فلسفة الوجود
الوجود
الباب الأول: النظام المادي
1 - التجمع
2 - الدورية1
3 - التفريع أو التفرع
الباب الثاني: النظام الحيوي
4 - ما هي الحياة؟
5 - التجمع والتفرع الحيويان
6 - مقام الحياة في الكون
7 - الدورية في الحياة
الباب الثالث: النظام العقلي
8 - ما هو العقل؟
9 - العقل الاجتماعي
10 - الشخصية
الباب الرابع: قضايا فلسفية
11 - العلل والمعلولات
12 - اللانهايات الثلاث
13 - الأزل والأبد: السرمد
14 - في ما وراء الوجود المادي1
فلسفة الوجود
الوجود
الباب الأول: النظام المادي
1 - التجمع
2 - الدورية1
3 - التفريع أو التفرع
الباب الثاني: النظام الحيوي
4 - ما هي الحياة؟
5 - التجمع والتفرع الحيويان
6 - مقام الحياة في الكون
7 - الدورية في الحياة
الباب الثالث: النظام العقلي
8 - ما هو العقل؟
9 - العقل الاجتماعي
10 - الشخصية
الباب الرابع: قضايا فلسفية
11 - العلل والمعلولات
12 - اللانهايات الثلاث
13 - الأزل والأبد: السرمد
14 - في ما وراء الوجود المادي1
فلسفة الوجود
فلسفة الوجود
تأليف
نقولا حداد
أهدي الكتاب
إلى ابني العزيز الدكتور فؤاد الحداد الكيماوي.
ذكرى مناقشاتنا في أعماق الذرة وأقاصي الكون الأعظم.
فلسفة الوجود
هذا العنوان كبير على هذا الكتاب.
لولا أن الكتاب أسرفوا في استعمال «فلسفة»؛ فلسفة الجمال، وفلسفة الحب، وفلسفة الألوان ... إلخ؛ ما جرؤت على استعمالها لهذا الموضوع الذي هو أجدر من غيره بهذا اللقب الشريف.
كان التعمق في المعرفة العلمية يعتبر فلسفة، حتى إلى زمان نيوتن وبعده؛ فكان كل ما كتب نيوتن عن الجاذبية والنور والطبيعة ... إلخ يعتبره علماء عصره فلسفة، على أن علماء العصر الأخير رأوا أن كل ما يجوز الامتحان العملي والاختبار المعملي يحسبونه علما، ولذلك نقلوا كثيرا من المواضيع الفلسفية القديمة إلى دار العلم، ولم يتركوا للفلسفة إلا ما يسمونه «ما وراء الطبيعة» - وهذه كلمة مبهمة أيضا - ومواضيع الفلسفة الأدبية
Ethics
كالحق والعدل والحرية، والسبب والمسبب، والعلل والمعلولات ... إلخ. ومع ذلك نقلت هذه أيضا إلى دار العلم. وإذن صارت الفلسفة ثانوية بالنسبة إلى العلم؛ وبهذا الاعتبار ألقينا على هذا الكتاب وشاح الفلسفة، مع اعترافنا بأنه يضفي عليه كثيرا.
السلك الذي نظمت فيه حلقات هذا الكتاب هو «سنة الجاذبية»؛ وبهذا الاعتبار تكون الجاذبية علة كل حركة في الوجود، هي «القوة القصوى» المحركة الأكوان، وإذا شاء المؤمن فهي في يد الله؛ هو ضابط الجاذبية، وهو محركها، وما هي إلا «الموتور» في يده - تعالى، وهو- تعالى - يمنحها القوة التي هي ينبوع كل القوى.
معظم نظريات هذا الكتاب خاصة بي، لم أقتبسها من مؤلف آخر، ولذلك يحتمل أن يكون فيها ما يقبل الشك أو الاعتراض أو النقد، فأمنن لمن ينتقد.
نقولا الحداد
الوجود
تمهيد
الوجود مادة متحركة في حيز «مكان».
المكان عرض أولي عينته المادة.
والزمان عرض ثانوي، هو مقايسة المكان بالحركة.
1
فكأن الوجود مبني من ثلاثة عناصر: المادة، والحركة، «الزمان»، والمكان. هذه العناصر مختلفة الطبع كل الاختلاف، واختلافها يهيئ تنظيم البناء وتنويعه.
انحلال كتل الكون إلى ذرات أولية متماثلة - فوتونات؛ أي: ضويئات - يدل على أن أصل المادة «الهيولي» شكل واحد متعدد الذرات أو الذريرات؛ ذرة واحدة لا تبني كونا غير نفسها.
ذرات عديدة متماثلة تبني كونا واحدا بسيطا لا تمايز بين أجزائه، ولكن حدوث حركة الذرات في المكان يؤدي إلى تنويع الأبنية الكونية؛ فالكون على صوره العديدة المختلفة الأشكال مكون من هذا الثالوث: المادة والحركة والحيز.
هل يكفي لبناء الكون مجرد وجود هذا الثالوث؟ نرى تشابها في صور الكون وأشكاله، ثم نرى ارتباطا بين أجزائه وجماعاته؛ فتقيم هذه الرؤية في ذهننا وجودا آخر معنويا لهذا الارتباط وذاك التشابه، وهو وجود نظام تصاغ بمقتضاه صور الكون وأشكاله - هو هندسة الكون.
هذا النظام هو تكافل عناصر الثالوث المذكور ببناء الكون على أساليب تضمن ارتباط أجزائه والتدرج في تطوراته درجات متصل بعضها ببعض.
وهنا تلوح في بالنا الأمور التالية: (1)
هندسة النظام تستلزم عملية تنظيم. (2)
التنظيم يستلزم وجود أعضاء نزوعة للنظام، تنتظم في جسم. (3)
وجود الأعضاء يستلزم أن تكون ذات شخصيات - ذاتيات. (4)
النظام يستلزم وجود منظم.
فهندسة الكون - أي: نظامه - تقتضي وجود أعضاء نظامية وتنظيم ومنظم، فأين نجد هذه الثلاثة؟ •••
الأعضاء النظامية هي عناصر الثالوث المذكورة آنفا التي لا يمكن وجود واحد منها مستقلا عن الآخرين: المادة وجدت متحركة في حيز؛ فالعناصر المذكورة متوقفة بعضها على بعض، وفناء أي واحد منها فناء لجميعها.
والتنظيم ظاهر في أن جميع أجزاء الكون سائرة على قانون أنظمة واحد، ناف للفوضى نفيا مطلقا.
أما المنظم فهو ما يتعذر إدراكه، هل هو طبيعة في ذرات المادة نفسها؛ أو هو فاعل مستقل عنها؟
المادة نفسها تثبت وجودها لعقليتنا بنفسها، وتثبت أيضا أنها هي منشأ عقليتنا؛ لأن عقليتنا منفعلة بها. وأما الفاعل المستقل فليس ما يثبت وجوده لنا، وإنما افترضناه؛ لأنه تعذر علينا أن نفهم كيف يمكن أن يكون المنظم طبيعة في ذرات المادة.
فإذا قلنا: إن المنظم الحر الإرادة هو طبيعة في ذرات المادة نفسها غير مستقل عنها تعددت الإرادات الحرة بتعدد الذرات؛ فإن اتفقت كلها على نظام واحد استوى كونها حرة وكونها غير حرة؛ لأن لا معنى للحرية إلا بوجودها إلى جنب قيد، وإن استقل كل منظم بمقتضى حريته كان شكل الوجود فوضى ولا نظام. وإن افترضنا أن إرادات الذرات متماثلة فيما تريد، ولذلك اتفقت على نظام واحد، قام الشك في حريتها؛ لأننا لا نتيقن أنها حرة إلا باختلاف ما تريده، ولذلك يتعذر علينا فهم أن ذرات المادة نفسها نظمت نفسها، كما أنه يتعذر علينا أن نفهم أنها أوجدت نفسها، أو خلقت نفسها.
وإذا افترضنا أن المنظم مستقل عن الثالوث المادي الذي ذكرناه، وأنه فاعل فيه بحسب مشيئته، فكأننا نقلنا مشكلة الخلق من المادة إلى منظم المادة، وتبقى المشكلة مشكلة.
فإذن، مسألة السببية
Causation
تقف هنا حيث لا نستطيع أن نستكشف مسببا للوجود المادي ولا لنظامه، هنا يقف العقل عاجزا؛ لأنه يستحيل عليه أن يفهم أكثر مما ينفعل به، وهو لا ينفعل بأكثر من فعل المادة نفسها فيه، لا يستطيع أن يتخطى إلى الفاعل البدائي - أي: الصلة الأولى - الذي يفعل فيها ويصوغها في نظامها.
العقل نتيجة تفاعلات مادية، كأنه ظاهرة من ظاهراتها، أو نوع حركة من حركاتها، فإذا توقفت أو تعطلت هذه الحركة انتفى العقل بتاتا؛ فهو كالنور الصادر من الشمس، فإذا سكنت كل حركة في الشمس انقطع انبعاث النور؛ لذلك لا يستطيع العقل أن يستقل عن المادة وينفصل عنها ، ويقيم بذاته في مقام يستطيع منه أن يشرف على المادة ويتبين أصلها وفصلها.
إذن فمقدرة العقل في الإدراك محدودة ضمن دائرة ظاهرات المادة التي هو واحد منها؛ فيستحيل عليه أن يخرج من دائرة الظاهرات ويتغلغل في أعماق كنه الجوهر. هذا المستحيل هو أعظم المستحيلات على العقل البشري من ناحيته، وأبسط أسرار المادة المحجبة من ناحيتها.
فمن ذلك نرى أن العقل على عظمه بين ظاهرات المادة، وعلى تعاليه فوقها للإشراف عليها - على الظاهرات؛ هو ضعيف جدا، وحقير وعاجز عن استكناه جوهر المادة، لا يستطيع في هذا الاستكناه إلا التكهن اعتمادا على قوة الاستدلال والاستنتاج القابلة الخطأ. •••
إذن فلكي نستطيع أن نجعل بدءا للبحث - أي: أن نعين النقطة لأول خطوة فيه - يجب أن نفترض فرضا يتوسط بين الغرضين السابقين، وهو أن النظام نفسه عنصر من عناصر الوجود غير مستقل عنه، هو رابع العناصر الثلاثة التي رأيناها مواد البناء الأولية؛ أي: إن الوجود مبني من أربعة أشياء: المادة، الحركة، المكان، النظام. أعني أن سبب وجود النظام هو نفسه سبب وجود ذلك الثالوث سواء أكان ذاتيا أم من فعل فاعل مستقل. إن الذي خلق الثلاثة خلق الرابع أيضا، خلق أربعة لا ثلاثة فقط؛ فالوجود رابوع لا ثالوث. •••
هنا يتجلى لنا سؤال ذو شأن عظيم: هل كان ممكنا أن يتنظم الكون نظاما آخر غير نظامه الحالي الذي نعرفه؟ أم إنه يستحيل أن يكون له نظام آخر غير هذا؟
إن كان الأمر الأول ممكنا كان المنظم حرا - سواء كان ذاتا من خواص المادة أو مستقلا عنها - وقد اختار هذا الشكل من الأنظمة دون أشكال أخرى، ويحتمل أنه متى انتهى عمر هذا النظام يعود فينظم نظاما آخر.
ولكن الظاهر لنا من سلسلة السببية؛ أي: سلسلة النظام التي كل حلقة منها سبب لحلقة أخرى بعدها؛ الظاهر لنا من هذه السلسلة أنه لا يحتمل أن يكون للكون إلا نظام واحد، وهو النظام الذي نعرفه له الآن، اللهم إلا إذا كان ثمت منظم مستقل حر الإرادة في وسعه أن يجعل له نظاما آخر لو شاء، وهو ما لا مبرر لافتراضه أكثر من المبرر لافتراض أن هذا الرابوع المادي موجود كما هو بنفسه.
وإذا كان ذاك الغرض لا يمتاز على هذا بشيء سوى أنه يزيد حلقة في سلسلة السببية بلا داع، فالأفضل أن نبتدئ من فرض أن الوجود وجد مهيئا لهذا النظام. وبعبارة أخرى أقرب منالا: إن المادة وجدت متحركة، في حين أنها نزوعة إلى هذا النظام. النظام رابطة الثلاثة.
ولأننا لا نستطيع أن نتصور نظاما غير هذا، فهو إذن طبيعة في المادة نفسها أو سجية فيها.
الباب الأول
النظام المادي
ما هو النظام العام؟
أولا:
عملية التنظيم العام تجري على ثلاثة أشكال: (1)
التجمع. (2)
الدورية. (3)
التفرع.
ثانيا:
حاصل هذا التنظيم أطوار متنوعة في أبنية الوجود، حصل منها إلى الآن ما يأتي: (1)
تكون الذرات فالجزيئات. (2)
تكون السدم والأجرام والسيارات. (3)
تكون الخليات من الجزيئات في فرعي الحياة. (4)
حدوث العقل الفردي. (5)
حدوث العقل الاجتماعي. (6)
والله أعلم ماذا يحدث بعد هذه الخمسة.
ثالثا:
الشخصية.
بحثنا يمضي في هذه المواضيع المتداخلة، نبحث أولا في عملية التنظيم، ثم نفصلها في كل عن حاصلاته الخمس.
ولا يخفى أن أشكال عملية التنظيم تجري معا متكافلة؛ ففي حين يحدث التجمع يكون دوران الوحدات الذرية وغيرها حادثا أيضا، وفي الوقت نفسه يحدث التفرع.
فإذا ابتدأنا بشرح التجمع؛ فلأنه بطبيعة الحال أول ما يلفت النظر.
الفصل الأول
التجمع
(1) الدرجة الأولى: التجمع الذري
إن أول خطوة في نشوء الكون هي تجمع ذرات الإيثر «أو بالأحرى فوتونات المادة؛ أي: ضويئاتها، إن كانت الفوتونات غير ذرات الإيثر»؛ من تجمعها في كهارب وكهيربات تتكون الذرة.
1
الفوتون «الضويء» - على حد علمنا - أبسط وحدة في المادة؛ أي إن ربوات الفوتونات التي تشغل حيز الوجود «المكان
Space » متماثلة. فكيف تجمع بعضها في صنفي جماعتين مختلفتين - جماعة البروتونات «الكهارب» وجماعة الكهيربات «الإلكترونات»، جماعة البروتون - الكهرب - 1840 ضعف جماعة الكهيرب، وجماعة الكهيرب تعد عشرة آلاف فوتون - ضويء، وكل كهرب يقابله كهيربه.
قلنا آنفا: إن الحركة في الحيز من جوهريات عناصر الوجود، فالفوتونات تحركت متجاذبة فتجمعت في جماعاتها، والتجاذب طبيعة فيها، أو هو سجيتها كما خمناه؛ إذ لم نجد له سببا غير هذا. فكيف تجمعت مبدئيا على شكلين: كهرب وكهيرب؟ لماذا لم تتجمع مبدئيا على شكل واحد أو ثلاثة أشكال أو أكثر؟
هذا ما يتعذر علينا فهم سببه: على أنها لو تجمعت على شكل واحد لما تنوعت مركباتها، فحدوثها على شكلين كفل تنوعها، ولا لزوم لتجمعها على ثلاثة أشكال أو أكثر، ولو تعددت أشكالها لتفاقمت أنواعها جدا.
نكاد في تحدد تجمعها على شكلين فقط: كهرب وكهيرب، لا شكل واحد، ولا ثلاثة أشكال أو أكثر؛ نلمس المنظم الحر الإرادة الحكيم التدبير. (1-1) التجمع البسيط: تكون البروتون «الكهرب»
رأينا في ناموس الجاذبية
2
أن الجذب إلى المركز في جسم يدور على محوره يكفل تزاحم الأجزاء حول المركز إلى حد معين، وبعد هذا الحد لا يكفل ارتباط الأجزاء السطحية فيه لسبب عامل آخر غير الجذب، وهو عامل الدوران المحوري الذي يقاوم الجذب، فيتغلب الدفع عن المركز على الجذب إليه «
Centrifugal
أكثر من
Centripetal »، وقد علمنا من ناموس الجاذبية أيضا أن الدوران المحوري ابتدأ منذ ابتدأ التجمع. وعلمنا أيضا أن قوة الجذب تنقص كمربع البعد، وعلمنا أن قوة التجاذب مناسبة لكتلة الذرات المتجاذبة، فإذا راعينا هذه الحقائق جميعا معا أمكننا أن نتصور أن قوة التجاذب الفوتوني لا تستطيع أن تضبط حول مركز واحد أكثر من عدد معين من الفوتونات متزاحمة حوله على شعاع
Radius
معين مقرر، وقد اكتشف العلم حديثا أن هذا العدد هو 18400000 فوتون، فما زاد عليه تنفضه قوة الدوران المحوري البعيدة عن المركز؛ لأن قوة الجذب عند آخر الشعاع تصبح ضعيفة بالنسبة إلى قوة النفض. فحجم الفوتون، ووزنه، وتزاحم الفوتونات في جسم كروي، وسرعة الدوران المحوري؛ كل هذه قررت أن لا يزيد البروتون عن 18 مليون و400 ألف فوتون. (1-2) التجمع الأبسط: تكون الكهيرب «الإلكترون»
هكذا تكون البروتون. فكيف تكون الكهيرب - الإلكترون؟
الكهيرب هو جماعة فوتونات - 10 آلاف فوتون - كانت منجذبة إلى مركز البروتون مع ما انجذب إليه من الفوتونات ، ولكن قوة التشريد عن المركز أبعدتها عنه، وجعلها التموج الأيثري الحادث من دوران الكهرب المحوري تدور حول الكهرب على بعد مناسب حسب قانون التسارع؛ فتجاذبت في فلكها وتجمعت في الجماعة التي نسميها: كهيربا، وهي بنوبتها تدور حول مركز الكهيرب دورانا محوريا أيضا، ودورانها هذا مع دورانها في فلكها جعلها أقل كثافة من الكهرب - البروتون - بحيث تساويه حجما مع أنه 1840 ضعفا منها كتلة؛ لذلك يعتبر الكهيرب - الإلكترون - أكثر تعرضا للتفتت أو التفكك من البروتون - الكهرب، كما هو معلوم من أن معظم أشكال التشعع غير الكهرطيسي هي من صنف جاما. وهو فوتونات لا تعبئة كهربائية فيها. (1-3) التجمع المركب: تكون الذرة البسيطة
رأينا آنفا أنه متى تكون البروتون - الكهرب - تكون معه كهيرب - إلكترون، فمن البروتون المفرد وكهيربه تتكون أبسط ذرة في الوجود وهي ذرة الهيدروجين، والغالب أنها أول ذرة تتكون في بدء التجمع الفوتوني؛ ولذلك هي أكثر الذرات عددا في السدم المتكاثفة.
بدء التجمع لا يستلزم أن يكون دائما تكون البروتونات علة لتكون الإلكترونات، فقد يحتمل أن تتكون أولا جماعات لا هي بروتونات ولا هي إلكترونات، وإنما لا تلبث أن تتجمع هذه الجماعات، فتتكون منها بروتونات بحكم سرعة دورانها المحوري التي هي سرعة مقررة أو مستقرة
Constent . وتسبب دوران جماعتها المحوري بسرعة مناسبة لها ولعدد الفوتونات المتجمعة. والجماعة لا يستتب كيانها إلا إذا كان عددها 18 مليونا وذات شعاع «نصف قطر» طوله واحد من 125 مليون من القيراط، ويحتمل أن تتكون إلكترونات وبروتونات، ولكنها لا تلبث أن تتجمع وتتمازج في بروتونات. (1-4) التجمع المركب: تكون الذرة المركبة
سنرى فيما يأتي في هذا الفصل أن عملية التجمع المستمرة تنتج ضغطا على الأجزاء المتزاحمة حول المركز؛ فلنسلم الآن أن من مقتضيات التجمع الضغط، وأن هذا الضغط المتتابع من ذرات على ذرات يحدث أمرين معا:
أولا:
أن الإلكترونات التي تحت الضغط تضعف سرعتها في أفلاكها حول بروتوناتها فتهبط إلى بروتوناتها.
3
وبسبب الضغط نفسه لا تستطيع البروتونات أن تشردها عنها بقوة التشريد عن المركز
Centrifugal ؛ لأنها هي نفسها قلت سرعتها أيضا، وهذه الحال هي ما نسميه الحياد الكهربائي
Neutrality ؛ أي: إن البروتون المتحد مع إلكترونه ليس في حالة التعبئة الإيجابية - هو النيوترون
Neutron .
ثانيا:
أن هذا الضغط نفسه يحدث انضمام بعض البروتونات إلى بعض، فتتداور بعضها حول بعض بحكم التموج الأيثري الذي يحدثه فيما بينها، وتصبح كأنها جماعة أو أسرة واحدة. يحدث هذا الانضمام بين بروتونات مختلفة في سرعة الدورة المحورية وفي الاتحاد الكهربي؛ أي: إن بعضها معانقة إلكتروناتها وبعضها غير معانقتها، هذا الاختلاف يسهل تجمعها في أسرة واحدة، ولولاه لتعدد تجمعها، ولكان غير مستتب.
هكذا تكونت الذرات المركبة من بروتونين فأكثر، وتعددت حتى بلغت إلى ذرة الأورانيوم ذات ال 238 بروتونا، والبلوتونيوم ذي ال 239 بروتونا.
لذلك نرى في الشمس وأمثالها من الأجرام أن الذرات الثقيلة توجد غالبا حول المركز؛ لأنها تحت الضغط الشديد، والخفيفة توجد بعيدة عنه، وربما وجدت هناك ذرات أخرى أثقل من الأورانيوم لا توجد أنداد لها في أرضنا، ولهذا نرى أن الذرات الثقيلة هذه متى برحت من تحت الضغط صارت عرضة للتفكك بواسطة الإشعاع الموجي
Radiation ؛ لأن كل تجمع يكون أكثر عرضة للتفكك كلما كان كبيرا، كما سنرى.
