولكن من السداد أن نبين أننا لن نستطيع أن نتطور؛ أي نعيش وفق سنن الطبيعة، ما لم نكن متفائلين. وعلى كل قارئ - عندئذ - أن يحلل تشاؤمه وخوفه، وأن يعرف مرجعهما، وهو إذا هبط على هذا المرجع عاد إلى التفاؤل والشجاعة.

وأوضح المظاهر للارتقاء والتطور والنمو هو الثقافة. وصحيح أن هناك من يتجه ارتقاؤهم وجهة مالية أو اجتماعية أو سياسية، فيبرزون في هذه الجهات، ويجنون منها ثمرات السرور، ولكنها بالمقارنة إلى الثقافة تعد ثمرات زائلة متقلبة ليست لقيمتها ثبات القيم الثقافية؛ ذلك أننا عندما نرقى بالثقافة ارتقاء نفسيا ذاتيا لا يستطيع أحد أو ظرف أن ينتزعه منا، والنفس تتطور بالتغير الثقافي، فتتجدد وكأنها تستعيد الصبا أو الشباب، وتهبط على عوالم جديدة لم يكن لها بها معرفة من قبل.

والذي نحب أن نثبته ونؤكده أنه ما دمنا في تطور ثقافي فإننا نتجنب السأم والجمود والتبلد، فتمتلئ الدنيا حولنا مباهج، فلا يكربنا اليأس، بل نتحمل حتى الكوارث المرهقة.

وإذا اعتدنا الثقافة فإن الأغلب أننا نخرج منها بمذهب كفاحي للخير البشري، وهذا المذهب يغذونا وينير بصيرتنا عن مغزى الحياة، كما أنه يوفر لنا اهتمامات لا تنقطع، وما دمنا في هذه الاهتمامات، فإننا لن نحس هذا السأم القاتل الذي يغمر حياة المنغمسين في الملذات حين يأجمونها متبرمين منها عازفين عنها.

وفن الحياة هو، في معنى ما، فن العيش في سرور، إن لم يكن في سعادة؛ ولذلك يجب أن نوفر لأنفسنا إحساسات السعادة بإيجاد وسائل الرفاهية الذهنية والمادية.

وعندما نعمد إلى دراسة نحس إحساسا عميقا بلذة التطور؛ ولذلك نحتاج، كي نوفرها، إلى برامج ثقافية متواصلة تحملنا على مراحل الحياة، وتكفل لنا شباب الذهن وتجدده.

وكلما تقدمنا في السن، وخاصة عندما نتجاوز الستين، يتوانى نشاطنا، وقد نتبلد أو نجمد، ولكن إذا كنا قد تعودنا الدراسة، وجعلنا منها منهجا للحياة، فإننا ندخل في دور الكهولة والشيخوخة، ونحن مستبقين لشبابنا، مبتهجين بالدنيا، قد احتفظنا بكلمات اللغة؛ أي بالأفكار. وقد كررنا هذا الكلام، ولكن مهما نكرره فإننا في حاجة إلى تأكيده؛ إذ ليس هناك ضمان للشيخوخة السعيدة إلا مع الثقافة الدائمة التي تستبقي الذاكرة في حيويتها القديمة.

نامعلوم صفحہ