ولذلك يجب أن نستبعد من أذهاننا فكرة الكرم الشرقي حين نفكر في الضيافة الراقية. وصحيح أنه لا بد للضيافة من شيء أو أشياء من الطعام والشراب، ولكن يكون ذلك في حدود التعقل والاعتدال؛ لأننا حين نستضيف أو نستضاف نؤثر غذاء النفوس على غذاء البطون، ونهوى الاستماع إلى حديث يعلمنا وينيرنا، كما نحب لقاء الشخصيات الفذة التي لا يتيسر لنا لقاؤها إلا في مثل هذه الفرص.
ولذلك يجب أن ندرس فن الضيافة باعتباره جزءا خاصا من الحياة العامة؛ فنعين للعائلة يوما كل أسبوع للضيافة، ونجعل الشاي أو المثلجات مع القليل من الأطعمة الخفيفة، كالسندويتش كل ما نقدمه للضيوف. وتقديم الشاي خير من إعداد العشاء؛ ذلك لأنه يتيح سهرة طويلة تبدأ من الساعة الخامسة وقد تنتهي في الساعة التاسعة أو العاشرة، ثم هو لا يبهظنا بتكاليفه فيثبطنا عن المواظبة.
ويجب أن يكون للضيافة الحسنة بؤرة تجمع الضيوف. وقد يكون رب البيت أو ربة هذه البؤرة إذا كان أحدهما ممتازا له مكانة اجتماعية أو أدبية، أو اختبارات نشتاق إلى الوقوف عليها؛ كأن يكون أحدهما عضوا في جمعية لها نشاط معين، ولكن إذا لم يكن هذا متيسرا؛ فإن من الحسن أن تدعى شخصية ممتازة، أو ترتب محاضرة في موضوع يهتم له الضيوف، ثم يتناقش الضيوف. ولسنا نقصد إلى أن نقول: إنه يجب إيجاد محاضر فذ في كل ضيافة؛ فإن هذه الحال المثلى لا تتوافر على الدوام، ولكن ربة البيت التي تتجه هذه الوجهة تستطيع في غياب المحاضر أن تجعل الحديث يدور حول موضوع سياسي أو اجتماعي يشغل الضيوف وينبههم.
والضيافة - كما قلنا - تهوية اجتماعية للبيت، وهي تحرك أعضاء العائلة والضيوف إلى ما يشبه المباراة الفنية في الزي واللغة والشخصية، كما أنها؛ أي الضيافة، تربي أبناء البيت الناشئين على المؤانسة الاجتماعية، فلا ينمو الصبي ثم الشاب في حياة انفرادية معزولة. وقد ينشأ خاما، مربوك الحركة، ثقيل اللسان، لا يعرف كيف يتحدث إلى آنسة، أو كيف يشترك في سمر مهذب منير.
وهناك كتب كثيرة في اللغات الأجنبية تصف فن الضيافة؛ سواء من ناحيته المادية بتهيئة الطعام والشراب الخفيفين، أو ناحيته الاجتماعية بإيجاد ألوان من السمر المسلي.
وفن الضيافة يقتضي العناية باختيار الأصدقاء، والمحافظة على صداقتهم؛ فإن الاهتداء إلى صديق، والاستمتاع بصداقته طوال العمر أو معظمه هما حظ عظيم ومتعة سامية لمن يوفق إليهما. والصداقة لا تنهض ولا تعيش إلا على أسس من العلاقات الروحية التي أثمرها اشتراك في الثقافة أو الأهداف والمثليات الاجتماعية.
البيت معهد حر
البيت في الأقطار المتمدنة في أوروبا وأمريكا معهد حر لا تسوده سلطة الأب الأتوقراطية، ينشأ فيه الأولاد في مجتمع راق يختلطون بالضيوف، ويجدون في هذا الاختلاط تنويرا وتدريبا على المعاملة والإيناس والحديث والكلمة العذبة، والعبارة المهذبة، كما تجد الزوجة فيه مجالا لترقية شخصيتها بما تتحمل من تبعات نحو زوجها وأولادها.
وكلمتا البيت والعائلة تندمجان في معنيهما، والبيت الأمثل هو الذي تسود المساواة فيه أعضاء العائلة؛ ليس بين الزوج وزوجته فقط، بل بينهما وبين الأولاد.
وإذا كان هؤلاء في سن صغيرة يحتاجون إلى الإرشاد؛ فإنه يجب أن يكون خاليا من الاستبداد والتسلط؛ لأننا يجب أن ننشد مبادئ الثورة الكبرى؛ أي الثورة الفرنسية، في البيت قبل أن ننشدها في المجتمع؛ أي يجب أن نعمم مبادئ الحرية والإخاء والمساواة بين أعضاء البيت قبل أن نعممها في المجتمع.
نامعلوم صفحہ