ووجود الأورانيوم وسائر الذرات الثقيلة في أرضنا يدل على أنها ولدت في الشمس حين كان تكاثفها كافيا لإنشاء ضغط كاف لتكوين هذه العناصر الثقيلة، ولذلك نرى أن مقادير هذه العناصر الثقيلة على الأرض قليلة جدا بالنسبة إلى مقادير العناصر الخفيفة؛ لأن الأرض وسائر السيارات تولدت من قشرة الشمس السطحية حين لم يندفع من وسطها إلى سطحها إلا القليل النادر من العناصر الثقيلة، وكلما تقادم الجرم يشتد الضغط بتقلصه فتتكون فيه ذرات عديدة البروتونات، لا وجود لمثيل لها في أرضنا. أكثف الذرات عندنا الأورانيوم ووزنه الذري 238 وفيه هذا العدد من البروتونات والنيوترونات، ولكن في قلب الشمس من الذرات ما هو مركب من أضعاف هذا العدد من البروتونات، قد يناهز السبع مائة بروتون في ذرة واحدة، وفي بعض الأجرام أكثر من ذلك، ولا يخفى عليك أنه كلما كثر عدد البروتونات في الذرة أصبحت عرضة للتفكك والتشعع إذا خف الضغط عنها.
وسنرى أن الضغط لا ينتج تكون الذرات المركبة فقط، بل ينتج شيئا من الفوضى بين البروتونات والإلكترونات أيضا، بحيث تنقطع الروابط فيما بينها في بعض الأحوال فتصبح الإلكترونات متشردة بين البروتونات بلا نظام. (1-5) مركب المركب
في كتابنا عالم الذرة شرحنا كيفية تكون الجزيئات من ذرات مختلفة شرحا كافيا. فليراجع هناك.
في المركبات المعدنية لا تتجاوز ذرات الجزيء بضع عشرة، ولا تبلغ هذا العدد إلا في النادر، ولكن المركبات العضوية «النباتية والحيوانية» تبلغ ذرات بعض جزيئاتها بضع مئات، وسنلم بها في موضعها. •••
رأينا فيما تقدم أن الجزيء مركب من ذرات، والذرة من بروتونات وإلكترونات، وهذه من فوتونات؛ أي: إن التجمع هنا خطا ثلاث خطوات، والائتلاف في كل منها شديد بحيث إن المركبات متماسكة في الجزيء الواحد تماسكا متينا، يجعلها متمايزة غير ملتبسة في التجمع الأكبر الذي يتألف منها كما سترى. (2) الدرجة الثانية: تجمع التجمع
يعتبر الجزيء نظاما تاما قائما بنفسه مستقلا بتحركه، وبين عناصره تجاذب تام قوي يحفظ كيانه، وإنما يحتمل أن يتفاعل مع جزيء آخر أو أكثر، فينشأ من تفاعلهما جزيء جديد أو جزيئات جديدة أو أكثر، ولكن مهما حدث من التفاعل؛ فلا بد من تجمع الذريرات في جزيئات إلا نادرا - في بعض العناصر الراسخة كالأرجون. وكذلك لا بد من ارتباط البروتونات بالإلكترونات، إلا حيث كان الضغط شديدا محدثا فوضى.
فالتجمع الراسخ هو تجمع الفوتونات في الجزيء على 3 درجات كما رأيت. هنا قوى التجاذب أشد جدا منها في التجمعات التالية. (2-1) التكتل
الجزيئات، والذرات التي لم تتألف بعد في جزيئات، أو لم يتيسر لها هذا التآلف، وإن كانت مستقلة بنظامها الداخلي، فنظامها هذا لا يمنع أنها تنتظم في نظام آخر أعم وأكبر، بحيث لا يستطيع أي جزء - أو أية ذرة - أن يستقل بحيزه استقلالا تاما بين ملايين أوربوات الجزيئات المجاورة له، ما دام متحركا - دائرا - في حيزه ككل جزيء غيره، وما دام البحر الأيثري يتموج بحركة كل جزيء وتصادم أمواجه كل جزيء.
فالجزيئات والذرات، بتداخل هذه الحركة الموجية، مختلطة الحيزات متبادلتها متجاذبة متدافعة حسب سنة الجاذبية؛ لذلك وهي تتكون تحتشد في حيز أكبر متجاذبة إلى مركز واحد مزدحمة حوله ازدحاما تتوقف شدته: (1) على عدد الذرات التي تتجاذب متكتلة في كتلة واحدة مستقلة عن كتل أخرى مثلها، يفصل بينها حيزات رحيبة. (2) على قربها إلى المركز. وهذا الزحام هو سبب الضغط الذي أشرنا إليه آنفا، وهو يساوي عدد ذرات الكتلة مقسوما على الشعاع - نصف القطر - ذ/ش، ونسبه في مناطقه كمربع البعد؛ فكلما كان عدد الذرات عظيما والشعاع قصيرا كان الضغط أشد، وإذا راعينا الزمان في أمر هذا الزحام كما راعينا المكان أدركنا أن الضغط لا يستمر على وتيرة واحدة، بل يشتد رويدا رويدا حول المركز، وباشتداده تتآلف ذرات وجزيئات جديدة كثيرة البروتونات، كما أنه تتفتت جزيئات أخرى وتتيه إلكتروناتها بلا نظام.
حين تتكون الذرات والجزيئات في أثناء هذا التكتل الذي نحن بصدده يحدث هذان التجمعان متعاصرين، فقد لا يسبق أحدهما الآخر، وإن كان ثمت سبق فهو لتكون البروتونات والإلكترونات، ولا يلبث أن يليه الشروع بالتكتل، وفيما يكون التجمع الأول والتجمع الثاني - تجمع التجمع - حادثين لا يفرغ الحيز من فوتونات غير متيسر لها التجمع بسبب عرقلة التجمعات الأخرى لها.
فالسدم المنفصلة بعضها عن بعض هي التكتلات التي نصفها ونعلل وجودها أو نشأها، وهي في أول عهدها مؤلفة خليطا من بروتونات مجردة من إلكتروناتها، ومن إلكترونات منفصلة عن بروتوناتها، ومن ذرات تامة التكون، ومن جزيئات تامة التكون أيضا، ومن فوتونات حائرة لم تتألف بعد، وكلما تقادم عهد السديم ازداد عدد جزيئاته وذراته، وقل عدد بروتوناته المجردة وإلكتروناته التائهة وفوتوناته الخائرة. (2-2) تكتل التكتل
الكتلة المتكونة على هذا النحو، المستقلة بحيزها، المنفصلة من جاراتها، تكون نظاما تاما قائما بنفسه ذا مركز تتجاذب ذراته إليه من كل ناحية، ومحور تدور حوله حسب سنة التسارع.
ولكن استقلالها بنظامها لا يمنع أن ترتبط بنظام آخر أكبر وأعم، بسبب أن هذه الكتل - وهي لا تزال متجاورة - ينازع بعضها بعضا كأنها تغزو بعضها بعضا، فتتغلب كبيرة على صغيرة، وتجذبها إليها، أو ترجح جاذبية واحدة على جاذبية أخرى فتسلخ منها نطفة أو كتلة، وهكذا تصبح الكتلة مجموعة كتل كل واحدة منها ذات نظام خاص لها، وجميعها مشتركة بنظام واحد عام، تتجاذب فيه إلى مركزها، وتدور حولها دورة أخرى غير دورتها على نفسها، كما سنشرحه في محله. وفي المجرة كثير من هذه الكتل المستقلة بنظامها من ناحية، والمشتركة بنظام المجرة العام، كالنظام الشمسي والنظم العنقودية والكوكبات
Constalations . (2-3) قوى روابط التجمع
نظرة إجمالية فيما تقدم من الشرح ترينا السنة العامة لروابط التجمعات المختلفة، أو تتجلى لنا فيها سنة الجاذبية كأنها القوة الوحيدة التي تربط هذه التجمعات المختلفة.
نلاحظ أن التجمعات الأولى الدقيقة - الكهارب والكهيربات - أمتن من التجمعات الثابتة - الذرات، وهذه أمتن من التجمعات الثالثة - الجزيئات؛ ذلك لأن فوتونات البروتون أشد تقاربا من فوتونات الإلكترون، وفوتونات الاثنين أكثر تقاربا من الكهارب والكهيربات في الذرة، وتقارب هذه أكثر من تقارب الذرات في الجزيء، وبحسب قانون الجاذبية قوة التجاذب تشتد كمربع البعد عن المركز. وبناء عليه أمتن التجمعات تجمع فوتونات البروتون وأضعفها تجمع الذرات في الجزيء؛ لذلك حل الجزيء وتفتيته أسهل من حل الذرة، وحل هذه أسهل من حل الكهيرب، فالكهرب، كما هو معلوم. ولذلك أيضا نرى أن القوة الصادرة من حل الكهرب أعظم جدا جدا من القوة الصادرة من حل الكهيرب، إن تيسر تفتيت كل منهما، وإلى الآن لم يتيسر إلا تفتيت الذرة ثم تفتيت نواتها إلى بروتونات وإلكترونات متفرقة، وقد ظهر أن القوة الصادرة من تفتيت الذرة عظيمة جدا فما بالك في القوة التي تصدر من تفتيت البروتون والإلكترون إذا تيسر تفتيتهما صناعيا واعتقال القوة الصادرة منهما واستخدامها - وقد تيسر هذا في القنبلة الذرية كما يعلم القارئ في كتابي «عالم الذرة» حيث يتضح كيف أن تفتيت الذرة يصدر قوة.
نحن نعرف القوة الصادرة من حل الذرة، أو بالأحرى من فصل كهيرب واحد منها ونقله إلى ذرة أخرى، وهي قوة الكهرباء التي تحولها إلى قوة ميكانيكية باستخدامها في مغنطة الحديد، وكذلك نعرف القوة الصادرة من حل الجزيء إلى ذرات تتبادلها الجزيئات المختلفة، وهي قوة الكهرباء الكيماوية في البطاريات، ونعرف جيدا أن القوة الأولى أضعاف أضعاف القوة الثانية.
نسمي النظام الذري نظاما كهربائيا؛ لأن الذرات تتبادل كهاربها تبادلا متتابعا نسميه تيارا كهربائيا، ونسمي النظام الجزيئي نظاما كيماويا؛ لأن الجزيئات تتبادل ذراتها مقايضة، فتتحول من صنف إلى صنف، ولكن هذه التسمية لا تدل على تنوع التجاذب بين الوحدات المتجاذبة سواء كانت فوتونات أو بروتونات أو إلكترونات أو ذرات أو جزيئات؛ فالتجاذب واحد فيها جميعا، وسنته واحدة وهي ناموس الجاذبية بعينه، وإنما الفرق بين التجاذبات في هذه المذكورات إنما هو في حدة الجذب بسبب تقارب الوحدات أو تباعدها. ليس سوى هذا.
وإذا تجاوزنا النظر في الذرة والجزيء إلى النظر في أنواع التكتل المختلفة نرى قوة التجاذب أصبحت أضعف جدا؛ لشدة تباعد الجزيئات بعضها عن بعض، ككتل الغاز وكتل السوائل وكتل البلورات وكتل سائر الجوامد، فهذه سهل حلها جدا، ولذلك فالقوة الصادرة من حلها ضعيفة جدا بالنسبة إلى القوة الصادرة من حل الذرات. حسبك أن تقارن القوة الصادرة من الآلة البخارية بالقوة الصادرة من المولد الكهربائي، بمراعاة مقدار المواد المستخدمة لكل من العمليتين؛ فترى الفرق الهائل.
ونحن نسمي قوة التكتل بجاذبية الملاصقة وجاذبية الالتصاق والجاذبية الشعرية ونحو ذلك، وما خرجت عن كونها الجاذبية العامة بعينها، وإنما هي ضعيفة جدا هنا لتباعد الذرات والجزيئات جدا بالنسبة إلى تباعد وحدات الذرات.
وإذا انتقلنا إلى عالم السدم والأجرام رأينا قوة التجاذب في منتهى الضعف بحيث تدع جسيمات الكتل الغازية متفرقة وكتل السدم والأجرام مبعثرة مشتتة، وهي أميل إلى التباعد منها إلى التقارب، كما هو معلوم من تمدد الحيز الكوني وانتفاخه، وتشتت السدم والمجرات في الفضاء اللامتناهي.
الفصل الثاني
الدورية1
فيما كان التجمع حادثا على اختلاف أنواعه المتعاصرة كانت الحركات الدورانية جارية للقيام بمهمة التجمع؛ أي: إن التجمع كان يحدث بحركات دورانية؛ ولذلك لا نرى بدا من شرح نظام الدورية قبل استئناف الشرح لأطوار التنظيم الأخرى: الحياة، والعقل، والاجتماع - التي هي ضروب أخرى من التجمع بأساليب الحركات الدورانية، كما سيتضح جليا حين بحثنا فيها. (1) الاستدارة
ولا بد أن يكون القارئ قد لاحظ في متن كتابنا «جاذبية نيوتن» أن الحركة التي يقتضيها التجمع إنما هي ذات صفتين؛ الأولى: انتقال قدر من المادة من حيز محدود بها إلى حيز آخر. والثانية: أن هذا الانتقال لا يكون في حال من الأحوال في خط مستقيم بالمعنى الإقليدوسي - أقصر مسافة بين نقطتين، ولا يلتقي طرفاه - بل يكون في خط منحن يلتقي طرفاه في محيط دائرة، أو يكون قوسا من دائرة. فالحركة التي يحدثها تجمع وحدات المادة وتوزعها هي تنقل الوحدات من نقطة إلى نقطة مجاورة حسب قاعدة المقدار «الكونتم
Quantum » على التوالي، بحيث يتكون من النقط المتجاورة التي تتنقل عليها المادة في خط منحن، ولذلك يتراءى لمخيلتنا أن حيز مجال الجسم المتحرك من طبعه منحن. والحقيقة أن تحرك المادة الطبيعي هو الذي رسم حيزه أو خططه
2
منحنيا؛ لأن المكان
Space
من طبيعة المادة نفسها، وتحرك المادة من نقطة إلى أخرى في المكان ابتدع الزمن كما علمت في مقدمة هذا الباب، فلو انتفت المادة بتاتا لفني معها المكان والزمن جميعا.
ولا يمكن أن تكون الحركة في خط مستقيم للأسباب التالية: (1)
الانحناء؛ لأن المادة «المتحركة» ليست كتلة غير متناهية، بل هي كتلة محدودة المقدار، فلو تحركت أجزاؤها أو وحداتها في خطوط مستقيمة مختلفة الاتجاهات لتشردت في الفضاء اللامتناهي، ولما حدث شيء من تجمعاتها التي نشاهدها، ولو تحركت جميعا في اتجاه واحد بسرعات متفاوتة لحدث هذا التشرد نفسه، ولو تحركت في اتجاه واحد بسرعة واحدة لكان سكونها وتحركها سيين؛ إذ ليس ما يميز النسبة بين الحالتين. (2)
لأن المادة ليست كلا غير مجزأ أو غير قابل للتجزؤ، بل هي أجزاء أو وحدات متعددة متجمعة وجماعات وحدات مؤلفة للكل، فلا مقتضى لأن تتحرك كلها جملة واحدة. ولو كانت تتحرك جميعها معا حركة واحدة ما كان من فرق بين كونها كلا قابلا للتجزئة، وكونها كلا غير قابل لها، إذن كونها كلا نظاميا مؤلفا من وحدات مختلفة متحركة في اتجاهات مختلفة يستلزم أن يكون تحركها في خطوط منحنية بحيث تتلاقى أطرافها. وتحركها في خطوط منحنية هو الذي أنقذها من التشرد الذي يفضي إليه التحرك في خطوط مستقيمة. (3)
الكروية: لو كان تحرك المادة في خطوط مستقيمة لأفضى تشردها في الخطوط المستقيمة إلى أمرين؛ الأول: أن يكون الحيز المادي غير متناه، والواقع المعروف الآن أن الحيز المادي متناه وهو ذو حجم محدد.
3
الثاني: أن يكون الوجود المادي فوضويا خلوا من النظام. ونحن نرى الواقع نظاما تاما متقنا.
فإذن، تحرك المادة في خط مستقيم في مجتمع منظم أمر مستحيل، أو أن المجتمع المنظم كما عرفناه يلزم أن تكون الحركة فيه في خط منحن حتما، وإلا فقد نظامه وتفكك تجمعه، وتحركه في خط منحن يستلزم أن يكون ذا مركز يتم حوله دائرة الخط المنحني؛ لأن الخط المنحني مهما كان انحناؤه قليلا أو كثيرا لا بد أن ينتهي بدائرة أو شبه دائرة متشاكلة
Symetrical
بالنسبة إلى المركز كالدائرة الإهليليجية مثلا. ومن الدوائر يتكون السطح الكروي فالجسم الكروي، وإذن فالكروية حتمية لكل جسم متناه منظم حول مركز.
وإذا راعينا السنة الأساسية وهي أن سبب الحركة «الجاذبية العامة»، وأن أجزاء المادة تتحرك متجاذبة حول مركز، لا يبقى عندنا وجه للاعتراض على حتمية انحناء خط الحركة.
وإذا كان الجسم أو الذرة أو كل وحدة مادية متحركا في خط منحن يتم بدائرة فإذن يكون تحركه دوريا؛ أي: إنه يجري أدوارا متعاقبة باعتبار أن كل دور هو تحرك الوحدة في دائرة أو شبه دائرة تامة أو قوس محدود من دائرة. ولهذا سميت الحركة المادية التي هي أحد أشكال التنظيم «الدورية» إطلاقا على كل حركة في خط منحن سواء كان التحرك في دائرة تامة أو في بعض الدائرة في قوس فقط كحركة الرقاص
، أو اهتزاز الوتر أو التموج ... إلخ.
إذن فبحثنا في الدورية يشمل كل حركة مادية في كل مكان وزمان؛ ولأن التحرك في خط منحن هو نزوع إلى الدوران حول مركز، فالبحث يتناول فن الدوران الذي ابتدعته الطبيعة، وتكاد كلمة الطبيعة تكون مبهمة، وإنما نعني بها هنا تكامل عناصر الوجود الأربعة: المادة والحركة «الزمانية» والمكان والنظام. (2) أساليب الدورية: الدوران
وجدت الهيولي أو خلقت ذات سجيتين رئيسيتين: (1)
ذريرات أو فوتونات تتجاذب أو تتقارب بعضها إلى بعض. (2)
كل ذريرة أو فوتون يدور على نفسه.
السجية الأولى - التقارب - كانت السبب الرئيسي للتجمع.
السجية الثانية - الدوران - كانت السبب الرئيسي للتفرع.
الدوران نوعان: (1)
الدوران المحوري
Rotation
وهو خاصة كل وحدة من وحدات الهيولي كالفوتون والبروتون والكهرب، وكل جسم متماسك الأجزاء كتلة واحدة كالأرض وسائر السيارات والأجرام؛ فأي جسم من هذه يدور كله جملة واحدة على محوره. (2)
الدوران المركزي
Revolutional
وهو خاصة كل جسم أو وحدة مادية كالكهرب أو السيار أو الجرم أو الكوكبة
Constalation
يشترك مع أجسام أو وحدات أخرى، هي الدوران حول مركز عام لها جميعا، وفي الوقت نفسه يكون الجسم دائرا على نفسه الدورة المحورية. (3) أشكال الدورية أو الدوران
للدوران شكل رئيسي؛ وهو دوران الذرات أو الوحدات حول مركز، وإنما هذا الدوران يستلزم أن تكون الذرات في سطح واحد في دائرة لكي تستطيع الوحدات أن تتساوق في دورانها حول المركز، كدوران السيارات حول الشمس في أفلاك تكاد تكون في لوح واحد - قليلة الميل بعضها على بعض. وإنما معظم كتل التجمعات كروية أو شبه كروية، فإذا كانت وحداتها جميعا تدور حول المركز وجب أن تتقاطع دوائر دورانها فتتصادم في تقاطعها، ويئول تداورها إلى فوضى مدمرة. ولذلك إذا كانت كتلة الجسم أو الجرم كروية أو شبه كروية جعلت وحداتها تدور متساوقة حول مراكز متعددة، بحيث أن نقط تلك المراكز تؤلف خطا واحدا مستقيما هو المحور الذي تدور حوله جماعة الوحدات كتلة واحدة.
فإذن عندنا نوعان من الدوران: (1)
الدوران المركزي
Rotational
الذي تدور فيه جميع وحدات الجسم أو الجرم حول مركز واحد فقط، وهذا الدوران لا يمكن أن يكون في جسم أو نظام كروي، بل في نظام قرصي كلوح دائرة، ولهذا يكاد يكون لا وجود له، أو أنه محول إلى دوران محوري. (2)
الدوران المحوري وهو الذي تدور فيه كتلة الجرم الكروي برمتها حول محور بين قطبي الكرة كدوران الأرض على محورها.
ولما كانت السرعة تختلف باختلاف البعد عن المركز كانت وحدات النظام الواحد، تتساوق في دورانها تساوقا متفاوت السرعات، أقربها إلى المركز أسرعها؛ فمن هذا القبيل عندنا ثلاثة أنواع من الدوران: (1)
الدوران المتساوق: وهو الذي تدور فيه كتلة النظام أو الجرم المؤلفة من وحدات عديدة متماسكة، تدور جملة واحدة، كدوران الأرض على محورها. وهذا لا يكون إلا في الأجسام أو الأجرام الجامدة كسيارات النظام الشمسي والإلكترون والبروتون. (2)
الدوران المتفاوت في نظام واحد: كدوران السيارات حول المركز - الشمس، ودوران كتل السدم حول مركزها، ودوران كتل النجوم الغازية. وفي هذه الحال تكون الكتل الأقرب إلى المركز أسرع بحكم سنة الجاذبية. (3)
الدوران المتداور، أو التداور: وهو أن يكون النظام الواحد مؤلفا من أنظمة جميعها تدور حول مركز واحد دورانا متفاوتا، وفي الوقت نفسه كل نظام فيها يدور حول مركزه أو على محوره دورانا آخر مستقلا عن الدوران العام، كأنظمة الكوكبات العنقودية ونحوها. (4)
ومنه تداور التداور: وهو تعدد درجات الأنظمة في نظام أكبر كالمجرة، حيث تكون أنظمة مركبة كالنظام العنقودي دائرة في الوقت نفسه في نظام أعظم. (5)
التذبذب: هو دوران ناقص غير تام، كتذبذب الرقاص، واهتزاز الوتر، والتموج ... إلخ، فكل ذبذبة إنما هي قطاع من دائرة أو قوس من محيط دائرة. (4) الدورتان الرئيستان (4-1) الدوران المحوري
Rotation
كل ذرة أو جسم، سواء كان بسيطا أو مركبا، متماسك الأجزاء، من الفوتون إلى السديم؛ يدور على محوره؛ لأن الدوران طبيعة في حركة المادة كما سيتضح في ما يأتي:
أصغر أجزاء المادة الفوتون - الضويء - مخلوق يدور على نفسه؛ أي: إن الدوران طبيعة فيه، وجميع الفوتونات تدور في اتجاه واحد. فبحكم الطبيعة مجموعة الفوتونات المتماسكة تماسكا متينا في البروتون والإلكترون تضطر مجموعة كل منهما أن تدور على نفسها، حول محورها؛ أي: إنها تكتسب خاصة الدوران من أجزائها - وحداتها. وكذلك تكتسب الذرة خاصة الدوران هذه من كهاربها وكهيرباتها، والجزيء يكتسبها من ذراته، والغازات والسوائل تكتسبها من جزيئاتها ، والحركة البرونية
Brownian Motion
المعروفة برهان قاطع على دوران السوائل جملة بدوران جزيئاتها.
