وعلى هذا نقول: إن اختيار العمل الملائم الذي نحبه ونستطيعه هو نصف الانتصار في معركة الارتزاق، بل ربما أكثر؛ لأننا بعد ذلك ننشط إلى الحذق والمثابرة والدرس. ونحن في العادة لا نشرع في الاختيار قبل السادسة عشرة من العمر، ولذلك نحتاج قبل ذلك إلى الإرشاد؛ لأننا نجهل ميولنا وكفاءاتنا، ونحتاج إلى من يحللهما ويخبرنا عن حقيقتيهما.
وكثير من التخلف الذي يصيب الموظف يعود إلى كراهته لعمله؛ لأنه أساء في اختياره؛ فهو يتهاون ويتثاءب ويكره رئيسه، أو يعتقد أنه يرهقه بالواجبات، بل أحيانا يحس صداعا بسبب هذه الكراهة، وهو يتعلل بهذا الصداع لطلب الإجازات، أو للزيادة في التهاون والتكاسل حتى تسوء العلاقات بينه وبين رؤسائه.
وعلاج هذه الحال - إذا كانت الوقاية لم تتخذ من قبل - أن يكون باستخدام الفراغ؛ بحيث يعوض من سأم العمل، وذلك بأن نمارس هواية ما تشغلنا وتعوضنا من النفور من العمل، وتعيد إلينا اتزاننا. ويجب لهذا السبب أن يكون لكل منا هواية، بل هوايات تتوافر بها اهتماماتنا، وعندي أن أعظم هذه الهوايات هو القراءة وتعود الدرس؛ لأنها الهواية الباقية إلى سن الشيخوخة، وهي في ظاهرها هواية واحدة، ولكنها في صميمها جملة هوايات؛ لأن الذي يعشق الدراسة يجد نفسه مشغولا بألوان مختلفة من الاهتمامات؛ يقرأ الجريدة والمجلة، ويناقش في السياسة، وقد يكافح لمذهب فيها، كما يقرأ الكتب ويقتنيها، ويضع المشروعات لدراسات جديدة، فيتجدد بذلك شباب ذهنه، وتتسع آفاقه العملية والأدبية. ومثل هذا الشخص لن يسأم فراغه، ولن يقضيه ذاهلا في غيبوبة نفسية على القهوات، ولن يقع في العادات السيئة؛ كالتهالك على التدخين أو الشراب.
والرجل الموفق هو الذي يجعل هوايته مرتزقة، ولكن يجب أن نعترف أن هؤلاء قليلون في مجتمعنا، حتى الأديب الذي يرتزق بقلمه لا يكتب على الدوام ما يهوى؛ لأن الضغط الاقتصادي يحمله في كثير من الأحيان على ألوان من الإنتاج الكمي لا الكيفي، يهدف منه إلى الكسب لا إلى الفن.
ولهذا نحتاج جميعنا إلى أن يمارس كل منا هواية ما تحل بها مشكلة الفراغ، ومتى حللنا هذه المشكلة فإن العمل الارتزاقي يسهل علينا، فلا يكون ذلك المضض الذي نراه في كثير من الموظفين وهم إلى مكاتبهم يتجهمون لأوراقهم ورؤسائهم.
العائلة والمجتمع
النجاح العائلي أكبر من النجاح الحرفي، ويجب أن يكون كذلك؛ لأن القيم العائلية بشرية في حين أن القيم الحرفية اجتماعية. والعائلة هي زوجة وأولاد وبيت، والرجل الذي وفق إلى اختيار زوجته واستمتع بحبه لها وعنايتها به، وأعقب أولادا وتعب لهم حتى نموا وأينعوا أمام عينيه، مثل هذا الرجل قد حظي بنصيب عظيم من متع الحياة.
واختيار الزوجة هو، مثل اختيار العمل، نصف المعركة؛ لأننا إذا لم نحسن الاختيار تعرضنا لألوان من التعس كنا نستطيع تجنبها، وأعظم ما يتيح لنا الاختيار الحسن أن نطيل مدة الخطبة؛ حتى نعرف بالاختلاط شخصية الفتاة التي سنتزوجها.
وواضح أن الخطيبين يحرصان مدة الخطبة على أن يظهر كل منهما للآخر بأحسن مظاهره، ولكن حتى مع هذا الحرص يستطيع كل منهما أن يفطن إلى الاتجاهات والميول في الآخر.
ويجب أن يتجنب كل منهما إغراء الفتنة؛ فقد يفتتن الشاب بنغمة الصوت، أو زرقة العينين، أو تورد الوجنتين في خطيبته، ثم ينخدع بهذه الصفات إلى الانزلاق في الاختيار السيئ. وخير ما يكفل الاختيار الحسن أن يسأل الشاب نفسه: كيف نكون معا، أنا وهذه الفتاة، في بيت وحدنا بعد خمس سنوات، ثم بعد عشر سنوات؟ كيف نتحدث، وكيف يعاشر أحدنا الآخر، وكيف يكون أولادنا معنا؟
نامعلوم صفحہ