والبرهان الأعم على صحة هذه النظرية - أي: نظرية أن الأجزاء تكسب الكل الذي يؤلف منها خاصة دورانها - هو أنه إذا انحلت كتلة الكل إلى أقسام أو أجزاء، سواء كانت أجزاءها الأصلية أو أقسام كتلية صغرى؛ توزعت خاصة الدوران - الذي كان للكل - على أقسامه أو أجزائه توزعا متناسبا مع الأقسام، لكل منها حصته على قدره، وهذه السنة الطبيعية معروفة عند علماء الطبيعة ومؤيدة بالاختبارات والامتحانات، وللقارئ أن يدرسها في متون الطبيعيات تحت عنوان القوة الدورانية
Angular Momentum . وهي سنة ذات شأن عظيم تلعب أدوارا مهمة في عمليات التجمع والتفرع، وما يحدث فيهما من دوران محوري ودوران مركزي
Orbital
كما سيتضح في غضون هذا البحث، ولذلك نرجو من القارئ أن يحفظ في باله ماذا يراد ب «القوة الدورانية».
نحن نبني بحثنا في خواص الدوران وأساليبه على الفرض الأعمق، وهو أن الفوتون - أصغر وحدات المادة - خلق مزودا بنزعتين أو بقوتين: القوة الدورانية، وقوة التجاذب. بهاتين القوتين أو النزعتين تتجاذب الفوتونات بعضها إلى بعض متداورة بعضها على بعض، حتى إذا كانت مجموعات متماسكة - كهارب أو كهيربات - كانت المجموعة كلها تدور على نفسها.
فعبارة «المادة المتحركة» التي تكرر ورودها في هذا البحث، أو عبارة «تحرك المادة» المرادفة لها يراد بها «المادة الدوارة»؛ إذ لا حركة للمادة إلا حركة الدوران المحوري والمركزي، وهي علة التحرك. (4-2) التقلص يزيد سرعة الدوران المحوري
أية ذريرة مؤلفة من فوتونات لا بد أن تدور على نفسها في نفس الاتجاه الذي تدور فيه فوتوناتها على أنفسها، وسرعة دوران الذرة - أو أية ذريرة - تتوقف على مقدار تماسك فوتوناتها فيها؛ أي: كلما كانت الفوتونات متقاربة متماسكة كان حجم مجموعتها أصغر، وكانت فيه أكثف، وبالتالي كان دوران المجموعة المحوري أسرع، وبالعكس كلما كانت الفوتونات قليلة التماسك في الذرة - أي: قليلة الكثافة - كان لكل فوتون قدر من الدوران الذاتي المحوري، ومنح قدرا آخر للمجموعة - الذرة - فيكون دوران المجموع أبطأ، بعبارة عامة: كلما تقلصت الذرة بشدة تقارب فوتوناتها وتماسكها كانت أسرع.
الأرجح أن هذا قانون عام لكل جسم أو جرم مهما كان نوع «تجمعه» ذرة أو جزيئا أو كتلة ... إلخ، وهو أن السرعة «س» تناسب الكثافة «ك».
أي: س/ك = سس/كك.
فإذا فرضنا «س» سرعة الكهيرب - الإلكترون، «ك» كثافته، و«سس» سرعة الكهرب - بروتون، «ب» كثافته؛ فبحسب هذا القانون لنا:
س/ك = سس/ب
وهو معلوم أن كثافة الكهرب - البروتون - تساوي 1840 كثافة الكهيرب - إلكترون؛ أي إن ب = 1840ك.
فإذن:
س/ك = سس/1840ك
إذن:
1840س = سس؛ أي: إن سرعة الكهرب - البروتون - تساوي 1840 سرعة الكهيرب - إلكترون - في الدوران المحوري.
لذلك لا بدع أن تسبب سرعة الكهرب أو النواة - مجموعة الكهارب - سرعة دوران الكهيرب الفلكي «في مداره حول النواة». «إن كان هذا القانون صحيحا يجب أن ينطبق على دوران جميع الأجرام، وإذا ثبت أنه منطبق عليها جميعا أمكن استخراج أي من الحجم أو الكتلة أو سرعة الدوران أو الكثافة إذا عرف اثنان منها فقط؛ لأن الكثافة تساوي عدد الوحدات مقسوما على الحجم.» (4-3) الدوران المركزي
Revolutional
إذا كان الجسم مؤلفا من وحدات، ذريرات أو ذرات أو جزيئات ... إلخ غير متكاثفة وقليلة التماسك فيما بينها، كالشمس أو السديمة أو السديم؛ فلا يتسنى له أن يدور ككتلة واحدة دورانا محوريا، ولا سيما إذا كان كبيرا؛ حتى لو ابتدأ حياته بالدوران المحوري فلا يلبث أن يفقد هذا الأسلوب من الدوران؛ لأنه واقع تحت عوامل مختلفة تمزق وحدته أو كتلته وهي:
أولا:
أن دورانه ككتلة واحدة على محوره يحرج مناطقه المتطرفة أن تقطع مسافات طويلة بسرعة فائقة، ولا سيما إذا كان كبيرا جدا. وقد تكون السرعة هناك أكثر من سرعة الذرات في دورانها المحوري الخاص بها، فلا تستطيع الذرات المتطرفة أن تجاري المجموع في تلك السرعة فتتخلف عنها. وإذا كان المجموع يجاري تلك المناطق المتطرفة في السرعة التي تحتملها كانت سرعة المناطق الداخلية القريبة إلى المحور بطيئة جدا لا تصبر عليها ذراتها المتزاحمة هناك، بل تعجل في الدوران المركزي مخالفة سائر المناطق التي حولها؛ وفي كلتا الحالتين تكون النتيجة حتما اختلاف المناطق في سرعة الدوران .
ثانيا:
أن قلة تكاثف المجموع أو لطافته أو قلة تماسك أجزائه، لتباعد ذراته وذريراته بعضها عن بعض؛ تخول قانون التسارع أن يفعل فعله بتوزيع السرعة على المناطق حسب بعدها عن المركز؛ أي: إن المناطق القربى إلى المركز تكون بحكم هذا القانون أسرع دورانا من المناطق البعيدة؛ وإذن لا يبقى ذلك المجموع دائرا كتلة واحدة، بل يصبح طبقات مستقلة بعضها عن بعض في دورانها وسرعاتها. وهذا هو الحادث في النظام الشمسي ونظام الكوكبات ونظام المجرة؛ أي: إن وحداتها القريبة للمركز سريعة والبعيدة بطيئة.
4
ثالثا:
أن قانون الجاذبية القاضي بأن الجذب ينقص كمربع البعد عن المركز يجعل الطبقات المتطرفة أقل خضوعا لقوة الجذب المركزي وأكثر خضوعا لقوة التجاذب المتجاور؛ أي: إن قوة تجاذب الذرات المتجاورة تتغلب على قوة الانجذاب نحو المركز العام. فتشرع كل جماعة من الذرات تستقل بحركاتها بعض الاستقلال عن المركز، وتكون لنفسها مركزا خاصا تتداور حوله مع بقائها دائرة حول المركز العام، كما هو الحال في الكوكبات
Constalation
بالنسبة إلى المجرة
Galaxy .
رابعا:
أن الضلع الأول من ناموس الجاذبية، وهو قوة الجذب نحو المركز، يكون أقوى تحكما بالمناطق القربى إلى المركز منه بالمناطق القصوى، فتلك تتقلص نحو المركز، وأقربها إليه أشدها انكماشا نحوه وأكثرها ازدحاما؛ ولذلك يتفسخ الجرم - سديما كان أو نجما غازيا - إلى طبقات منفصل بعضها عن بعض، وقد يتهابط بعض القربى إلى المركز على بعض، تاركة الطبقات القصوى وراءها تحت سلطة من قوة التجاذب فيما بينها أضعف من سلطة الجذب العام نحو المركز؛ فتتقطع كتلا على نحو ما ذكر في «ثالثا»، كما حدث في نشوء سيارات النظام الشمسي. وتفسخ الجرم إلى طبقات على هذا النحو يخول قانون المسارعة أن يفعل فعله؛ أي: إن الطبقات القربى إلى المركز تدور حول المحور أسرع من الطبقات البعيدة بحسب هذا القانون.
خامسا:
إن تقلص الجرم - أو تقلص طبقاته - يزيد سرعته المحورية؛ أي: كلما تقلص الجرم أسرع دورانه حول المحور
Rotation ؛ لأن قيمة الحركة الدورانية
Angular Momentum
التي تملكها الذرات تبقى لها في الحيز الأضيق كما كانت لها في الحيز الأوسع، ولذلك يصيب منها حيزا معينا بعد التقلص أو قدرا أكبر مما كان يصيبه قبل التقلص، لذلك فالمناطق الأشد تقلصا تكون أعجل دورانا من المناطق الأقل تقلصا، ولذلك ينتهي الأمر في «رابعا» و«خامسا» كما شرحناه في «ثالثا»؛ أي: بتقطع الطبقات إلى كتل تدور حول المركز العام، في حين أنها تدور كل واحدة على نفسها دورة محورية كسيارات النظام الشمسي أو كوكبات المجرة.
سادسا:
إن الضلع الثاني من ناموس الجاذبية؛ أي: التشريد عن المركز
Centrifugal force
تساعد الطبقات القصوى أن تتشرد عن المحور، كما أن الضلع الأول - قوة الجذب إلى المركز - تساعد المناطق المحورية أن تتقارب إلى المركز؛ فتكون النتيجة أن الجرم الأصلي بعد أن كان كرويا يتفلطح فيقصر محوره جدا وتطول أشعته - أنصاف أقطاره - المعامدة لمحوره إلى أن يصبح كالقرص؛ وحينئذ تضعف جدا جاذبية حواشي القرص وتقوى قوة التشريد في الحواشي؛ فتتناثر كتل منها وتصبح أجراما مستقلة تدور حول المركز الأصلي بالسرعة التي يؤذن بها قانون التسرع، أو قد ينتثر بعضها في الفضاء إلى أن يصادف جوا جاذبيا آخر فيلتحق به.
ترى مما تقدم أن الدوران المركزي نشأ من الدوران المحوري بسبب تفاعل ضلعي الجاذبية: الجذب نحو المركز، والتشريد عن المركز، وبسبب فعل «التموج الحلزوني» الذي يحدث التشريد عن المركز والذي يحدث التفاوت في السرعة بنسبة البعد عن المركز، كما شرحناه في فصل تعليل سر الجاذبية في كتابنا فلسفة التفاحة أو جاذبية نيوتن.
بعد هذا الشرح لأحوال الدورانين: المحوري، والمركزي. صار سهلا إيضاح عملية التفرع المضادة لعملية التجمع؛ لأن عملية التجمع تقوم بفعل الضلع الأول من ناموس الجاذبية - الجذب - الذي يكون فيه الدوران محوريا بحتا، وعملية التفرع تقوم بفعل الضلع الثاني - التشريد - الذي يكون في الدوران مركزيا متفاوت السرعة بنسبة البعد عن المركز. ولذلك، فيما نحن نشرح عملية التفرع نكون في الوقت نفسه شارحين عملية التداور؛ أي: تداور الكتل المستقلة حول مركز عام، فضلا عن دورانها حول محاورها.
الفصل الثالث
التفريع أو التفرع
(1) تعليل التفرع
إذا حفظت في بالك أحوال الدوران الست أو قوانينه التي شرحناها آنفا، ولا سيما قانون ازدياد السرعة بازدياد التقلص، واشتداد الازدحام في المناطق القربى إلى المركز، وقلة الكثافة في المناطق القصوى، وتفاوت السرعة بسبب قانون المسارعة؛ سهل عليك أن تتصور وتفهم كيف تتولد السديمات من السدم والنجوم من السديمات والسدم أيضا، وكيف تتحول السديمات إلى كوكبات عنقودية ... إلخ.
ولإيضاح هذا تصور سديما عظيما - كما كانت المجرة - على أثر انفصاله عن السدم الأخرى المجاورة له - المجرات - تصوره يدور على نفسه دورة محورية بطيئة بالنسبة إلى عظمته - قد تستغرق مئات الملايين من السنين - بسبب قلة كثافته؛ أي بسبب لطافته المتناهية تحت تأثير قوة الجاذبية المتبادلة بين أجزائه؛ فترى بحسب ما علمته من نواميس الحركة:
أولا:
أن قوة الشرود عن المركز
Centrifugal force
تجعل محوره يقصر رويدا عن قطره الاستوائي، فيتحول تدريجا من شكل كروي إلى شكل قرصي سميك جدا في أوائل عهد هذا التحول.
ثانيا:
أن قوة الجذب إلى المركز
Centripetal
من جهة والإشعاع
1
من جهة أخرى يجعلانه يتقلص رويدا، ويكون أشد التقلص أقرب إلى المركز تحت تأثير هذين العاملين.
ثالثا:
أن هذا التقلص - أي: صغر الحجم - مع بقاء «القوة الدورانية» على حالها؛ أي من غير نقص فيها؛ يجعلان الدورة المحورية أسرع في منطقة التقلص الأشد.
ينجم عن ذلك أن هذا السديم لا يبقى دائرا على محوره كتلة واحدة، بل تختلف سرعة الدوران باختلاف إبعاد الطبقات عن المحور، أسرعها أقربها إليه، وفي خلال هذا التطور يحدث أمر آخر وهو تهابط الطبقات القربى إلى المركز دون الطبقات القصوى؛ لأن الطبقات القربى تكون تحت تأثير الجاذبية المركزية الأشد، والطبقات القصوى تكون من جهة تحت تأثيرها الأضعف، ومن جهة أخرى تحت تأثير جاذبية السدم الأخرى المجاورة مهما كانت بعيدة، إذ يفعل فيها كفعل المد
Tide «كما يفعل القمر في الأرض» فتحفظها بعيدة عن المركز الأصلي فيما تكون الطبقات القربى هابطة إليه؛ فيتسع المجال بين القسم المتقلص والقسم المتخلف، ويشرع هذا يملك استقلاله عن ذاك رويدا.
ينتج عن هذا أيضا أن الطبقات القصوى تصبح حلقات حول السديم كحلقات زحل، ويكون تأثير التجاذب بين أجزاء هذه الحلقات أقوى من الجذب المركزي الداخلي والجذب الخارجي من ناحية السدم المجاورة، وتحت تأثير تجاذبها الذاتي تتقطع إلى كتل تتجاذب أجزاء كل منها إلى مركز فيها، وهذه بنوبتها تتقلص بأسرع من تقلص الأم لصغرها:
أولا:
لأن إشعاعها أيسر فأسرع.
وثانيا:
لأن قوتها الدورانية أضعف.
كل كتلة من هذه الكتل تستقل بدوران محوري خاص بها يجعلها في بدء حياتها كروية الشكل، وفي الوقت نفسه تستمر في دورانها المركزي حول الأم بأبطأ جدا من الطبقات الهابطة نحو المركز.
هذا التطور الذي حدث للطبقة القصوى من السديم يتوالى على كل طبقة دونها على هذا النحو تماما، وبنفس العوامل التي ذكرناها؛ فكل طبقة تتخلف بنوبتها عن الطبقة التي دونها، حتى متى قل فعل الجذب المركزي الأصلي فيها عن فعل تجاذب أجزائها تقطعت إلى كتل، وكل كتلة تستقل بدوران محوري خاص تحت تأثير تجاذبها المركزي الخاص بشكل كروي، ولكنها تستمر بدورانها حول الأم على نحو ما فعلته سالفاتها التي بعدها.
على هذا المنوال يتقطع السديم إلى سديمات وكل سديمة قائمة بنفسها ذات دوران محوري خاص بها، وذات دوران مركزي حول مركز الأم بالاشتراك مع أخواتها، كأنها سيارات حول بقية السديم الأصلي، في حين يتقطع معظم السديم على هذا النحو إلى أن يتبقى منه الشيء القليل حول المركز، فيصبح هذا الشيء القليل تحت تأثير جذب السديمات التي تولدت منه أشد من تأثير جاذبيته الذاتية، فتتنازعه هذه السديمات وتمزقه إلى كتل أخرى مثلها.
في أثناء هذا التطور المتوالي الذي يستغرق ملايين السنين تكون السديمات بنوبتها متقلصة تدريجا تحت فعل العوامل نفسها التي كانت تقلص السديم الأصلي؛ فتتسع الرحاب التي بينها، وبالتالي يضعف تجاذبها نحو مركز السديم الأصلي، وتتغلب قوة الشرود عن المركز، ويستمر تباعدها بعضها عن بعض، كأنها تعود تتوزع على الحيز الذي كانت تملأه حين كانت سديما واحدا لطيفا عظيما، ولكنها تتوزع فيه كرات متقلصة تاركة بينها رحابا فسيحة.
لما كانت سديما واحدا لطيفا كانت ككتلة واحدة تدور على محور واحد، فلما تقطع السديم إليها أصبحت كل واحدة منها تدور على محورها الخاص، وفي الوقت نفسه تدور دورانا مركزيا
2
حول نقطة متوسطة بينها بحكم تجاذبها بعضها إلى بعض، وقد تكون هذه النقطة خالية لا سديمة فيها ولا جرم، وبحسب سنة المسارعة الجاذبية تكون أقربها إلى المنطقة المركزية أسرع سيرا حول هذه المنطقة، وأبعدها أبطأها، كما هي الحال في المجرة وكل نظام دوراني، كالنظام الشمسي والنظام العنقودي الذي سيرد وصفه. •••
بقيت مسألة ذات شأن لا يجوز إغفالها؛ وهي: أن دوران السديمات المركزي حول مركز السديم الأصلي الذي تقسم إليها يقضي بتغلب قوة الشرود عن المركز على قوة الانجذاب إليه، ويفضي إلى تحول مجموعة السديمات من شكلها الكروي الأصلي إلى شكل قرصي بحيث يصبح قطرها المحوري الأصلي أقصر جدا من قطرها القرصي.
إذا كنت قد تصورت بجلاء تطور السديم الكبير وتحوله إلى سديمات كما وصفنا؛ تكون قد رسمت في ذهنك شكل مجرتنا
3
كما هي الآن، أو بالأحرى منذ صارت سديمات حبلى بنجوم وشموس. كانت مجرتنا هذه سديما عظيما كروي الشكل، ثم صارت مجموعة سديمات تشغل حيزا قرصيا محوره نحو خمسي قطره، وهي تدور حول مركز المجرة بسرعات متفاوتة حسب البعد عن المركز، وفي الوقت نفسه كل منها تدور على محورها.
وإذا علمت أن الكون الأعظم كان أوقيانوسا من ذرات المادة أدركت كيف أنه تقطع على نحو ما تقدم وصفه وبنفس العوامل إلى ملايين السدم، كل سديم منها يعد مجرة كمجرتنا، وجميعها تدور في هذا الأوقيانوس حول مركزه الأوحد بسرعات متفاوتة بمقتضى ناموس الجاذبية، وبالوقت نفسه كل سديم منها يدور على نفسه دورة محورية خاصة به. (2) درجات الدورية
إلى هنا رأيت ثلاثا من درجات الدورية المركبة من صنفي الدورانين الأصليين البسيطين المحوري والمركزي: (1)
الكون الأعظم - الجامع جميع المجرات - يدور على نفسه دورة مركزية. (2)
سدم تدور متساوقة متسابقة حول مركز الكون الأعظم، وبالوقت نفسه كل سديم منها يدور حول نفسه؛ فلكل سديم دورتان: محورية ومركزية. (3)
سديمات تدور متساوقة متسابقة حول مركز السديم الأصلي الأعظم، وبالوقت نفسه كل سديمة تدور على محورها، وبالوقت نفسه أيضا السديم الأكبر - مجموع السديمات - يدور بها جميعا حول مركز الكون الأعظم؛ إذن لكل سديمة ثلاث دورانات: دورة محورية ذاتية، ودورة سديمية عامة، ودورة كونية أعم.
نترك الآن الدرجتين العظميين الأوليين ونعود إلى الدرجة الثلاثية - إلى السديمة. فإذا تصورناها تتطور كما يتطور أبوها السديم الأصلي تحت تأثير العوامل نفسها، وفي مثل تلك الظروف والأحوال؛ فهمنا جيدا كيف تقطعت إلى مجموعات نجوم وإلى نجوم منفردة مستقلة.
يغلب أن تكون قوة الشرود عن المركز أفعل العوامل في تقطيع السديمة إلى نجوم؛ لأن هذه القوة تسرع بتحويل شكلها الكروي إلى شكل قرصي، قبل أن تتمالك قوة الجذب إلى المركز بتقليصها؛ أي: إن التحول القرصي يكون أسرع من التقلص، ولذلك تتناثر كتلها من محيطها تناثرا، وكل كتلة منتثرة تتحول إلى نجم يدور على محوره فيما هو لا يزال يدور حول مركز السديمة.
في مجرتنا كثير من المجموعات النجمية التي تسمى عناقيد كروية
Globular Cluster
هذه المجموعات العنقودية كانت في الأصل سديمات ثم تحولت إلى نجوم، على أن العنقود النجمي لا يزال يدور على نفسه؛ أي: إن نجومه تدور متساوقة حول مركزه كما كانت السديمة التي انحلت إليه تفعل قبل أن تنحل، وفي الوقت نفسه كان كل نجم منها يدور على محوره ولم يبق من سديمات مجرتنا بلا انحلال إلا نحو 20 سديمة لا تزال في دور التفكك. ويندر أن تجد في المجرة نجما مستقلا بدورته، وسيره غير مشترك بعنقود من العناقيد أو كوكبة من الكوكبات، وهذه العناقيد أو الكوكبات تختلف باختلاف أحجام السديمات التي اشتقت منها، وقد يبلغ عدد النجيمات في العنقود الواحد أكثر من 150 ألف نجم.
ترى مما تقدم أن النجم في الدرجة الرابعة من الاشتقاق؛ أي: هو ابن سديمة وحفيد سديم، والسديم هو ابن الكون الأعظم؛ لذلك للنجم أربع حركات؛ أولا: دورته المحورية. ثانيا: دورته مع إخوته حول مركز العنقود أو الكوكبة. ثالثا: سيره مع العنقود في دوران هذا حول مركز المجرة. ثم رابعا: سيره مع المجرة في دورانها حول مركز الكون الأعظم.
وقد يتاح للنجم في ظروف لا محل لشرحها هنا أن ينقسم إلى نجمين متساويين أو متفاوتين حجما وكتلة، وحينئذ يسمى النجم المزدوج
Binary Star ، وكل من هاتين الفلقتين يدور حول مركز الثقل - التجاذب - الذي بينهما. والأرجح أن القمر مشتق من الأرض يوم كانت في حالة السيولة على نحو انشقاق النجم المزدوج؛ لأن القمر لا يدور على نفسه بالنسبة إلى الأرض، بل وجه واحد منه مواجه الأرض دائما، وكذلك لأن حجمه بالنسبة إلى الأرض كبير
إذا قورن بأحجام أقمار السيارات الأخرى بالنسبة إلى أمهاتها، وإذا تباعد شطر النجم المزدوج كثيرا يصبح كل شطر منهما يدور على نفسه، وإذا كان أحدهما أصغر جدا من الآخر جعل يدور كسيار أو قمر حول الآخر. يظن أن نحو ثلث النجوم مزدوجة؛ بناء على ما تقدم تعتبر الأرض مع قمرها نجما واحدا مزدوجا.
وقد يطرأ على النجم وهو في حالته الغازية ما يسلخ منه نطفات تظل تدور حوله، وثم تدور على نفسها أيضا، فتكون سيارات حوله كالنظام الشمسي، وهذا نادر جدا في رأي السير «تجايمس تجنز»، فالسيارات هي الجيل الخامس في التوالد من الكون الأعظم؛ ولذلك يكون للسيار خمسة أصناف دوران: (1) حول محوره. (2) حول شمسه. (3) هو مع شمسه حول المركز العنقودي. (4) هو مع شمسه وعنقوده حول مركز المجرة. ثم (5) هو مع المجرة حول مركز الكون الأعظم. وأخيرا يأتي جيل الأقمار المتولدة من السيارات وهو الجيل السادس الذي له 6 دورات، صار القارئ فاهما ترتيبها من سياق الحديث. •••
هنا ينتهي الاشتقاق؛ لأن الأقمار صغيرة جدا في حالة جمود، فلا يمكن أن تتفسخ إلى أولاد أقمار، من السيارات نفسها بعد أن صارت في حالة الجمود لا يمكن أن تستمر في الاشتقاق كما نعلم من حالة سيارات شمسنا. لا اشتقاق في حالة الجمود على الإطلاق، لا يكون الاشتقاق إلا في حالة الغازية أو السيولة. الاشتقاق المزدوج لا يكون إلا في حالة السيولة.
مجمل البحث وصفوته
الدوران - أو الدورية - يلعب دورا عظيم الشأن في عملية التنظيم الكوني. وقد رأيت أن علته هي «الجاذبية-الدافعية» هي محدثة كل درجاته التي سردناها آنفا. وفيما كانت قوة الجاذبية تجمع ذرات الفوتون في كتل كانت تجزئ البحر الأيثري الفوتوني إلى سدم. وكذلك فيما كانت تمعن في هذا التجميع إلى كتل صغرى كانت تجزئ السدم إلى سديمات، وهذه إلى نجوم ... إلخ؛ فالعملية كانت عملية تجميع وتفريع في وقت واحد.
على أن هذه العملية لم تتم بمجرد جذب فقط بخط مستقيم نحو المركز، وإلا لتجمعت كل ذرات الكون حول نقطة واحدة أو في مركز واحد، ولكنها تمت بجذب دوراني أي بجذب في خطوط منحنية حلزونية تبتدئ من مركز وتنتشر إلى المحيط، وهذا الجذب الدوراني هو علة الدافعية كما عللناه في محله؛ فحين نفكر بالجاذبية يجب أن نتصور الدورانية خاصة لها أو طبيعة فيها، وبالتالي هي طبيعة في المادة، وبغير هذه الخاصة لم يكن ممكنا أن يحدث التجمع والتفرع.
ثم إن فعل هذه الجاذبية الدورانية لا يقتصر على إحداث التجمع والتفريع فقط، بل يحدث التشتت أيضا الذي يتسع به نطاق الحيز المادي، كما شرحناه في كتابنا «هندسة الكون حسب سنة النسبية»؛ لأن قوة الجاذبية تقتضي تقلص الجرم أو الجسم، وكلما تقلصت الأجرام اتسعت الرحاب بينها، فيقل التجاذب بينها جميعا، وبتقلصها يعجل دورانها المحوري ويصبح دورانها المركزي - حول المركز المشترك بينها - أسرع؛ مما يوازن تجاذبها، لا لأن الدوران أسرع، بل لأن التجاذب قل، فتشرد بعضها عن بعض، وهكذا يتسع نطاق الحيز المادي. (3) الدوران الحلزوني
علمت في تعليل سر الجاذبية أن التموج الجاذبي ينتشر بشكل حلزوني، وانتشاره على هذا الشكل هو سبب الضلع الدافعي من ضلعي الجاذبية، وبالتالي هو سبب تناسب سرعة الجرم في دورانه المركزي مع بعده عن المركز، وإذا أنعمت النظر فيما تقدم لحظت أن الدورية لا تعيد نفسها؛ يعني أن الدوران لا يتكرر في المكان في نفس الدائرة؛ لأن الدوران لا يكون في مركز ثابت بل في مكان هو نفسه دائر متنقل، وبعبارة أخرى لا يتم الجرم دورته في الفضاء في دائرة، بل في شكل حلزوني، فلا دائرة تتم باتصال طرفيها، بل تلتف في حيز غير حيزها السابق؛ وسبب ذلك تعدد أصناف الدورانات كما شرحناه، واشتراك المكان والزمان في العملية.
ولإيضاح هذه النقطة نضرب القمر مثلا؛ فهو فيما يدور حول الأرض لا يرسم في الجو الشمسي دائرة كاملة - كما يرسم في الجو الأرضي - بل يرسم دائرة حلزونية؛ لأن الأرض تسير به حول الشمس؛ فلا يتم دورة حول الأرض إلا وقد انتقلت الأرض به ملايين الأميال، فدورته الثانية في حيز آخر، ومع ذلك ليست في دائرة تامة، بل في خط لولبي، وفيما هو يدور في الخط اللولبي حول الشمس تكون الشمس نفسها دائرة مع سياراتها في كوكبتها العنقودية، فتجعل سيره في الفضاء في خط لولبي مركب معقد، وكذلك دورة الكوكبة العنقودية في قرص المجرة تزيد تعقد دورة القمر في الفضاء، كما أن دورة المجرة في الكون الأعظم تضاعف ذلك التعقد في خط سير القمر وسير الأرض وسير الشمس ... إلخ.
أضف إلى هذا التركيب الدوراني المعقد تعقيدا آخر ناجما عن توسع أفلاك الأجرام من صغيرها إلى كبيرها في دورانها، فما من جرم إلا وفلكه يتسع - في الغالب - في كل دورة بعد أخرى بحيث يبتعد عن مركزه «وفي بعض الأحوال يضيق»، فالأرض لا تدور في نفس فلكها كل عام، بل في فلك أوسع قليلا، وفي رأي بعضهم أن قطر فلكها يزداد في العام مترا واحدا، وعلى تمادي الأعقاب قد تشرد الأرض عن شمسها، وهكذا شأن كل قمر وسيار وكل نجم وكل عنقود وكل مجرة؛ فالكون بحسب رأي «هوبل» و«لامتر» و«دي ستر» يتمدد ويتسع - كما شرحناه في كتابنا النسبية وفي فلسفة التفاحة.
فإذن؛ لا يمكن أن نقيد أية حركة في الكون نفسها؛ لأن مكانها وزمانها يتغيران، وإذن لا تكون فصول السنة الأرضية بعد ألف عام أو ألوف الأعوام كما هي الآن، لا في حرها ولا بردها ولا رياحها ولا زرعها وغلالها ولا ناسها ولا وحوشها، ولا ولا ... إلى ما لا نهاية له. (4) الحركة القوسية
ذكرنا بين سلسلة أنواع الدوران «الحركة القوسية» أي: الحركة في جزء من دائرة كحركة رقاص الساعة مثلا
، فالرقاص يسير في قوس، ثم يعود في نفس القوس ذهابا وإيابا، فإذا جمعت الأقواس طرفا إلى طرف تكونت منها دائرة نصف قطرها طول حبل الرقاص؛ وإذا كان رقاص الساعة لا يرسم دائرة كاملة فنتيجته أن يحرك دولابا في دائرة كاملة كما هو معلوم.
الموجة هي نوع من الحركة القوسية، هي جزء من دائرة؛ لأنك لو وصلت أطراف الموجات من قمة إلى قمة بعضها ببعض لتكون منها دائرة؛ يطلق هذا القول على كل نوع من أنواع الأمواج: الموجة الكهرطيسية - كالنور، وموجة الصوت، وموجة الماء، وموجة الحبل الذي تهز طرفه بيدك.
وشعاعة النور التي تسير في جو جاذبي تسير منحنية في قوس أيضا، وإذا استقرت كل حركة في الكون فمهما تراءت لك خطا مستقيما تجدها دائرة أو جزء دائرة، ولا سبب لهذه الدورية إلا فعل سنة الجاذبية.
الباب الثاني
النظام الحيوي
الفصل الرابع
ما هي الحياة؟
بسطنا كفاية قوانين التنظيم في العالم المادي غير الحيوي في عناصره الثلاثة: التجمع والتفرع والدوران. والآن نتقدم لبسط هذه العناصر في العالم الحيوي، فنرى لها أساليب أخرى تختلف في الغرض عن أساليبها في العالم المادي ولكنها تتفق في الجوهر مع هذه.
ولاستيفاء هذا البحث وتسهيل بسطه لذهن القارئ لا بد من تفسير سر الحياة بقدر ما تؤذن به ظاهراتها المادية، فما هو سر الحياة؟ (1) كيف نشأت الحياة؟
أكثر الذين بحثوا في أصل الحياة فرضوا أو ظنوا أنها ذات مستقلة عن الجسم الحي، ولكنها تمثل فيه، فصوبوا كل همهم إلى تعليل نشوئها، وتأثروها في الأحياء الدنيا إلى أحقر الجراثيم، ففرضوا أن الجرثومة الواحدة متسلسلة عن أخرى، ولم يهتدوا إلى جرثومة تولدت من تلقاء نفسها، ولكن العقل يقول لا بد لها من أول أو أصل.
ومهما يكن من أمرهم فالحياة درجة من درجات الرقي؛ فماذا كان قبل الحياة فاشتقت منه الحياة؟ ظن بعضهم أن الحياة مسلسلة من البلورات؛ لأنهم رأوا في هذه شيئا من خصائص الحياة كالنمو والتولد وانتهاء النمو عند هذا الحد، رأوا أن البلورة تتكون إذا كان في السائل المشبع مادة القابل للتبلور بلورة صغيرة تتجمع حولها المواد فتزيدها حجما إلى أن تستوفي حجمها، ثم تشرع بلورة أخرى تتكون إلى جنبها، وهكذا دواليك حتى يصبح السائل قليل الإشباع فيكف التبلور.
ولكن بين البلورة والجرثومة الحية بونا عظيما، البلورة تنمو من الخارج بإضافة المادة إليها، ولكن الجرثومة تنمو من الداخل بما تمتصه من الغذاء من الخارج. ثم إن الجرثومة تتوالد بالانقسام، الواحدة إلى اثنتين، والبلورة ليست كذلك، بل تتكون من نفسها مستقلة عن أختها. الجرثومة تفرز فضلاتها عن نفسها، والبلورة ليس لها فضلات ... إلى غير ذلك. ثم إن البلورات لا تولد إلا في محلول بارد، ولكن الجرثومة لا تتولد إلا في سائل ذي حرارة متوسطة فوق الصفر وتحت الغليان. •••
إن معظم الأحياء الدنيا موجودة في البرك والمستنقعات حيث الماء راكد، وهو أمر يدل على أن الحياة نشأت في الماء الآسن، أو الوحل، وقبل أن تنشأ الحياة كانت الطبيعة بفعل حرارة الشمس ونورها تنشئ الحامض الكربوني والنشادر والحامض الأميني، وهذه لا تحتاج إلا إلى الكربون والهيدروجين والنتروجين والأوكسجين، فتكونت المواد الكربوهيدراتية أولا بشكل هلامي - جلاتيني - ثم اشتقت منها المواد الزلالية.
والراجح أن المقادير الصغيرة كانت تتكتل بفعل تجاذب فيما بينها، وكانت تنمو إلى أن تتكون حولها قشرة جامدة بفقد قليل من الماء في ظاهرها، حتى إذا زاد نموها انفجرت القشرة وانقسمت الكتلة إلى كتلتين، ثم تشرع كل كتلة تنمو إلى أن تضخم، فتنشق إلى كتلتين ... وهكذا دواليك. هكذا كانت أول كتلة تحولت إلى جرثومة.
وكانت بعض العناصر تشترك في هذه العملية كالفوصفور والصوديوم والبوتاس والمنازيا وغيرها، والفوصفور مشتق من فوصفات الجير - الكلس - وليس ما يمنع أن يتحول جزء منه إلى الحامض الفوصفوري فيدخل محاوله إلى نواة الجرثومة.
وهو معلوم ولا سيما للكيماوي الذي يفهم جيدا علاقة الطاقة بالمادة أن امتصاص الهلامة للمركبات البسيطة القابلة التحول وائتلاف داخلها بها جعلا الهلامة مخزنا للطاقة؛ أي: إن بعض المواد المتفاعلة تفاعلا كيماويا تصدر حرارة - طاقة - كما يحدث في احتراق الكربون وتنفس الحيوان، وبعضها تمتص الحرارة وتدخرها كما يحدث عند تحول المواد الغذائية في الأجسام الحية، فإذا كانت كتلة الهلام أو الجرثومة في أثناء تفاعل مركباتها مع المركبات المتطرقة إلى داخلها تدخر حرارة تارة وتبثها تارة أخرى، اقتضى أن تكون لها حركة ذاتية بين تقلص وتمدد لتغير التوازن فيها، ومهما كانت الحركة بطيئة وبسيطة فإنما هي حركة. (2) سر الحياة في الكربون
الحياة ألفة كيماوية
الحياة نشوء آخر يختلف في ظاهراته كل الاختلاف عن نشوء الأجسام المادية غير الحية. هو درجة ثانية من درجات الوجود أعلى من درجة المادة «الميتة»، كأنه كون آخر مستقل في ذاتيته وطبيعته كل الاستقلال عن الكون المادي، ولكنه بالحقيقة مادي الجوهر والحركة، بمعنى أن الجسم الحي مؤلف من ذرات المادة، ولكن بنظام آخر يختلف عن نظام المادة، فهل هو متمش على نفس سنن الطبيعة الأساسية كالجاذبية والألفة الكيماوية؟ أم أن له سننا أخرى خاصة به؟
الظاهر لنا أن الحياة لأنها قائمة بالمادة هي خاضعة لنواميس حركة المادة؛ وإذن حركتها مستمدة من نفس القوى الفاعلة في المادة - جاذبية، وألفة كيماوية - وحركتها ذاتية، بمعنى أنها مختزن القوة المادية، ثم تتصرف بها تصرفا خاصا يلائم كيانها، وحركتها نتيجة هذا التصرف.
وهذه الحركة نوعان: حركة في داخل الجسم الحي بين أجزائه، شائعة في النبات والحيوان، وحركة تنقل الجسم الحي كله من حيز إلى حيز، وهي خاصة بالحيوان على الغالب. فما هو سر الحياة الذي هو مستودع القوة الحيوية؟ وما هو مصدر هذه القوة؟
لا نعرف وجودا للحياة كما نعرفها إلا على أرضنا، فلا شأن لنا بها إذا كانت موجودة في جرم آخر، سواء كانت هناك بنفس الخواص التي نعرفها هنا أو كانت تختلف عما نعرفه.
نعرف أن الجسم الحي مهما كان نوعه مؤلف من جزيئات
Molecules
عديدة الذرات جدا ليس لها مثيل بكثرة ذراتها في سائر جزيئات الغازات والسوائل والجوامد ، لا على الأرض ولا فيما استدل عليه في الأجرام الحارة وفي الأجرام الباردة، من أنواع الذرات والجزيئات. فكأن سر الحياة مودع في الجزيء العديد الذرات، فنبحث عنه في هذا الجزيء.
الجسم الحي من أبسط أنواعه - الأميبا - إلى أكثرها تركبا وتعقدا - الإنسان - مؤلف من ثلاثة أصناف من المركبات الكيماوية، وكل صنف منها عديد الأنواع بتعدد أنواع الخليات. وهي:
أولا:
الكربوهيدرات - النشائيات ونحوها، وسلاسل البارافينات، وسلاسل الكحل ... إلخ. وجزيئاتها تحتوي على بضع ذرات إلى بضع عشرة ذرة، وهي الوقيد الذي تصدر منه القوة لإصدار الحركة.
ثانيا:
الدهنيات ونحوها. وجزيئاتها مؤلفة من عشرات الذرات، وهي وقيد آخر مدخر، ولا سيما في الأحياء المنوعة الأعضاء الوظيفية.
ثالثا:
البروتاينيات - الزلاليات. وجزيئاتها مؤلفة من مئات الذرات أو ألوفها في بعض الأحيان، وهي هيكل بنية البروتوبلاسم الذي هو جوهر الحياة الأول.
يلحق بهذه الثلاثة الماء، وهو الوسط الذي تتنقل فيه جزيئات المركبات الحيوية، فضلا عن أنها تتحد أحيانا بجزيئات منه.
ولا نعرف في الطبيعة جزيئات مؤلفة من ذلك العدد العظيم من الذرات إلا في الجسم الحي. وفي غيره لا يتجاوز عدد ذرات الجزيء البضع أو البضع عشرة ذرة؛ إذن سر الحياة هو في الجزيئات العديدة الذرات، فلنبحث عنه في ذرات هذه الجزيئات لكي نعلم في أي منها مقامه. (3) عناصر الحياة
التحليل الكيماوي يرينا أن أصناف هذه المركبات الثلاثة العديدة الأنواع مؤلفة من أربعة عناصر رئيسية فقط؛ أي: من أربعة أصناف من الذرات؛ وهي: الهيدروجين والأوكسجين والنتروجين والكربون، وأما ما يرى فيها من العناصر الأخرى - الكلسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والمغنيزيوم والحديد، وأملاحها الكلورات - كلوريد، والفصفات والسلفات والنترات والكربونات ... إلخ؛ فوظيفتها ثانوية وسيطة
Catalysis . فلنر أي هذه العناصر الأربعة ذو الشأن الأهم في تأليف الجزيئات العديدة الذرات.
أما الهيدروجين والأوكسجين وحدهما فلا يتألف منهما إلا بضعة أنواع من الجزيئات لا يزيد الواحد منها على أربع ذرات، وإذا دخل النتروجين معهما أو مع أحدهما فلا يتألف منها جزيئات تزيد على بضع ذرات أيضا ، حتى لو دخلت عناصر أخرى ثانوية غير هذه الثلاثة فلا يناهز عدد الذرات في الجزيء الواحد بضع عشرة ذرة. ولكن إذا نزل الكربون إلى الميدان رأيناه يؤلف مع العناصر الثلاثة التي نحن بصددها جزيئات تعد ذراتها بالمئات وأحيانا تتجاوز الألف، فإذن في الكربون سر الحياة. «هذه ملاحظة وردت عرضا في كتاب «الكون الغامض» تأليف السير «جيمز جينز» ولكنه لم يشرح هذه النظرية.»
فماذا في هذا العنصر - الكربون - من الخواص أو المزايا التي تخوله القدرة على تكوين البروتاينيات والكربوهيدرات والدهنيات التي تتألف منها الخلية الحية
Cell ؟ فلنبحث في كل من هذه العناصر الأربعة.
ه = الهيدروجين، ذو بروتون وإلكترون واحد حر.
و = الأوكسجين، ذو 16 بروتونا و8 إلكترونات حرة ما عدا المتحدة ببروتوناتها وهي النيوترونات.
ن = النتروجين، ذو 14 بروتونا و7 إلكترونات حرة ما عدا المتحدة ببروتوناتها وهي النيوترونات.
ك = الكربون، ذو 12 بروتونا و6 إلكترونات حرة ما عدا المتحدة ببروتوناتها وهي النيوترونات.
فلنضرب صفحا عن البروتونات؛ لأن الألفة الكيماوية التي تؤلف الجزيئات لا تتوقف على عدد البروتونات في الذرة الواحدة، بل على عدد الإلكترونات الحرة فيها فقط.
وسنعلم من مقال «فناء المادة» في هذا الباب أن الكهيربات - الإلكترونات الحرة - تدور حول النواة - مجموعة البروتونات - والنيوترونات في مناطق؛ الأولى معدة لإلكترونين فقط. والمنطقة الثانية التي بعدها معدة لثمانية إلكترونات. ولا شأن لنا بالمنطقة الأولى ولا بالمناطق التي بعد الثانية؛ لأنه ليس في أي من هذه العناصر الأربعة ما يشغل أكثر من المنطقة الثانية، ولأن المناطق الأخرى التي بعدها خاصة بعناصر غير عناصر الحياة.
إذن الإلكترونات التي تدور في المنطقة الثانية هي:
في الأوكسجين 6، يبقى محل لإلكترونين، (2) في المنطقة الثانية - شفع أي زوج.
في النتروجين 5، يبقى محل لثلاثة إلكترونات، (3) في المنطقة الثانية - وتر.
في الكربون 4، يبقى محل لأربعة إلكترونات، (4) في المنطقة الثانية - شفع.
فلعل كون الكربون شفعي الإلكترونات الموجودة وشفعي الإلكترونات الناقصة لتتمة المنطقة هو الأمر المسهل له الاتحاد بالعناصر الأخرى مهما اختلف عدد الذرات في الجزيء، يساعده على ذلك الأوكسجين الشفعي الإلكترونات أيضا، ويساعدهما الهيدروجين لإتمام ما ينقص المنطقة من الإلكترونين في تأليف الجزيء، ولا سيما متى دخل النتروجين فيه وهو وتري الإلكترونات.
وبهذا التسهيل يتضح تآلف الذرات الثلاث باستقرار ومن دون تقلقل، مثال ذلك في الحامض الكربوني «كربون داي أوكسيد = ك و2» الذي يدخل جزيئه كثيرا في المركبات الحيوية، يأتلف الكربون مع الأوكسجين فيشرك كل منهما بإلكترونين من إلكتروناته الأربعة، وتصبح المنطقة الثانية لكل منهما تامة. والجزيء يستقر بهذا الاشتراك متعادل الشحنة الكهربائية، ولا يتفكك إلا إذا طرأ عليه جزيء آخر، فيندمج الاثنان معا في جزيء جديد.
وإذا أنعمت النظر في مركبات الكربوهيدرات والدهنيات وجدت أن ائتلاف الكربون والأوكسجين يحدث على هذا النحو، وفي حالة أن الجزيء ينقصه إلكترون واحد يدخل الهيدروجين بإلكترونه، والهيدروجين مطواع يدخل بإلكترونه في معظم الجزيئات لإتمام النقص. «هذا بحث دقيق جدا لا يكفي التوسع فيه وشرحه مقال أو أكثر.»
وأما النتروجين فلأنه وتري الإلكترونات - 3 في المنطقة الثانية - فغالب الظن أن ائتلافه مع الجماعة لا يسهل إلا بتعدد الذرات الكثيرة في الجزيء الواحد، بحيث يستطاع تأليف جزيئات متعادلة الشحنة الكهربائية، ولذلك لا يدخل إلا في تألف البروتايينات التي تعد ذرات الجزيء الواحد فيها بالمئات، أو أن اندماجه فيها سبب تعدد ذراتها، ولكنه لا يدخل في الكربوهيدرات والدهنيات؛ لأنه بدخوله يجعل الجزيء عديم الاستقرار كما يستدل من معظم مركباته؛ إذ يظهر فيها قلقا دائما لا يكاد يستقر في مركب منها. فكأن قوة ألفته
affinity
ضعيفة جدا - خلافا للكربون؛ فلأقل طارئ يتنافر مع العناصر الأخرى ويتركها أو تتركه. ومن أبسط الأمثلة على ذلك النشادر
Ammonia ، وهو مركب من نتروجين واحد وثلاثة هيدروجينات = ن ه3، ولكنه في هذه الحالة لا يمكن أن يوجد مستقلا؛ لأن إلكتروناته في المنطقة الثانية 3، وإلكترونات الهيدروجينات الثلاثة 3، والمجموع 6؛ فتبقى المنطقة ناقصة إلكترونين ويبقى الجزيء إيجابيا غير متعادل.
لذلك لا يوجد النشادر مستقلا البتة، بل لا بد من اتحاد جزيئه بجزيء آخر كجزيء الماء مثلا ليكون منهما هيدروكسيد الأمونيوم ذائبا في الماء «ن ه3 + ه2 و= ن ه04 ه و» ومجموع إلكتروناتها جميعا 16 تشغل منطقتي الأوكسجين والنتروجين، مع ذلك يبقى هذا النتروجين الشاذ المتمرد قلقا لا يطيق التقيد بأخويه ، فيتطاير بشكل ن ه3 من الماء كما نعلم من رائحته التي لا تطاق ويفلت بانحلال الجزيء برمته، والنشادر موجود أيضا كضلع
Radical
في البولينا
Urea ؛ ولذلك يشعر برائحته في المباول التي طرأ عليها الاختمار المفكك له.
ومن الأدلة على قلق النتروجين وتمرده أنه داخل في المواد المفرنقعة كالنيتروجليسرين وتراي نيتروتاليين، وغيره، «وهو سبب افرنقاعها؛ لأن الافرنقاع ليس إلا تنافره مع الذرات الأخرى وإفلاته منها، فتتفكك الجزيئات إلى ذرات تتمدد بسرعة فائقة وهي سبب الضغط.» (4) وظائف العناصر
يستدل مما تقدم:
أولا:
أن وظيفة الأوكسجين والهيدروجين في الحياة إيجاد الوسط - الماء - الذي تنتقل به الحركة، ثم اشتراكهما مع الكربون في إيجاد الوقيد الذي هو مصدر القوة فالحركة.
ثانيا:
أن وظيفة الكربون جمع العناصر الأخرى معه وربطها بالألفة الكيماوية لبنيان هيكل الجسم الحي على اختلاف أنواع خلياته من الميكروبات المتنوعة ذات الخلية الواحدة
Unicellular
إلى ما فوقها من الأحياء المتعددة الخليات
Multicellular
ولولاه لما تألف جزيء حيوي.
ثالثا:
فيما أن وظيفة الكربون البناء تكون وظيفة النتروجين الهدم - من غير إطلاق معنى الهدم - وهي وظيفة ذات شأن لازمة للحركة والنمو ولتطور حياة الخلية؛ فمعظم عملية دخول «الغذاء» إلى الخلية وتمثيله فيها ثم خروجه منها بشكل مختلف عن شكل دخوله - أي عملية التحول
Anabolism - يتم بتقلقل النتروجين في مركبات البروتايين المختلفة. فمنذ ولادة الخلية إلى أن تزول تحدث تحولات كيماوية متنوعة عديدة متوالية تتجدد بها حياتها، تحدث بواسطة الكربون وتقلقل النتروجين.
في أثناء هذه التحولات التي تحدث بسبب تقلقل النتروجين يحدث تأكسد الكربوهيدرات وأحيانا الدهنيات؛ أي: إحراقها، والنتيجة حرارة، والحرارة صورة من صور الطاقة كما تعلم. وليس ذلك فقط، بل إن تقلقل النتروجين وتنقله من شكل جزيء إلى شكل جزيء آخر يحدث التأين
Ionisation ؛ أي انسلاخ بعض الكهارب من الجزيئات وحدوث شحنات كهربائية سلبية أو إيجابية، ولا سيما في الجهاز العصبي؛ إذ يمكن استكشافه هناك وإثبات وجود تيار كهربائي ضعيف فيه، وحدوث هذا التيار هو من جملة مصادر القوة والحركة في الخلية وسائر أعضاء الجسم.
حركة الحي
بقي أن نبحث قليلا في كيفية حدوث الحركة في الحي أو على الأقل في خلية الحي.
ابتدأ البروتوبلاسم، أول أشكال الحياة، هلامي القوام - جلاتينيا - بسيطا ذا نوع واحد من أنواع البروتايينات، وتألفت جزيئات هذه البروتايينات بسيطة جدا، أبسط ما يمكن أن يكون من هذا الصنف من المركبات الكيماوية الرباعية - ذات العناصر الأربعة - تألفت تحت تأثير نور الشمس وحرارتها المعتدلة وتأثير الفوتونات المنتشرة منها، وسائر أنواع التشعع مما لا بد أن يحدث التأين في هذه العناصر تارة بعد تارة، فهذه العوامل المختلفة تؤدي إلى سلسلة التركبات الكيماوية المختلفة التي منها البروتايين. (5) حدوث حركة الحي
وابتدأت جزيئات البروتايين متصلة بعضها ببعض؛ لما فيها من لزوجة وبواسطة جاذبية الملاصقة
Cohesion ، فلا تنحل في الماء ولا تذوب فيه، وإنما ينفذها الماء ويتخللها
Osmosis
بما فيه من مركبات كيماوية بسيطة كالحامض الكربوني مثلا، وبعبارة علمية «مضللة»، تمتصه
1
وتمتص معه ما يذوب فيه من المركبات والذرات اللازمة لها لكي تتمثل فيها، وتنبذ منه ما لا حاجة لها به.
ولا يخفى أن عملية الامتصاص والنبذ هذه تستلزم حركة انتفاخ وضمور متعاقبين في الجسم الهلامي، وبين هذه الحركة وما في البيئة المائية - الحياة ابتدأت في الماء - من الحركة الميكانيكية تفاعل لا بد منه؛ أي: لا بد من حدوث تفاعل بين الجسم الحي وبيئته أخذا وردا، أو امتصاصا ونبذا. وفي أثناء هذا التفاعل الطبيعي
يجري السائل في غضون الخلية أو خلالها حاملا مواد خارجية مختلفة كالحامض الكربوني والأملاح من كربونات ونترات ... إلخ. وفيما هذا السائل يتسرب إلى غضون الخلية تحدث تفاعلات كيماوية متوالية بين المواد التي يحملها وبين جزيئات الخلية، تحدث هذه التفاعلات باستمرار ما دامت مواد جديدة تدخل وما دام النتروجين ينشز من جزيء إلى جزيء، وما دام الكربون يتفنن في تجديد الجزيئات بحسب الذرات التي ترد إليه، وفيما يحدث هذا التفاعل الكيماوي يكون من نتائج التحولات انفلات بعض الذرات من المركبات بحالتها الغازية، وهذه الحالة تحدث الانتفاخ والضمور المتعاقبين اللذين أشرنا إليهما سابقا، وبالتالي يحدث مجرى سائلي في غضون الخلية.
فترى أنه ما دام الامتصاص يدخل إلى جسم البروتوبلاسم جزيئات جديدة وأحيانا ذرات أيضا فهذا التفاعل الكيماوي يحدث باستمرار على التوالي وبسرعة، ففي كل هنيهة يحدث حل وتركيب في الخلية مجددان لحياتها ونموها؛ فتخرج منها جزيئات وذرات قد استغنت عنها كما دخلت إليها جزيئات وذرات اندمجت فيها اندماجا كيماويا، فكأن البروتوبلاسم معمل كيماوي دائم العمل - الحل والتركيب - ما دامت الخلية تستطيع أن تمتص من البيئة وتنفث فيها.
لماذا هذا الامتصاص وهذا النبذ؟ هو غاية وسبب معا، هو خضوع للتفاعل الكيماوي - الألفة الكيمية - الجاذبية.
ولأن سطح الخلية الكروي الخارجي ملابس للبيئة، والتفاعل الأول يقع بينه وبينها، فلا بد أن تكون جزيئاته مختلفة ولو بعض الاختلاف عن جزيئات داخل الخلية، وطبيعة هذا التفاعل تجعل ذلك السطح كغلاف أمتن مما هو ضمنه وأقبل للامتصاص، وهكذا تقضي سنة التطور أن تكون وظيفة هذا الغلاف الامتصاص والنبذ، وحماية الداخل من التفاعلات المنافية لمصلحة الخلية التي لا يستطيع داخلها أن يتوقاها كما يستطيع الغلاف اتقاءها، وهكذا يصير جسم الخلية ذا عضوين مختلفي الوظيفة، الخلاف الذي وصفناه، والنواة التي وظيفتها الرئيسية العمل الكيماوي المنمي بالتجديد والتحول
Metobolism & Katabolism
وبينهما مجرى السائل الذي يحمل المواد الداخلة والمواد المنبوذة.
وما دامت البيئة المختلفة ذات عوامل مختلفة في أحوال مختلفة، فلا بد من تنوع مناطق الجسم أو أجزائه بوظائف مختلفة؛ لكي تقابل مفاعيل البيئة وتنتفع بها، وهذا التفاعل المنوع يسبب تنوعا يضاهيه في العمليات الكيماوية، وكذلك تتنوع جزيئات الأجزاء المختلفة الوظائف. كذا نشأت أصناف البروتايينات والكربوهيدرات والدهنيات على تمادي الزمان بحكم قانون التطور، ففيما كانت الجزيئات تتجمع في هلام كانت تتنوع في بروتوبلاسم. •••
ليس غرضنا من هذا الفصل الاسترسال في وصف العمل الحيوي والتطورات التي تتعاقب على البروتوبلاسم وتنتج أنواعا، فإن هذا البحث من خصائص البيولوجيا، وإنما غرضنا أن نستقصي سر الحياة إلى أعمق ما يستطاع، وفيما استقصيناه من بيئة الذرات الأربع التي تتألف منها جزيئات البروتوبلاسم لم نجد إلا تفاعلات كيماوية متوالية متعاقبة خاصة بالعناصر الأربعة، تحت تأثير حرارة معتدلة وتأثير تشععات الشمس المختلفة.
وقد رأينا أن الدور الأهم في هذه التفاعلات هو الدور الذي يلعبه الكربون؛ لأنه لولاه لما أمكن تكون البروتايينات، ويليه في خطر الشأن الدور الذي يلعبه النتروجين بنشوزه وشذوذه.
فهل سر الحياة هو في الألفة الكيماوية التي تتلاعب بهذه العناصر الأربعة، أم هو في هذه الألفة مع شيء آخر يستخدمها ولا زلنا نجهله؟ ربما كان الكيماوي يقتنع بأن الألفة الكيماوية هذه كافية لإصدار الحياة؛ لأنه لا يرى شيئا آخر غيرها وراءها، وربما كان غير الكيماوي لا يرتاح إلى هذا التعليل؛ فتبقى الحياة سرا غامضا له، فإذا صح أن الحياة ألفة كيماوية بين 4 عناصر خاصة تحت تأثير حرارة خاصة وتشععات خاصة أيضا، فتكون قد ظهرت على الأرض صدفة؛ أي غير مقصودة في الوجود المادي، ولا هي مضمرة في الفوتونات التي تألفت منها البروتونات والإلكترونات.
وأما القول أن وراء العامل الكيماوي عاملا آخر سماه «برغسون»
Elan Vilal ؛ أي «الحماسة الحيوية» فما هو إلا تعبير آخر لمعنى العامل الحيوي، ولكنه لا يفسر هذا العامل بل يبقى به غامضا كما كان.
الفصل الخامس
التجمع والتفرع الحيويان
أما وقد انتهينا من بيان أن الحياة ليست إلا عملا كيميا محصورا في أربعة عناصر برئاسة الكربون، فنعود الآن إلى تطبيق الحياة على قواعد التنظيم جميعا: التجمع والتفرع أولا، ثم الدورية ثانيا. (1) عملية التجمع والتفرع كيماوية وآلية
رأينا في عملية تنظيم الكون المادي أن التجمع والتفرع جريا معا جنبا إلى جنب، وأن هذه العملية كانت آلية «ميكانيكية»، كانت مجرد تجمع ذرات في جماعات كبرى تربطها الجاذبية العامة، ثم تفرعت إلى جماعات صغرى بفعل الدوران، والجاذبية علة الدوران كما علمت.
وأما عملية التجمع والتفرع في الحياة فكيماوية، فضلا عن كونها ميكانيكية أيضا، وأما التآلف الكيماوي على الإطلاق - حيوي وغير حيوي - الذي كان يحدث في تجمع العوالم فكان عارضا - كان نتيجة، لم يكن ذا شأن في تجمعها وليس له يد فيها، اللهم إلا في تجمع الجزيء، بل كان يصفي الغازات من السوائل وهذه من الجوامد، وكان التجمع الميكانيكي سابقا وممهدا له، على أن هذا التآلف الكيماوي المذكور هو ذو اليد الطولى في التجمع والتفرع الحيويين. والجاذبية سبب كل من هذين التجمعين؛ لأن الألفة الكيماوية ليست إلا شكلا من أشكال الجاذبية أرقى من شكلها العام، نقول: إنه أرقى بمعنى أنه أتى بعده مركبا معقدا، وهذا بسيط، ثم إن الألفة الكيماوية في التجمع الحيوي أرقى من الألفة الكيماوية العامة؛ لأنها أتت بعد هذه أكثر تركبا وتعقدا.
رأينا في عملية تجمع السدم وتفرعها إلى سديمات وأجرام أن التجمع لا يمكن أن يستمر، إلى أن المجتمع الواحد يلتهم كل مادة هيولية في الكون ويصبح الكون كله كتلة واحدة متقلصة، وإنما يبلغ التجمع إلى حد لا يعود يستطيع بعده أن يلتهم مزيدا؛ لأن قوة الجاذبية تضعف عند محيطه المترامي، وهناك ينتهي حد التجمع بحجم لا يقبل المزيد. وثم تبتدئ عملية التفرع؛ إذ تتقطع طبقات الجرم السديمي الخارجية إلى قطع، طبقة بعد طبقة، على نحو ما وصفناه في محله، أما التجمع الحيوي فيختلف عن هذا إلا في بلوغه إلى حد معين لا يتجاوزه؛ وهاك بيان الخلاف.
الخلية البروتوبلاسمية هي أول درجة من درجات التجمع الحيوي، فهي لم تتكون من تجاذب ذرات متجاورة تجمعت حول مركز جاذبي متبادل بينها، بل تكونت من سلسلة تفاعلات كيماوية متوالية بين جزيئات يربطها «مبدأ حيوي» مجهول الذاتية مودع في عنصر الكربون على نحو ما بسطناه آنفا. وهذه الجزيئات المرتبطة بالمبدأ الحيوي تضم إليها جزيئات من الخارج وتدمجها في نفسها إلى أن تبلغ كتلتها حدا معينا من الكبر فلا تعود تتجاوزه؛ عند ذلك الحد تعتبر ناضجة، فلا تضم لنفسها جزيئات جديدة إلا تأهبا لانقسامها إلى خليتين جديدتين كل منهما بنوبتها تضم إليها جزيئات وتدمجها فيها إلى أن تبلغ حد النضوج المذكور، حيث تنشق إلى خليتين أخريين. وهكذا دواليك إلى ما شاء الله.
فترى أن التجمع الحيوي يحدث باغتنام جزيئات من خارجه وإدماجها في نفسه تدريجيا، خلافا للتجمع السديمي الذي ليس إلا تضام ذرات متجاورة بحكم قوة الجذب فقط.
ثم إن بلوغ التجمع السديمي حده يتوقف على استطاعة قوة الجذب الاستمساك بأقاصي طبقات السديم بتغلبها على قوة التشريد عن المركز، وأما بلوغ التجمع الحيوي حده فلا يتوقف على قوة جذب ولا على قوة دفع، حتى ولا على قوة ألفة كيماوية، بل على استطاعة الخلية الاحتفاظ بالجزيئات الكامنة للقيام بشخصيتها.
ثم إن التفرع السديمي يحدث عند عجز قوة الجذب المركزي عن مقاومة قوة التشريد المتوقفة على سرعة الدوران المركزي، فتستقل الكتل المتطرفة منه بتجاذب فرعي بينها وتنفصل جماعات فرعية قائمة بنفسها. أما التفرع الحيوي فلا يتوقف على قوة التجاذب ولا على قوة التشريد، بل على نضوج الخلية بحيث لا تعود هذه تستطيع الاحتفاظ بالمزيد، أو لا تحتاج إلى مزيد للقيام بشخصيتها فتنشق إلى اثنتين.
إذا اعتبرنا عملية التجمع والتفرع تطورا؛ فالتطور السديمي تألب جماعة ثم تقلصها بفعل الجذب وتفاوت طبقاتها بدرجات التقلص تبعا لقانون البعد عن المركز، ثم تقسم الطبقات المتطرفة إلى جماعات، وأما التطور الحيوي فعمل كيماوي يجتذب الجزيئات من الخارج إلى الداخل ثم يوزعها في الداخل، واللاحق منها يطرد السابق؛ فالعملية إذن عملية امتصاص وإفراز في وقت واحد تخرج بها الجزيئات المفرزة مختلفة اختلافا كليا عن الجزيئات التي دخلت ممتصة. (2) تجمع التجمع الحيوي
تتوالد الخليات بالتقسيم المشار إليه آنفا وتتضاعف عددا على التوالي، فتبلغ في عهد قصير ألوفا بقدر ما تسمح لها البيئة إلى أن تصبح جماعة كبيرة، فإذا لم تسمح لها البيئة بالتفرق والتشتت، كما لو كانت في مستنقع راكد؛ بقيت جماعة متعاونة، وفي هذه الحال تختلف ظروف أفرادها بحسب مواضعها في تجمعها؛ فالتي في الحواشي والأطراف تكون ذات حظ أوفر من الامتصاص والإفراز، والتي في الداخل تقتبس حاجتها من الممتصات. وعلى التمادي تصبح الجماعة متعاونة في حياتها، وبالتالي أشد ارتباطا بعضها من بعض؛ تصبح أخيرا كجسم واحد متعدد الخليات كالهيدرا
Hydra . هكذا ينشأ حي مؤلف من خلايا حيوية ذات عدة بروتوبلاسمات،
1
وعلى التمادي يختص كل فريق من هذه الخلايا بوظيفة من وظائف العمل الحيوي، كالامتصاص والهضم والإفراز ... إلخ، كأنها جماعة اشتراكية فرقت الأعمال فيما بينها، وتقاسمت نتاج أعمالها.
لا ترى في المجتمع السديمي مثل هذا التنويع في الوظائف؛ فالجماعات أو الفروع الصغيرة كالأمهات الكبيرة ذات طبائع وسجايا متماثلة.
ثم إن لهذا التجمع المركب الحيوي - تجمع الخليات والتصاقها - حدا يبلغه أيضا فلا يتجاوزه، حتى متى بلغت الجماعة إليه وصارت ناضجة انفصلت منها خليات لتنشئ بنوبتها جماعة جديدة - كما هو معروف في عمليات التناسل المختلفة - بنفس الطريقة التي نشأت فيها أمها؛ أي: بالامتصاص من الخارج والاندماج في الداخل والتقسم الخليي - الخلوي.
على هذا النحو نشأت أنواع الأحياء من أحقرها إلى أعلاها؛ فتعددت أصناف الخلايا البروتوبلاسمة بتعدد الوظائف اللازمة لحياة كل نوع. تنوعت الأحياء تحت فعل عوامل البيئة من الخارج وعوامل الحياة من الداخل، وإذا بنا نرى هذه الأحياء العديدة الأنواع تجمعات خليات مختلفة - جماعات، وكل جماعة منها مجموعة جماعات أيضا، كما نرى في الأحياء العليا. انظر إلى الفرد منها تره مجموعة أجهزة - هضم، عصب، تنفس، دورة دموية ... إلخ - وكل جهاز منها مجموعة جماعات من الخليات المختلفة بنية وسجية.
ترى مما تقدم أن التجمع الحيوي الكيماوي أكثر تركبا وتعقدا من التجمع المادي الميكانيكي في الأجرام والسدم، وتفرعه عديد التنوع جدا. أنواع لا تحصى متدرجة في سلم التطور من الهيدرا إلى سائر المائيات؛ فالصدفيات إلى الضفدعيات إلى الفقاريات فاللبونات إلى أشباه الإنسان حتى الإنسان.
فما هو الفرق الجوهري بين نوعي التجمع المادي الميكانيكي والحيوي الكيماوي؟
الأول:
ضم وتوسع في الحيز تحت سيطرة الجاذبية.
والثاني:
إدماج واقتسام للحيز تحت فعل الألفة الكيماوية وتحت سيطرة المبدأ الحيوي الدفين سره في الكربون - إن كان هناك مبدأ حيوي غير العامل الكيمي. ثم إن الأول يجمع الذرات والجزيئات من غير تضامن فيما بينها، يجمعها في جماعات، إلى أن يستنفذها كلها، فلا يبقى في الكون إلا رحاب خلاء بين جماعات شبه أبدية مقصورة على الحركة الدورانية.
وإن الثاني يتصيد الذرات الأربع من الهواء والماء والتراب ويدمجها في جماعات إلى أجل قصير، حتى متى أفرغت طاقتها في سبيل حياة الجماعة أطلقتها إلى الفضاء، وبعد أن يستخدم طاقتها في عملية النمو والتوالد يطلق طاقتها أيضا. والجزيئات المطلقة تكتسب طاقة جديدة من المتشععات - فوتونات - الواردة من الشمس وتهيئها للاندماج ثانية في خليات حيوية أخرى؛ وهكذا دواليك.
ثم إن الأول يتلاشى بالإشعاع التدريجي على تمادي الزمان من غير أن يفقد شخصيته.
والثاني ينحل متى توقف العمل الحيوي فيه، إما لطوارئ خارجية، أو لانتهاء أجل الحيوية فيه بتسلط عوامل هادئة، فتشتت أجزاءه أو ذراته عاجلا. (3) أشكال التجمعات الحيوية
وقد رأينا التجمعات المادية بسيطة الذرات والجزيئات ولا تتخطى ستة أجيال - من السدم إلى الأقمار كما علمت - ولكن التجمعات الحيوية مركبة الجزيئات في أشكال لا يحصى عددها، ولا سيما في الأحياء العديدة الخليات؛ فلكل عضو من أعضاء الحي صنوف عديدة من أشكال الخليات، خذ خيطا من خيوط العصب تجده ذا لباب وغلافين. وكل منها ذو صنف خاص من الخليات يختلف عن صنف غيره، وقس على العصب أنواع العضل المختلفة في كل جهاز من أجهزة الجسم المتعددة، فلو أحصيت أشكال الخليات في أصناف الأحياء المختلفة لوجدتها تعد بمئات الألوف، وحاصل القول أن التجمعات الحيوية متعددة الأشكال، وكل يوم ينشأ شكل جديد منها وينقرض شكل قديم، بمقتضى سنة التطور تحت عوامل البيئة.
ثم إن التجمعات الحيوية سلسلة من الأجيال لا تكاد تحصى ولا تكاد تنتهي، تتبدل وتتعاقب على مرور الزمان، وتتغير وتتطور على مدى الدوران. وبهذا التطور نشأت ولا تزال تنشأ أصناف أحياء مختلفة لا عداد لها، فينقرض بعض منها بتغلب بعض فيما ينشأ بعض آخر. وما يسمونه المبدأ الحيوي هو السلك الذي تنتظم فيه التجمعات الحيوية جميعا بفعل الألفة الكيماوية، وأما التجمعات السديمية فسلكها الجاذبية العامة فقط، والألفة الكيماوية هي صورة من صور الجاذبية.
وكان من أهم نتائج النشوء والتطور أن تفرعت الحياة إلى فرعين رئيسيين: النبات والحيوان. ثانيهما يعيش على حياة الآخر، وهذا يعيش على حساب العناصر الأربعة تحت تأثير تشعع النور والحرارة . النبات يختزن جانبا كبيرا من الطاقة - القوة - التي يصطحبها، والحيوان ينفقها في حركته.
فانظر ما أعجب عمل الألفة الكيماوية في العناصر الأربعة التي تكونت منها ملايين أصناف الأحياء وعشرات ألوف أنواع الجزيئات. بل ما أعجب فعل الكربون الذي هو واسطة الائتلافات العديدة بين العناصر الأربعة. وانظر الفرق العظيم بين التجمعات المادية والتجمعات الحيوية.
وما دمنا نجهل ماهية هذه «القوة الحيوية» ولا ندري إلا أن ظاهرات
الحياة هي ظاهرات كيماوية بحتة؛ فيحق لنا أن نزعم أن مبدأ الحياة هو في كيمياء الكربون مع شركائه العناصر الثلاثة الأخرى، وسيطرته عليها في تأليف البروتايينات والدهنيات والكربوهيدرات، فسر الحياة كيماوي خاص بالكربون وإخوانه. هذه مزية للكربون ليست لغيره من العناصر الأرضية، كما أن المغنطيسية مزية للحديد ويجاريه - في ترتيب العناصر - الكوبلت والنكل - وهما أضعف منه مغنطيسية. وكما أن الإشعاع
Radioactivity
مزية العناصر العليا - أسرة الراديوم.
فكأن الطبيعة منحت بعض العناصر هذه الخواص الثلاث الممتازة: الحياة، المغنطيسية، الإشعاع، وهي أهم ظاهرات الطبيعة وأعظمها عجبا، وبها تتجلى لنا الطبيعة في هيكل جلالها وهيبتها.
الفصل السادس
مقام الحياة في الكون
(1) هل الحياة غاية الوجود؟
كان الفلاسفة والعلماء المفكرون حتى أواخر القرن الماضي يعتقدون أن سر الحياة «قوة حيوية» أجنبية عن المادة، ومسيطرة عليها، ومحدثة العمليات الكيماوية التي تحدث في كل خلية مفردة أو مشتركة مع خليات أخرى
Molticelular ، كأن هذه القوة معمل كيماوي عظيم ينتج ألوف أصناف المركبات العضوية
Organic
نباتية وحيوانية، وبناء على هذه العقيدة رفعوا شأن الحياة إلى أن جعلوها الغاية القصوى من الوجود؛ أي: إن الكون المادي وجد لكي تنشأ الحياة فيه ولكي تستخدمه في ظاهراتها - وجد لأجل خاطرها.
فهل في أشكال الموجودات وظاهراتها ما يؤيد هذه العقيدة؟ بنظرة عامة في نشوء العوالم، كبيرها وصغيرها، وتطوراتها؛ يظهر لنا أن الحياة لم تكن غاية الوجود المادي البتة، بل جاءت عرضا على الأرض؛ لأن الظروف الملائمة لها وجدت عرضا أيضا، ليس الأمر كذلك فقط، بل إن الوجود المادي لم يحبل بها لكي يتمخضها، ولا خطرت له ببال، إذا تصورنا له إرادة حرة، بل بالأحرى إذا تعمقنا في البحث رأينا أن الوجود المادي عدو لدود للحياة، لا يراعي لها شأنا ولا رغبة ولا مصلحة، ولا يحسب لها قيمة. وإليك البيان:
الحياة محدودة بحدين من درجات الحرارة: بين درجتي الجليد والغليان. وبعد هذين الحدين تتلف الخليات الحية وتهلك حيويتها، وبالتالي لا تنشأ بتاتا، حتى إن نمو الأحياء وتوالدها متوقفان على درجات الحرارة الوسطى بين ذينك الحدين، المصحوبة بالأشعة الضوئية وجاراتها القريبة. فهل في العوالم أجرام كأرضنا لا تتراوح الحرارة فيها بأقصى من ذينك الحدين؟
الفلكيون الذين درسوا السيارات درسا دقيقا وجدوا أن الظروف اللازمة للحياة غير موجودة في غير الأرض، بل بالعكس وجدوا أنه يحتمل قليل الاحتمال وجود شكل من الحياة في المريخ يختلف بعض الاختلاف عن شكل الحياة في أرضنا، أو إنه يختلف عنه أكثر مما يشابهه.
أما في النجوم فلا أمل بوجود الحياة بتاتا؛ لأنها كلها في حالة الغازية، وقل ما هو منها في حالة السيولة أو حالة المزيج من السيولة والغازية، وحرارتها تفوق حرارة الأرض ألوف بل ملايين الأضعاف. بقي الأمل في أن يكون لبعض تلك النجوم القصية سيارات كسيارات أرضنا، ربما صلح بعضها للحياة كصلاحية الأرض لها، ولكن الكيفية التي تولدت السيارات بها من الشمس تذهب بهذا الأمل وتقطع كل رجاء.
لقد ثبت بالأدلة العلمية اليقينية أن السيارات لا تولد من الشموس بقانون طبيعي، وليس في سنن الاشتقاق الجرمي إلا سنة الاشتقاق السديمي إلى سديمات فإلى نجوم، وسنة اشتقاق النجوم المزدوجة
Binary stars ، وجميع هذه - على ما نعلمه - لا تزال في حالة الغازية والسيولة، ودرجات حرارتها عالية جدا، وقد ثبت أيضا أن تولد السيارات كنطفات صغيرة من شموس كبيرة بحيث تبرد عاجلا «نسبيا» لا يكون إلا بعارض طارئ كما حدث في توالد السيارات من الشمس.
1
وهذا العارض الطارئ نادر الحدوث جدا قد لا يحدث لواحد من مائة مليون نجم وكل مائة مليون سنة مرة - حسب رأي السير تجايمس تجينز - لسببين:
الأول:
أن رحاب الفضاء الخالية من الأجرام بين نجم ونجم واسعة جدا، فإذا كان معدل المسافات بين النجوم كالمسافة التي بيننا وبين أقرب نجم لنا «ألفاقنطورس» وهي نحو 4 سنين نورية وخمس؛ فلا أمل في أن يقترب نجم إلى نجم آخر اقترابا كافيا للتأثير الجاذبي فيهما بحيث ينشئ مدا وجذرا إلا في مصادفة نادرة جدا جدا.
الثاني:
أن الأجرام في قرص المجرة تسير متفاوتة في اتجاه واحد دائرة حول مركز المجرة بسرعات متفاوتة كما تدور السيارات حول الشمس؛ فعلى تلك الأبعاد السحيقة التي بينها ينقطع الأمل بأن يصادف مرور نجم آخر بحيث يحدث كل منهما مدا يسلخ منه نطفات صغيرة فتتجمد سيارات دائرة حوله. (2) الحياة مقصورة على الأرض
فلذلك يغلب الظن أن شمسنا هي الوحيدة في عالم المجرة التي تلقحت باقتراب نجم آخر إليها فولدت سياراتها، وأرضنا هي الوحيدة التي صلحت لتمخض الحياة، وإن كانت هذه الصدفة قد طرأت لجرم آخر فهيهات أن تكون الظروف المناسبة للحياة متوفرة لها كما توفرت لأرضنا. وإن كانت ظروفها مناسبة أو مقاربة لظروف أرضنا، فإن كان ثمت عمل كيماوي ينتج شيئا كالحياة التي نشأت على أرضنا، فظاهراته تختلف كل الاختلاف عن ظاهرات حياتنا.
زد على ذلك أن دهر الحياة على الأرض قصير بين دهور التطورات الأرضية؛ فقد سبقه دهر الغازية، فدهر السيولة، فدهر التجمد الذي كانت الحرارة فيه لا تزال فوق درجة الغليان أمدا طويلا، ثم سيليه دهر البرودة والجليد، وهو أطول دهور الأرض، وبعده دهر الفناء التشععي البطيء جدا، وهو أطول من دهورها جميعا.
فعمر الحياة على الأرض قصير جدا بالنسبة إلى عمر الأرض، وبالأحرى بالنسبة إلى عمر الشمس وسائر النجوم.
فترى مما تقدم أن العالم المادي يتطور تطورات مختلفة ليست من مصلحة الحياة، بل بالعكس هي تطورات قاضية على الحياة؛ فإذا تبينت طور الحياة من خلال تلك الأطوار تراءت لك لمعة لمعت مصادفة في مجرى الوجود كأنها فلتة شاذة.
فلو كانت غاية الوجود إنشاء الحياة وخدمتها ووضع نفسه كأداة بين يديها، ما انحصرت الحياة في الأرض، وهي أقل من ذرة في الأكوان ، ولا انحصر نشوء الجرم الصالح للحياة بسيار واحد حول شمس واحدة، ولا كان عمر الحياة كلحظة من زمن الوجود.
فإذا حسبنا عملية الحياة مجدا وفخرا في الخليقة فمجرتنا وسائر المجرات غير شاعرة بهذا المجد الذي لا ينطفئ لمعانه لدى لمعان أمجادها السموية، وإنما للأرض وحدها أن تفتخر وتتمجد بأن هذه العملية العجيبة - في نظر العقل البشري - كانت من حظها وحدها. وكانت مهدا لنشوء العقل الذي هو أعجب منها وأمجد، ويمكن أن نسميه فخر الوجود كله.
فعلى سطح هذا السيار الأرضي وحده نشأ مصادفة أعجب آيات الخليقة وأغربها وأمجدها - الحياة. ثم العقل. ثم العقل الاجتماعي. ثم ... ماذا؟
الفصل السابع
الدورية في الحياة
(1) التكرار عمل دوري
Rithm
ليست الدورية في الحياة دورانا حول مركز في جو جاذبي، وإنما هي تكرار كل عملية حيوية مرارا لا يحصى عديدها في أمد طويل؛ تعاد العملية نفسها المرة بعد المرة، ولا يحدث فيها تغير إلا بعد زمن طويل بحكم تأثير البيئة، ولا يشعر بهذا التغير إلا بمقارنة جديده بقديمه إن أمكنتك المقابلة. وهذا هو المراد بالتطور.
على أن الدورية على هذا النحو تتضمن العمل الجاذبي في أدق مجاريها؛ العمل الجاذبي في الذرات بين الإلكترونات والبروتونات، ولولاه لما أمكن حدوث الدورية على الإطلاق؛ إذ لا يخفى عليك أن الدوران الكهيربي - الإلكتروني - حول النواة في الذرة والجزيء هو سبب كل حركة، هو الحركة الأولى الصادرة مباشرة من ينبوع الطاقة - القوة الجاذبية - فحيثما وجدت عملا دوريا فتعقبت علته بلغت إلى دوران الكهيربات حول النوى، يتضح ذلك في ضرب الأمثلة بأهم أنواع الدورية وأظهرها.
في أبسط الخليات الجرثومية ترى تحت المجهر - المكرسكوب - مجرى بين نواة الخلية - بروتوبلاسم - وغلافها يجري فيه سائل دائر حول النواة، إلى هذا السائل تدخل من الخارج المواد المغذية للخلية، وتخرج منه إلى الخارج المواد التالفة، التي انتهى عملها في حياة الخلية. يدور هذا السائل بفعل انقباض جانب من الخلية وتمدد جانب آخر بالتناوب، وهذا التناوب في الانقباض والتمدد ناتج من تعاقب العمليات الكيماوية التي تحدث تباعا في النواة وغلافها وما بينهما من اتصالات، والعمليات الكيماوية هذه نتيجة التآلفات الكيماوية المتعاقبة بين الذرات، وما هي إلا الجاذبية في أفلاك الذرات.
لسائل كل خلية من الخلايا المتنوعة المفردة أو المتجمعة الملتحمة هذه الدورية العامة، وبين الخلايا المتجمعة الملتحمة
Multicelluler
مجار أخرى للسوائل التي تحمل غذاء الخليات الوارد إليها من الخارج، وتحمل مفرزاتها الصادرة من الداخل، وهذه المجاري تحدث بمثل الأسلوب الذي يجري به السائل في بطن الخلية؛ أي: بتقلص الأقنية من الخليات وتمددها، بفعل ما يحدث فيها من العمليات الكيماوية المتعاقبة.
وأظهر دورية من دوريات السوائل التي تطوف في الأجسام الحية الدورة الدموية في الحيوانات ذات الدماء، فهي تندفع من القلب إلى الشرايين وإليه من الأوردة، وفي القلب والشرايين والأوردة صمامات تنفتح لمرور التيار الدموي، وتنقفل لمنع ارتداده، ناهيك عن أن تجاويف القلب تنقبض وتتمدد لدفع الدم واستقباله، والشرايين والأوردة تتقلص وتتمدد بالتعاقب بشكل موجي دوري
Rithm
لتساعد على دفع التيار في مجراه؛ فترى أن عملية الدورية هنا مركبة معقدة، تشترك فيها جماعات متعددة من أصناف الخليات المختلفة، والمحرك الرئيسي فيها الجهاز العصبي.
والتيار العصبي نوع آخر من أنواع الدورية يشبه كثير الشبه التيار الكهربائي، «والراجح أنه نوع منه»؛ فهو دورة موجية تبتدي من أحد أطراف الجسم مثلا بسبب تفاعل مع البيئة، وترحل رحلة موجية في سلك العصب الحساس، إلى أن تبلغ إلى مركز عصبي في الدماغ، ثم ترتد منه على العصب المحرك إلى أن تصل إلى عضل العضو الذي وردت منه أولا، فتحرك العضل.
التنفس عمل دوري.
الهضم عمل دوري.
التناسل عمل دوري أيضا، وهو أكثر الدوريات تركبا وتعقدا؛ لأنه يتضمن جميع عمليات الحياة من الولادة إلى النمو إلى التوليد حتى الموت. (2) طواف الذرات في الأحياء
وربما كان العمل التمثيلي في الجسم
Anabalism
أعم أنواع الدورية في الحياة وأدقها وأعظمها تعقدا، تصور جزيئا
Molecule
كالحامض الكربوني دخل إلى خلية نباتية واندمج فيها مع جزيئات أخرى من الماء وغيره، فتألف منها جزيء كربوهيدراتي، فاستعملت الخلية ما في هذا الجزيء من طاقة بحلها إياه إلى جزيئات أخرى تطلقها في الفضاء، ثم تدخل هذه الجزيئات المحولة من ذلك الجزيء إلى خلية أخرى في حي آخر، وتندمج في جزيئات أخرى، وهكذا دواليك. فلو أمكنك أن تتبع ذرة من ذرات الكربون أو غيره في تنقلها، فقد تراها تطوف من خلية إلى خلية ومن حي إلى حي إلى ما شاء الله.
فطواف الذرات على هذا النحو هو علة تعاقب الخليات في نسيج الحي، وعلة تعاقب الأفراد من النوع الواحد من الأحياء في توالدها، وعلة تفرع الأحياء إلى أنواع؛ ذرات طائفة تتمثل كل حين بعد آخر بشكل جديد على مرور الزمان. والزمان يطوي هذه الأشكال العديدة في أذياله دورا بعد دور بأساليب مختلفة لا تحصى، هذه الأساليب هي دورانات مختلفة مركبة معقدة متجددة، مبتدعة الصور والأشكال.
لا تجد في الأكوان المادية - غير الحيوية - كالسدم والأجرام مثل هذا الطواف الذري المنظم الذي يظهر جماعات الذرات في أشكال عديدة متنوعة كأنها صنعة فنان. لا تجد في السدم والأجرام طوافا ذريا إلا بشكل كأنه فوضوي لا قاعدة له ولا نظام.
هذا الدوران الذري الذي يجمع الذرات ويفرقها على التوالي جمع مرارا عديدة كثيرا من ذرات الكربون، مع ما تحتاج إليه من أخواتها الذرات الثلاث الأخرى، في نبات وحيوان حتى انشغلت كل ذرة منها - ما عدا جانب من كربونات العناصر المعدنية كالكلس ... إلخ - في خليات عديدة على التعاقب؛ فكأن كل ذرة اشتغلت بعملية الحياة ملايين المرات التي لا تحصى.
العمل الحيوي استنفد كل ما على الأرض من ذرات الكربون الحرة، وما دفن منها تحت الثرى بسبب العوالم الجيولوجية، وهي تبعث الآن من مدفنها فحما حجريا، وتطلق وقيدا لتعود إلى الحياة في النبات والحيوان. هذه دورات كبيرة عامة تشمل كل ما على سطح الأرض وطبقاتها منذ صلحت الأرض للحياة، وقد تكررت هذه الدورية ملايين المرات، وستتوالى ملايين أخرى إلى أن تذوب الشمس، وتنخفض الحرارة إلى حد لا تستطيع الألفة الكيماوية عنده أن تجمع العناصر الأربعة وتفرقها.
إن عمل هذه الألفة الكيماوية عجيب، تكاد هذه الألفة تتجلى لنا ذات قدرة ذاتية بارعة، وذات إرادة حرة متفننة تتراءى لنا كأنها تتلاعب بأربعة من عناصر الطبيعة دون ال 92 عنصرا الأخرى؛ فتؤلف من ذراتها كل يوم أشكالا مادية حيوية جديدة على مرور الزمان، حتى إذا جعلنا نصف هذه الأشكال ونعلل تسلسلها بذلنا من المجهود ألوف أضعاف ما نبذله في وصف أجزاء الكون المادي وحركاته وروابطه؛ ذلك الكون العظيم العديد العوالم الذي لا يكاد عالمنا الحيوي الأرضي هذا يحسب نقطة وهمية فيه.
ذلك الكون عظيم في ضخامة مادته، وعظيم في رحاب حيزه، وعظيم في أنهار زمانه الجارية في مجاري الوجود. وأما عالمنا هذا الحيوي فبالرغم من ضآلة مادته وحيزه ومجرى زمانه وقصره، فهو أعظم من ذاك جدا في تنظيمه، وأعجب جدا في أنظمته؛ فالبيولوجي والبكتيريولوجي والهيستولوجي والفسيولوجي ... إلخ يرون من أعمال الحياة وتفاعلاتها المتنوعة العديدة العجب العجاب الذي لا يرى الفلكي الطبيعي معادلا له لا في الكم ولا في الكيف. إن متحف تاريخ الحياة القصير يحتوي على صور مختلفة لا يفرغ العقل البشري من استعراضها، وأما متحف تاريخ الأكوان الذي يكاد يكون غير متناه ففي وسع العقل أن يستعرضه في فترة من العمر. (3) الألفة الكيمية سر الحياة
فلماذا هذا العالم الحيوي الصغير أعظم فنونا من ذلك الكون الأعظم؟ في حين أن كلا العالمين من مجتمعات مادة واحدة - فوتونات فبروتونات فإلكترونات وذرات وجزيئات - ترى أين السر؟
لا بد أن يبدر إلى ذهن القارئ أن السر هو في الألفة الكيماوية المختصة بالعناصر الأربعة التي هي عتاد الحياة، فهي أقدر من الجاذبية العامة في التجميع والتفريغ وتنويع الدوريات كما رأيت في غضون هذا البحث. ولكن هذه الألفة الكيماوية موجودة في جميع الأجرام التي تجمعت من السدم الشفافة؛ ففي الشموس ترى عناصر متعددة لا وجود لمثلها في أرضنا، وترى جزيئات مؤتلفة منها وبعضها كما في أرضنا، وما هذه الألفة الكيماوية إلا ضرب من الجاذبية.
أجل إن الألفة الكيماوية موجودة هناك ولكن ليس السر في وجودها، بل في قيودها؛ فهي لا تستطيع في أي جرم غير الأرض أن تؤلف حياة من عناصرها الأربعة؛ لأن الحرارة هناك شديدة جدا لا تدع للألفة الكيماوية أن تلعب أدوارها الحيوية في بعض بسائط الجزيئات، وفي الأجرام التي بردت وجمدت كأقزام النجوم المزدوجة لا تستطيع الألفة الكيماوية أن تلعب أدوارها الفنية العجيبة لعدم وجود الحرارة الكافية لعملها. ما وجدت مسرحا لها إلا أرضنا، وربما وجدت مسارح أخرى مثلها لا ندري؛ لأن عملها الحيوي لا يحدث إلا حيث تتراوح الحرارة بين الجليد والغليان، وحيث توجد أشكال المادة الثلاثة - الجمود والسيولة والغازية - في جو هوائي يشمل أوكسجينا، وفي بحر مائي يشمل هيدروجنا، وحيث الكربون والنتروجن مبعثران في الأشكال الثلاثة.
من أين هذه الحرارة المعتدلة في الأرض؟
ليست من حاصلات الأرض؛ لأن الأرض باردة جامدة لا تشع إلا النزر اليسير من حرارتها، وإنما الحرارة الواردة من الشمس تمون الأرض بحرارة كافية للعمل الحيوي، لا أقل ولا أزيد مما هو لازم. فالألفة الكيماوية التي تلعب أدوارها على مسرح الأرض الحيوي تعتمد على ما تجود به الشمس من الحرارة من غير تفريط ولا إفراط، أو غير تبذير ولا بخل، ولولا وجود الشمس على بعد كاف لإرسال ذلك القدر من الحرارة اللازمة ما استطاعت الألفة الكيماوية أن تنتج الحياة البتة.
وما هي الألفة الكيماوية؟ أليست فرعا من الجاذبية العامة؟ أليست بنتها وربيبتها؟ فلا بدع في أن الجاذبية العامة التي هي علة الدوران والتشعع تجعل الشمس ترسل إلى الفضاء أشعة فوتونات حاملة طاقة وقوة دورانية، فيصيب منها الأرض رشاش يمنح عناصر الحياة الأربع قوة التجاذب - التآلف - والدوران. فالألفة الكيماوية الحيوية مستمدة من الجاذبية العامة، وانحصارها في مجال قصير من الحرارة الشمسية سمح لها أن تلعب أدوارها الفاتنة وتتفنن بها. لم يكن ذلك عن قصد من الشمس ولا من مجيء الأرض عمدا إلى ظروف مهيئتها ملعبا لهذه الأدوار، وإنما هي الصدفة الغريبة التي لا ندري إن كانت مفعول إرادة مستقلة حرة - حسبنا أن نعلم أننا حينما رأينا صورة من صور الوجود مألوفة أو غريبة وجدنا هنا الجاذبية تعمل عملها تجميعا وتفريعا دوريين.
ولكن هل يقف عملها هنا؟
إذن كيف نشأ العقل؟ (4) ما هي الحياة التي نراها؟ وكيف نراها؟
في بحثنا الآنف عنها لم نجد إلا ألفة كيماوية تشتغل في 4 عناصر، فأين الحياة إذن؟ أهي الألفة الكيماوية؟ لا؛ لأننا نعرف ألفة كيماوية بين عناصر أخرى، ولكن ليس فيها حياة، فما هي الحياة إذن؟
لم يتيسر لنا إلا هذا الجواب: ما هي إلا ظاهرة خاصة بتآلف هذه العناصر الأربعة. وما هي هذه الظاهرة؟ هي صور تركبات كيماوية متعددة من عناصرها الأربعة؛ إذن لا ذاتية ولا شخصية للحياة قائمة بنفسها - إذا لم تكن ثمت ذاتية خفية وراء هذه الظاهرات. هذا الكتاب الذي تطالعه مؤلف من العناصر الأربعة وغيرها، فالعناصر ليست الكتاب، وإنما تجمع العناصر متآلفة على هذا الشكل هو الكتاب؛ فالكتاب صورة من صور تجمعها، والبيت الذي تقيم فيه مبني من مواد مؤلفة من عناصر أخرى، فالعناصر ليست البيت وإنما تجمعها على هذا الشكل هو البيت؛ فالبيت صورة من صور تجمعها. كذا الحياة ظاهرة من ظواهر المادة لا المادة نفسها. فهل العقل كذلك؟
الباب الثالث
النظام العقلي
الفصل الثامن
ما هو العقل؟
(1) سر العقل
العقل في بحثنا عنه يتجلى لنا أنه ليس ظاهرة من ظاهرات تجمع العناصر، بل هو ظاهرة من ظاهرات حركاتها، هو ضرب من ضروب حركات المادة، والحياة ضرب من ضروب تجمعاتها.
أما سر الاثنين الأعمق فغامض.
وإذا كان سر الحياة غامضا فسر العقل أغمض منه مائة مرة.
إذا كان العقل كما نظن حركة في مادة الحياة؛ فهو قد نشأ مع الحياة رفيقا لها منذ بزوغها؛ بسيطا في عهد بساطتها، مركبا في عهد تركبها. (2) شعور وشهوة وإرادة وتعقل
العقل شعور، ثم شهوة، ثم إرادة، ثم تعقل، ثم تفكير، ثم تصور، ثم تذكر، ثم تخيل، ثم تفلسف.
في أبسط صور الحياة - الميكروب - كالأميبا مثلا العقل شعور فقط بسيط جدا، وإنما في هذا الشعور جرثومة كل ظاهرة من ظاهرات العقل، الأميبا تصدم ذرة رمل فتصد عنها، ولكنها لا تصد عن حويصلة داي أتوم
Diatom ، بل تلتف عليها وتغلفها وتلتهمها. وكرية الدم البيضاء تصدم أية كرية أخرى فتصد عنها ولكنها تصدم ميكروبا مرضيا سبحيا - ستربتوكوك - مثلا فتلتف عليه وتلتهمه؛ أفليس هذا شعورا في الأميبا تميز به بين ذرة الرمل والداي أتوم؟ وشعورا في الكرية البيضاء تميز به المكروب المؤذي من الجرثومة الصالحة؟ فأين منشأ هذا الشعور؟ هل هو الألفة الكيمية فقط، أم هنا شيء آخر معها نجهله؟
نصعد درجة أو بعض درجات في سلم أنواع الأحياء؛ إلى النبات الصياد مثلا، فنرى هناك زهرة ماكرة مفتوحة تشتهي هوامة لكي تهتضمها، فتظل مفتوحة إلى أن تنقض ذبابة على ما فيها من رحيق مغر لها، فتنطبق هذه عليها وتهتضمها. لو وقعت عليها ذرة من التراب ما أطبقت عليها؛ فهنا شعور يميز بين الذبابة والذرة الترابية، وشهوة تتحين فرصة وقوع الذبابة، فهل السر في الألفة الكيمية بين الزهرة والذبابة؟ لا شك أن للألفة العمل الأول في هذا التصيد، ولكن للشعور والشهوة عملا آخر أيضا علاوة على الألفة.
فما الشعور وما الشهوة؟ لا نرى إلا حركتي انبساط وانقباض في كل من الأميبا والكرية البيضاء والزهرة: فما سبب هذه الحركة؟ سببه عمل كيماوي أيضا، ولكن ليس بسيطا، بل هو عمل مركب معقد، تحض عليه مصادمات جزيئات لجزيئات، وخليات لخليات، في ظروف خاصة لا يسهل إيضاحها.
نرتقي درجات أخرى في سلم أنواع الأحياء، فنرى العنكبوتة أو الرتيلاء تنسج شبكة لتصطاد بها ذبابة تأكلها؛ فهنا نرى شعورا وشهوة وإرادة وتفكيرا وتعقلا، نراها بسيطة محصورة في أسلوب واحد، هو عملية التصيد.
نترقي إلى الحيوانات الفقارية، فنرى جرثومة التفكير والإرادة والتعقل أوضح وأنضج بأساليب مختلفة، وكلما ترقينا إلى جهة الإنسان في سلم الأحياء رأينا القوى العقلية أظهر وأوضح وأنضج وأوسع دائرة بالأساليب.
فلا نستطيع أن نقول إن العقل ابتدأ من هذه الدرجة في سلم الأحياء. ابتدأ مع الحياة وتطور بتطورها إلى أن بلغ القمة في الإنسان. (3) الجهاز العصبي مقام للعقل
في بسائط الحياة العقل بسيط جدا، شائع في جسم الحي - يدعونه غريزة ، ولكنه كان كلما تنوعت أعضاء الجسم وتخصصت لوظائفها الحيوية كان العقل ينحصر في ناحية من نواحي الأعضاء، إلى أن انحصر في الجهاز العصبي في الحيوانات العليا، وكان كلما توالى التطور تعددت وظائف الجهاز العصبي بتعدد أقسامه، حتى أصبح هذا الجهاز في الإنسان عالما عظيما، متعدد الأعضاء، متعدد الوظائف، يسيطر على الجسم كله، وعلى أعمال الجسم الداخلية والخارجية. فأين العقل الأسمى؟ هذا السؤال لغز لا نكاد نجد له حلا.
إن الظاهرات تدلنا على أن مقام العقل هو في الجهاز العصبي فقط، ومركزه الرئيسي في الدماغ. ولكن ما هو؟
نبحث عنه في أعماق الدماغ، فلا نجد إلا حركات في مراكز الدماغ وسائر الجهاز، متوافقة في اتجاهاتها متكافلة في مآلها، الأمر الذي لا يمكن حدوثه إلا بتواطؤ بين ملايين خليات الجهاز وتعاونها وتكافلها.
فكلما حدث شعور حدثت حركة في جميع الخليات التي يمر فيها هذا الشعور، هذه الحركة تتم بسلسلة تفاعلات كيماوية تعدل فيها الخليات جانبا من جزيئاتها وذراتها كأنها تتجدد تجددا تحوليا
Anabolic ، كذلك كل تفكير أو تصور أو إرادة ... إلخ تتم بسلسلة تفاعلات كيماوية في الخلايا الدماغية المخصصة للتفكير أو التصور أو الإرادة ... إلخ. فلذلك نتصور الجهاز العصبي معملا كيماويا عظيما، تحدث فيه تفاعلات كيماوية بين الجزيئات والذرات سريعة متعاقبة متعددة تعددا لا يتصوره العقل. (4) الأفعال العقلية تفاعلات كيمية
البرهان العملي على أن الأفعال العقلية المختلفة إنما هي حاصل حركات التفاعلات الكيماوية في الخلايات الدماغية؛ هو أنه في حالة الإجهاد العقلي تكثر في بول المجهد أملاح الفوصفات؛ لأن النشاط الدماغي يستلزم نشاطا في التفاعلات الكيماوية، وهذه التفاعلات تستورد كثيرا من ذرات الفوصفور لتستخدمها في جمع الطاقة وتصدرها في أنفاقها، وفي حالة الراحة العقلية تقل جدا أملاح الفوصفات في البول.
لا يرتاح عقلنا الارتياح التام لذلك التفسير لحركة الخليات الدماغية التي يكون من مركب مجموعها العقل أو قوى العقل؛ لأن أقل تأمل في المسألة يستحضر في ذهننا اللغز الأعمق والأعقد، وهو: أن هذه الحركات تحدث في ملايين الخلايات الدماغية متعاقبة متوافقة متساوقة في حركاتها، لكي تؤدي إلى مصير واحد أو غاية واحدة. فما الذي جعل ملايين الخليات هذه تتفق على أسلوب واحد من الحركة لغاية واحدة؟ أهي موجة ماجت في الجميع؟ فما هو مصدر هذه الموجة؟
لا يبعد أن تكون حركة موجية قد شاعت بين جميع خليات المركز أو خليات المراكز الدماغية المختصة بها، على أثر صدمة شعورية من الخارج مثلا للعصب الحساس، فأحدثت تأينا كهربائيا
Ionisation ، وهو انتقال كهيربات من ذرة إلى ذرة وانتقال ذرات من جزيء إلى جزيء بتيار كهربائي، وهو ما يسبب التفاعل الكيماوي أو التحولات الكيماوية بين الذرات في كل جزيء يمر به ذلك التيار، وبالتالي يحدث تحولات
Metabolisms
في الخليات، وهذا التحول المتتابع المتسلسل ينتج الحركة العقلية التي نحن بصددها.
هذا تفسير معقول للحركة الفكرية الصادرة من تفاعل خارجي على نحو ما بسطناه. ولكن هناك من الحركات الفكرية التي تحدث من غير طارئ خارجي؛ تفكير محض كالتفكير الفلسفي أو التفكير الفني، تصور عالما يخلو بنفسه في غرفته ليحل مسألة علمية أو قضية رياضية، ففي هذه الحال ليس ثمت من محرض خارجي يحرك خليات دماغه للتفكير، ليس العامل إلا إرادة ورغبة في التفكير كما يتراءى لنا، فمن أين صدرت هذه الحركة الفكرية؟
يتراءى لنا أن هناك إرادة حرة ورغبة في التفكير والإعنات الذهني لحل القضية، ولكن الحقيقة أن وراء تلك الإرادة وهاتيك الرغبة سلسلة محرضات، تكاد تقضي على الحرية التي نغتر بها، وليس هنا محل لبحث هذه القضية؛ فنكف عنها، ونعكف على بحثنا الخاص بنشوء الحركات الفكرية، على افتراض أن الإرادة والرغبة وجدتا حاضتين على البحث والتفكير.
فعملية التحول الخلوي - نسبة إلى خلية
1 - دائمة في كل عضو من أعضاء الجسم، ودائمة على الأكثر في خليات الدماغ، ففي كل لحظة تتجدد جزيئات في الخليات وتندثر جزيئات وتتأين ذرات أيضا؛ فلا يستحيل أن تصدر الخليات من تلقاء نفسها تفكيرا، والتفكير يتسلسل سلسلة لا تنقطع إلا بطروء طارئ، كما أن التحول الخلوي سلسلة لا تنقطع، وكل حلقة من السلسلة تستوجب صدور حلقة أخرى تليها ؛ فمتى ابتدأت سلسلة التفكير في اتجاه خاص تفضي أخيرا إلى الغاية، وهي حل المسألة أو تكوين الفكرة.
وتصور أيضا شخصا فنيا شاعرا أو مصورا يستنبط شيئا فنيا جميلا. فخليات دماغه الفنية تتحول على التوالي تحولات تنتج حركة فكرية فنية على نحو ما وصفناه، لذلك ترى ذا الفن كيفما فكر كان الغالب في تفكيره فنيا؛ لأن جانبا من خليات دماغه تهيأ على تمادي الزمن لإصدار الفكر الفني، إلا متى كان المحرك صادرا من الخارج، فيشغل الخليات الأخرى لإصدار الفكر الملائم. (5) القوى العقلية العليا
التفكير الداخلي المحض طبقة عليا من العقل، تستنبطه الخليات من تلقاء نفسها، بمجرد تحولاتها الذاتية الفسيولوجية، حسبما تعودت بفعل الطوارئ الداخلية كالتدريب والتهذيب، فضلا عن الشعور الحسي والنوابض النفسانية المحرضة. لهذه الطبقة العليا من التفكير الفلسفي والتفكير الفني أعمال عجيبة تضع العقل تاجا على رأس الحياة، كما أن الحياة تاج على رأس المادة «الكربونيترأوكسيهدروجينية».
فنظريات الفلاسفة والعلماء المستنتجة من ظاهرات الطبيعة هي حجار كريمة في ذلك التاج، وكذلك الفنون الجميلة البارزة في الشعر والرسوم ونحوها هي جواهر أخرى فيه، حتى جميع ظاهرات التمدن في سائر أدواره هي جواهر أخرى فيه أيضا؛ فما أعظم العقل؛ العقل الذي ألبس سطح الكرة الأرضية حلة بهية مزركشة من معالم المدنية، تذهل العقل الفردي بجمالها وأساليبها التي لا تحصى، حلة بديعة جعلت هذا السيار الأرضي يفتخر على جميع سيارات الشمس، بل يفاخر جميع أجرام السماء بجمال له وليس لهن. (6) هل للعقل ذاتية قائمة بنفسها؟ «العقل وظيفة من وظائف الدماغ»
ليس الغرض في هذا الفصل البحث السيكولوجي، وإنما الغرض الأساسي تبيان أن هذا العقل السامي المتوج للحياة هو نتيجة ألفة كيماوية تتلاعب بعناصر أربعة في الدماغ تلاعبا متنوعا لا حد له، وإذا لم يكن العقل حركة «خليية» بفعل الألفة الكيماوية فماذا يكون؟
إذا كان العقل ذاتا مستقلة عن المادة، ولكنه حال فيها يستخدمها للاتصال بالطبيعة عن طريق الحس العصبي، وجب أن يبقى بذاتيته فيما لو عجزت المادة الدماغية عن خدمته لسبب من الأسباب، يجب أن يبقى له على الأقل تفكيره وتعقله وتذكره إلى غير ذلك، مما لا يحتاج فيه إلى خدمة المادة الدماغية؛ فلماذا تتعطل خواصه هذه بتاتا وتقف قواه عن العمل في حالة النوم العميق مثلا أو في حالة التخدير؟
قد تقول: إنها لا تتعطل بل تبقى عاملة عملها، بدليل حدوث الأحلام في المنام، فإذا كان النوم عميقا فلا يتذكر المرء أحلامه متى صحا ... ولكن ما قولك فيما إذا تخدر الدماغ بمخدر فلا يبقى إحساس ولا تفكير، فأين يكون العقل حينئذ؟ ولماذا ينقطع عن التفكير بتاتا؟
في حالة السكر والجنون المطبق يكون الكلام خاليا من الوزن والتعقل والمنطق - يكون هذيانا، فإذا لم يكن العقل حركة فكرية صادرة من تحولات خليية، فلماذا يختل بفعل الخمر وأمراض الدماغ الجنونية إذا كان مستقلا عن المادة الدماغية؟
يقودنا الموضوع إلى مسألة الروح باعتبار أنها وعاء العقل - إذا صح قول المعتقدين بها - وأنها ذات مستقلة عن المادة تنفصل عنها عند الموت، فأين تكون الروح في حالة الغيبوبة، أو في حالة السكر والعربدة؟ وكيف تعود إلى مقامها في الدماغ متى انقضت الغيبوبة؟ ولماذا لا تتذكر أفعالها في حالة العربدة؟
هل يمكن تفسير الأقوال والأفعال في حالة السكر إلا أن التحولات الخليية أصبحت فوضوية غير نظامية، فأصبحت الحركات الفكرية التي تنتجها فوضوية غير نظامية أيضا، لا تستطيع أن تعلل التفكير على اختلاف صنوفه نظاميا أو غير نظامي إلا بأنه حركة ناتجة عن التحولات الخليية؟
يذهب الروحيون أو بعضهم إلى أن الروح هي جسم غير هيولي، هي جسم أيثري؛ أي: إنه مؤلف من ذرات الإيثر على مثال الجسد الهيولاني، حتى متى انحل هذا بقي ذاك والعقل حال في ذاك، فهو تعليل جميل، ولكن لا برهان عليه إلا ما يزعمونه من مخاطبة الأرواح بعد الموت، وهو زعم لم يثبته اختبار صادق أمين خال من مجرد دعوى ذويه، وأوهامهم التي ما وقعت تحت امتحان خصومهم إلا ظهر بطلانها.
مما يؤيدون به دعواهم هو مسألة توارد الخواطر أي
Telebathy ، ولكن التوارد هذا يعلل بالاتصال الأيثري بين مراكز الأدمغة المتباعدة بواسطة الأمواج الكهرطيسية على نحو طريقة الراديو، فهو أمر معقول جدا، فإذا ثبت كان حدوثه ممكنا بين الأحياء لا بين الأحياء وأرواح الموتى؛ لأن ثبوته هكذا يستلزم إثبات وجود الروح المستقلة عن المادة أولا.
إذا صح أن العقل هو نتيجة حركات الخليات الدماغية فقوانين التجمع والتفرع والدورية فيه هي نفسها التي بسطناها في الحياة؛ تجمع خليات خاصة في الجهاز العصبي وتفرعها إلى خليات متنوعة بحسب تنوع وظائفها؛ ذلك لأن العقل حركة خليات كما تبسطنا به.
الفصل التاسع
العقل الاجتماعي
(1) هو تموج كهرطيسي
رأينا فيما تقدم ثلاثة عوالم في الكون:
الأول:
عالم المادة المؤلفة من الفوتون - أو فوتون الأيثر - والشاغلة حيز الكون وزمانه.
والثاني:
عالم الحياة الشاغل ما بين سطح الأرض والجلد - الهواء.
والثالث:
عالم العقل الذي هو حركة خصوصية من حركات الحياة.
والآن نرى عالما أعلى، هو عالم العقل الاجتماعي.
إذا كان العقل تاج الحياة، فالعقل الاجتماعي هو قمة هذا التاج.
كما أن العقل الفردي هو نتيجة تركب الحركات الحادثة في ملايين خليات الجهاز العصبي المتوافقة في اتجاه واحد لغاية واحدة، هكذا العقل الاجتماعي هو تركب الحركات الحادثة في ملايين الأفراد المتوافقين في اتجاه واحد لغاية واحدة.
ليس المقام مقام بحث في أنظمة الاجتماع البشري، ولكن دارس علم الاجتماع - والمطلع على مجلدي «علم الاجتماع» اللذين أصدرناهما بهذا العلم منذ بضع سنين - يفهم أن المراد بالعقل الاجتماعي هو اشتراك الجمهور في عقيدة دينية أو رأي سياسي أو في زي واحد أو تقليد واحد، بحيث يسددون جميعا أفعالهم إليه، وهذا يستلزم أن تكون عقيدتهم الفردية قد صيغت في قالب واحد تقريبا، كأنهم يفتكرون فكرا واحدا، ويشتهون غاية واحدة، ويتعاونون في الحصول عليها، لذلك ترى أنه إذا صدرت فكرة من مركز واحد رئيسي كحكومة أو سلطة دينية أو جمعية أو حزب، أو شبه رئيس كزعيم أو عالم أو ذي فن أو مخترع أو نابغة مبتكر؛ إذا صدرت من أي مركز كهذه المراكز حركة نظام أو رأي أو بدعة أو فن جديد؛ انتشرت حركة هذه الموجة على جميع العقول الفردية، وهزتها كلها هزة واحدة، وطبعت فيها الفكرة نسخا متعددة كما تطبع عبارتها على الورق، فكأن الفكرة فكرة عقل جماعة.
يستفاد مما تقدم أن العقل الاجتماعي هو مجموعة عقول فردية مصوغة صياغة واحدة في بيئة واحدة، تتحرك معا في اتجاه واحد كما تتحرك ملايين ذرات المادة معا في جرم واحد حول مركز واحد بسرعة واحدة؛ لارتباط جاذبي فيما بينها وبين المركز؛ فالفكرة أو الرأي الاجتماعي هو المركز الذي تحوم من حوله عقول الجماعة بقوة جاذبية ذلك الرأي لها، وانتشار الفكرة الصادرة من مركز عبقرية أو زعامة إلى الأفراد هو كانتشار الموجة في الجو الجاذبي إلى جميع الجهات، بحيث يصدم كل عقل يصيبه فيحركه ليدور حول الفكرة نفسها.
ليس هذا التشابه بين تجاذب الذرات نحو المركز وبين تجاذب العقول نحو الفكرة تشابها مجازيا، بل هو حقيقي لأن القوة الجاذبة واحدة في النوعين، بالرغم من التباين العظيم في الشكل.
رأينا الحركة الفكرية في الدماغ الواحد تموجا في جميع الخليات؛ لأن الجو الكهرطيسي الذي تسبح فيه ذرات الخليات يتموج بفعل ذرات المركز الدماغي، فيحرك ذرات الخليات جميعا وينتج فيها حركة واحدة، وتأينا
Ionisation
واحدا وتحولا
Anabolism
واحدا، وهذه الحركة هي التفكير العقلي.
كذلك نرى خليات الدماغ الواحد في المركز الاجتماعي - الزعيم أو العبقري - حين تنتج فكرة أو رأيا تحدث في جوها الكهرطيسي أمواجا تسير في أسلاك الجهاز العصبي وتصدر إلى الخارج في شكلين:
الأول:
صور اللفظ الكلامي الذي تنتقل أمواجه الهوائية إلى الآذان، فالأدمغة، وتحدث نفس الفكرة فيها.
والثاني:
في شكل حركات عضلية كالإشارات الكتابية ونحوها، وهذه تصدر أو تعكس أمواجا نورانية تنتقل إلى العيون فالأدمغة، وتحدث فيها الحركات الخليية التي تصدر نفس الفكرة؛ تلك عن طريق العين، وهذه عن طريق الأذن.
فنرى أن التموج الكهرطيسي هو الوسيط الموجي الذي تنتقل فيه أمواج الفكرة من دماغ إلى أدمغة عديدة؛ إذن الحركة الفكرية تنتشر في جو كهرطيسي كانتقال النور والحرارة ... إلخ، سواء في الدماغ الواحد أو في جماعة أدمغة. (2) العقل مركز التموج
الفكر إذن صورة من صور القوة - الطاقة، وقوته تمتاز بكونها قوة تنظيمية، أو قوة سيطرة تسيطر على قوى المادة، بمعنى أنها إذا تسددت إلى قوة مادية طوعت حركتها طبقا لها؛ فالفكرة الصادرة من مركز زعامة أو مركز ابتكار نبوغ إذا انتشرت أوعزت إلى عقليات أخرى أن تتحرك بفكرات مماثلة لها؛ فقوة هذه الفكرة المركزية لم تتوزع على العقليات العديدة، وإنما هي أثارت قوى العقليات العديدة لكي تحذو حذوها؛ فالفكرة التي نشأت في هذه العقليات العديدة طبقا للفكرة المركزية كانت تحركا بقوة العقليات نفسها، بإيعاز الفكرة المركزية؛ فالفكرة المركزية هي «كالزنبلك» الذي يحركه الميكانيكي بقوة ضعيفة، فيطلق العنان للآلة الميكانيكية أن تدور بالقوة المودعة فيها، لا بقوة الزنبلك. ما كانت حركة الزنبلك إلا إيذانا لها بالدوران.
بهذه القوة الفكرية الممتازة يقود الزعيم القوم والقائد للجيش، وكلاهما يحمسان الجماعة لفعل الأفعال العظيمة، وما كانت قوته الفكرية إلا إيعازا لقوى الجماعة أن تفعل الفعل الموعز به.
ثم إن هذه القوة الفكرية تمتاز بكونها تخزن ولا تضمحل، ففيما نحن نقرأ مثلا تعاليم موسى أو عيسى أو محمد تنشط في أدمغتنا التفكيرات بمبادئ هؤلاء الأنبياء والرسل وننشط نحن للتحدث بها، أو الكرازة وللعمل بموجبها، وفيما نحن نشاهد آثار الأقدمين التي هي مخزونات فكراتهم ينشط فينا التفكير بها، وقد نضع مثلها ولو بتعديل وتنقيح، وفيما نحن نقرأ تاريخ نيرون تنشط فينا أفكار الحنق عليه. ففكرة الأنبياء والرسل وفكرات الأقدمين الأثريين وفكرة نيرون؛ كانت قوة مخزونة كلما عرضت لنا أثارت فينا فكرات تقتضيها.
فإذا كانت ثمت أرواح خالدة فهي هذه الفكرات المخزونة الخالدة في الكتب والرسوم والآثار التي تثير فينا فكرات مضارعة لها أمس واليوم وغدا إلى ما شاء الله أن تبقى الحياة على الأرض تنتج عقولا. (3) رد فعل العقل على الحياة والمادة
فهمنا أن العقل - فرديا أو اجتماعيا - هو نتيجة تفاعل الذرات الأربع في خليات الدماغ - التفاعل الكيماوي المتواصل السريع بلا انقطاع - فما انقطع في شخصية حي إلا بعد أن تناولته أحياء بعده. بقي أن نعلم أن للعقل تأثيرا على المادة الحية أو التي بلا حياة - وهو رد فعل عظيم - هو تأثير الحي في البيئة، فلا يقتصر هذا التأثير على فعل العقل السامي - عقل الإنسان - بل يعم سلسلة العقول من أدناها إلى أعلاها، ولكن أضعفه في الدنيا منها وأقواه في العليا.
الجيولوجي ينبئنا عن التغييرات التي حدثت على سطح الأرض، حدثت بفعل الحياة الدنيا؛ فالمرجان أنشأ جزرا في البحار، والغابات تستمطر السماء حيث لم يكن مطر من قبل، وأمطارها جرت أنهارا وسيولا جرفت الأتربة من الأعالي إلى الأسافل. تكفي هذه الإشارة المختصرة إلى تطوير الحياة للبيئة كرد فعل لتطوير البيئة للحياة.
وإذا صعدنا إلى العقل البشري وجدنا تأثيره في المادة عجابا؛ العقل سيطر على كثير من نواميس الطبيعة فطوعها واعتقلها واستخدمها؛ سيطر على تيارات الكهارب واستولد منها نورا وقوة ميكانيكية، كما سيطر على حرارة البخار فاستولد بواسطتها هذه القوة، فضلا عن التيار الكهيربائي.
لا متسع لوصف ما فعله العقل البشري من التطورات المادية على سطح الأرض، كيفما التفت وفكرت وجدت نماذج هذه الأفعال العجيبة التي أنتجتها القوى العقلية، وإذا اطلعت على ما اكتشفه العقل من أسرار الطبيعة، وعلل ظاهراتها في الأرض والسماء وتحت الأرض وما وراء السماء؛ دهشت لمقدرة هذا العقل.
والفلسفة هي عقل أسمى، هي عقل العقل. (4) أنظمة التجمع والتفرع والدوران العقلية
فيما تقدم من البحث فهم القارئ أن العقل خاضع لسنة التجمع والتفرع وسنة الدوران أيضا؛ فالعقل الفردي هو تجمع حركات ملايين الخليات الدماغية في أسلوب واحد منتج فكرة واحدة قائمة بذاتها، والعقل الاجتماعي هو تجمع حركات عقليات الأفراد في أسلوب واحد منتج رأيا أو عقيدة واحدة.
وفيما الفكرة الواحدة تنتشر تتفرع إلى فكرات مختلفة فيما بينها بعض الاختلاف كثيرا أو قليلا، ومن ذلك نشأ الاختلاف في التصورات والأفكار والآراء حتى في صيغ القول، فمع أن الجماعة تتجمع على نظرية واحدة أو عقيدة واحدة، تراها في ذهن كل واحد منهم ذات شكل خاص يختلف شيئا عن الشكل الذي في ذهن الآخر، وقد تتباين في بعض الأذهان تباينا كليا بحيث إن النظرية الواحدة تنفلق إلى نظريتين أو بضع نظريات فرعية، كعقيدة الاشتراكية مثلا؛ فهي عدة نظريات مفترقة بعضها عن بعض بحسب ميول الفئات أو الأشخاص البارزين، وكذلك الأمر في العقائد السياسية كالديمقراطية مثلا؛ فهي فروع مختلفة باختلاف الهيئات الحكومية وعقائد المتفلسفين فيها.
فترى أن التفرع الفكري مصاحب للمجتمع العقلي على الدوام، تجمع العقول على فكرة عامة وتتباين في وجوه هذه الفكرة.
أما التنظيم الدوراني العقلي فهو ظاهرة انتشار الفكرات؛ فكل فكرة صادرة من مركز ابتكاري هي مركز حركة الانتشار، الفكرة تنتشر من المركز إلى عقول الجماعة، فكأن العقول في تأثرها منها تدور حول هذا المركز؛ فكأنها نظام شمسي قائم بذاته.
ولأن العقل نتيجة تركب معقد؛ تركب حركات خليات دماغية، هي نتيجة تركب جزيئات عديدة متنوعة، وكل جزيء هو مركب ذرات عديدة؛ فمراكز الفكرات عديدة لا تكاد تحصى، والدورانات عديدة بتعدد المراكز، يقاطع بعضها بعضا ويصادم بعضها بعضا. فالعالم العقلي هو بحر متعدد أشكال الأمواج تعددا لا يحصى، بحيث يتعذر عليك أن تتبع دورة حركة فكرية وأن تهتدي إلى مركزها. •••
رأينا أننا كلما صعدنا درجة في سلم ارتقاء العوالم الكونية رأينا التنظيم أكثر تركبا وتعقدا، وأشكال الأنظمة أكثر تعددا؛ ففي العالم المادي لا نرى إلا ست درجات أنظمة «تجمعية - تفرعية»، ذات ست دورانات بسيطة متداخلة، يمكنك أن تميزها بعضها عن بعض وتظفر بمركز كل منها. وفي العالم الحيوي نرى ثلاثة أنظمة متداخلة متمايزة: نظام كل من الذرات الأربع، ثم نظام جزيئاتها، وهذا متفرع إلى ألوف الفروع البروتايينية والكربوهيدراتية والدهنية؛ ثم نظام البروتوبلاسم، وهذا متفرع إلى ألوف الفروع بمقتضى وظائف الأنسجة المؤلفة منها، ولكل من هذه الأنظمة دورانه الخاص الممتاز به.
حتى إذا جئنا إلى النظام العقلي ولا سيما العقلي الاجتماعي لا نعود نظفر بنظام مستقل؛ لأن النظام العقلي يبتدع كل هنيهة نظاما فرعيا جديدا، كل فكرة هي نظام فرعي قائم بنفسه، وبالتالي نستطيع أن نميز دورانا عن آخر. (5) نظام الأدبية
قلنا : إن العقل الاجتماعي هو قمة تاج الأنظمة الكونية. فهل ثمت نظام آخر فوقه أرقى منه؟
نعم هو نظام الأدبية؛ «أدب النفس»، الأخلاق. هذا النظام ترصيع لتاج العقلية، هو التنظيم الأعلى الذي يعصم النظامين العقلي والحيوي من الفوضى ويقيهما من الفساد، هو الذي يجعل التنظيم مطردا ومتجها إلى المثل الأعلى.
الأدبية تنظيم لتصرف الحي أو سلوكه بحيث يجعل هذا التصرف الحي متقيا الأخطار المهددة لكيانه، ومنتفعا من البيئة: طبيعية واجتماعية؛ حرصا على بقائه. يجعله مطاوعا للبيئة القاسية العتية التي لا تطاوعه، ومكيفا البيئة اللينة التي تطاوعه تكييفا يقدره على أن يدرأ الشر وينتفع بالخير. الأدبية إذن هي التعقل الأسمى، الفضيلة، هي تاج العقل الاجتماعي.
نشأت هذه الأدبية مع الحياة كنشوء العقلية معها منذ أبسط أدوارها؛ أي: منذ نشوء الخلية المفردة، وترقت معها حتى بلغت إلى درجة الإنسانية؛ فهي بسيطة مع الحي البسيط، ومركبة معقدة مع الحي الأعلى المركب المعقد.
الأدبية إذن عالم خامس من عوالم الكون: المادة، الحياة، العقل الفردي، العقل الاجتماعي، الأدبية. (6) فماذا بعد هذه؟
هل يقف التطور الكوني عند هذا الحد؟
لا نظن. بل نعتقد أن التطور مطرد مستمر، لا ندري ماذا يأتي بعد الأدبية من الأنظمة الكونية الرئيسية، ولكننا ننتظر أن يكون في قلب الطبيعة حلقات جديدة من سلسلة الأنظمة، نجهل شكلها وأسلوب حركتها وغايتها، ستبرزها الطبيعة في لوحة المستقبل.
نعتقد ذلك لأننا رأينا أن العقل ما رسا على سطح المادة فقط، بل جعل يبني طبقات فوقها؛ ففي الأحياء الدنيا كانت الغريزة البسيطة كافية للحرص على البقاء، هي ضرب من الفهم، هي فهم داخلي فقط متفاعل مع عوارض البيئة، نقول: إنها فهم داخلي؛ لأنه كان يكيف خليات أعضاء الحي بحسب ما تقتضيه البيئة، ثم ارتقى في الأحياء العليا فصار فهما خارجيا أيضا مضافا إلى الغريزة، صار من جهة يكيف الحي بمقتضى البيئة، ومن جهة أخرى يكيف البيئة ما استطاع لكي تطاوع الحي. في الدرجة الأولى الحي الأدنى آلته أعضاؤه فقط، وفي الدرجة الثانية الحي الأعلى لم يكتف بأعضائه آلة له، بل استنبط آلات خارجة عنه كالعدد الميكانيكية وغيرها يستخدمها في الحرص على بقائه، وقد نجح في استنباط الآلات الخارجية حتى كاد يستغني عن استخدام بعض آلاته العضوية، وقد بطل عمل بعضها بهذا الاستغناء، فلا يدب على الأربع ولا يستعمل أخمص قدمه كفا للقبض ككف يده كبعض أشباه الإنسان، ولا يجتر، ولم يعد يستطيع الركض السريع، ولم تبق له مخالب ... إلخ؛ لأن آلته أغنته عن كل هذه.
ثم ارتقى الفهم في الأحياء العليا أيضا درجة أخرى، إذ صار يدرك أن له إدراكا، وصار يفهم الفهم، وصار يعلل ويفسر ويتفلسف؛ أي: صار له عالم عقلي قائم بذاته مجرد عن المادة؛ فكثير من غرائزه تحولت إلى تعقل مستند إلى الاختبار وإلى استدلال واستنتاج من مجرد التفكير بتحليل الظاهرات.
هنا نشأت درجة التجريد
Abstraetion ، والرياضيات أعظم وأظهر نموذج للتجريد هذا، فما أدرانا أن ينشأ من هذا التجريد الذي هو أعلى ظاهرات العقل عالم آخر ليس لنا الآن أقل تصور عنه؟ ما أدرانا أن يصبح الفهم العادي في المستقبل البعيد كغريزة في الإنسان، فيولد الطفل فاهما أمورا كثيرة كما يولد الآن وهو يفهم أن غذاءه في ثدي أمه فيرضعه بلا تعلم؟ ما أدرانا أنه في المستقبل البعيد يولد وهو يفهم مبادئ الرياضيات والطبيعيات كأن هذا الفهم شيء طبيعي في خليات دماغه سجية من سجاياها؟ وما أدرانا أن شعوره الداخلي يرتقي إلى حد أن يفهم معنى الجاذبية بلا إرشاد ولا تعلم؟ وما أدرانا أنه في ذلك الزمان يفهم النسبية بالبديهة كما يفهم الآن أن القيمتين اللتين كل منهما تساوي قيمة ثالثة هما متساويتان؟
وما أدرانا أن يقوى التيار الكهربائي في أعصابه فيفهم التموج الكهرطيسي فهما طبيعيا، وحينذاك لا يبعد أن يصبح التفاهم عن بعد بلا واسطة ظاهرة - على نمط الراديو - شيئا طبيعيا في الناس؛ إذ تصبح أدمغتهم شديدة الإحساس بالأمواج الكهرطيسية الصادرة من أدمغتهم، وحينئذ يبزغ عالم سادس من عوالم الكون لا نعرف الآن كيف نصفه؟
ما أدرانا أن الجهاز العصبي يقوى جدا في الإنسان إلى حد أن يتحول الإنسان كله إلى كتلة أعصاب تكون مقاما لهذا العالم السادس الذي نتكهن بحدوثه، ولا ندري الآن كيف تكون ظاهراته؟
كل هذا ممكن كما أمكن صدور العقل العجيب من خليات الدماغ؛ فليس لسنة التطور الحيوي حد تقف عنده على نحو ما رأينا في درجاته الآنفة الذكر.
إن ما مر من عمر الحياة إلى الآن - أي: منذ صارت الأرض صالحة لها - ليس إلا دور الحداثة، وإن ما بقي من عمرها - أي: إلى حين لا تعود الأرض صالحة لها - عدة أضعاف دور الحداثة، فإذا كانت الحياة في دور حداثتها قد أنتجت عقلا فلسفيا واجتماعيا وأدبية وفنا أيضا، فهل يمكن أن يتوقف تطورها ويستقر على حاله الحاضرة في ما بقي من عمرها الطويل؟ ولماذا؟ وإذا كان لا بد من استمرار التطور بصورة لا ندري ماذا تكون، أفلا يسير هذا التطور بحسب سنة التسارع؛ أي: إنه يكون أعجل فأعجل في المستقبل؟ وإذا صدقت هذه النظريات فكم من العوالم ستتلو عوالم العقل والاجتماع والأدبية في الدهر الداهر؟ طوبى لمن يعيشون في دور كهولة الحياة!
الفصل العاشر
الشخصية
في «تفصيل النظام العام» في أول الكتاب ذكرنا ثلاثة تفصيلات: (1)
عملية التنظيم العام. (2)
حاصل هذا التنظيم؛ أي: أطوار الأنظمة. (3)
الشخصية.
انتهينا من الأولين، ولم نتعرض فيهما بتاتا للثالث، وهو من الوجهة الفلسفية من الأهمية بمكان، وقد أصبح بعد شرح التفصيلين السابقين سهلا تبيانه بإيجاز وبوضوح. (1) الشخصية المادية
لكل تجمع شخصية خاصة به تميزه عن الأجزاء التي تألف منها وعن كل تجمع آخر يختلف عن الأجزاء التي تألف منها كثيرا أو قليلا، بقدر ما بين أجزائه من قوة الارتباط وما فيه من عدد الوحدات.
فحيث تكون قوة الارتباط هي الجاذبية العامة، فلا يكون الاختلاف بين الكل وأجزائه إلا في الأعراض الظاهرة كالشكل الهندسي، والحجم، والوزن، ونحو ذلك. مثلا: البيت لا يختلف عن الحجارة التي بني منها إلا بهندسته وحجمه وزخرفه. وبلورة أي ملح من الأملاح لا تختلف عن الجزيئات التي تألفت منها إلا بشكلها الهندسي المتشاكل
Syhmetrical ، والبحر لا يختلف عن جزيئات الماء إلا بكونه خضما عظيما ذا تموج، ولا فرق بين أن يكون بحرا أو أوقيانوسا أو بحيرة.
ولكن إذا كان الرابط بين أجزاء التجمع شحنات كهربائية كان الاختلاف بين الكل وأجزائه أعظم مما ذكرنا، وصار للعدد حينئذ شأن في الشخصية أيضا.
فالذرة تختلف عن كل من البروتون والإلكترون - الكهرب والكهيرب - بكونها متعادلة الشحنة الكهربائية في حين أن البروتون إيجابي والإلكترون سلبي.
ثم إن لعدد الأجزاء شأنا عظيما في الشخصية، فكل من ذرة الهيدروجين وذرة الهيليوم ذات شحنة كهربائية متعادلة، ولكن الأولى تشتمل على بروتون واحد وإلكترون واحد فقط، والثانية تشتمل على 4 من كل من البروتون والكيهرب، فطبيعتهما تختلف كل الاختلاف؛ الأول: قابل الالتهاب - أي يتأكسد. يحترق - والآخر: لا يقبله - لا يتأكسد.
واختلاف الذرات في عدد ما في كل منها من البروتونات والإلكترونات والنيوترونات هو سبب اختلافها في الطباع والخواص، فما في الذرة من عدد البروتونات والإلكترونات والنيوترونات، وما يستلزمه من كمية الشحنات هو الذي يعين لها شخصيتها التي تعرف بها، وهو الذي يجعل طبيعتها تتميز عن طبيعة غيرها.
وإذا انتقلنا إلى التجمعات التي يكون الارتباط فيها «إلفة كيماوية» وجدنا الاختلاف بين الكل وأجزائه أعظم مما ذكرنا آنفا؛ جزيء الماء يختلف اختلافا كليا عن كل من ذرتي الهيدروجين والأوكسجين اللتين يتألف منهما؛ يختلف في طبيعته أيما اختلاف: هو سائل وهما غازان، ناهيك عن طباع أخرى يباينهما فيها. وما من مركب كيماوي من أملاح وعضويات يظهر فيها الجزيء شيئا من طباع الذرات التي تألف منها؛ فشخصية أي جزيء بعيدة كل البعد عن شخصية أي ذرة من ذراته، شخصية السكر مثلا تختلف عن شخصية كل من الكربون والهيدروجين والأوكسجين. (2) الشخصية الحيوية
نتقدم إلى الخليات الحيوية التي يشترك فيها الرابط الحيوي «للمبدأ الحيوي المجهول» مع الرابط الكيماوي في إدماج الجزيئات المختلفة في جسم خلية، فنجد أن الشخصية الحيوية لا تقل تأثيرا عن الشخصية الكيماوية، فحين تطلع على ظاهرات الخلية من الوجهة الهيستولوجية - أي: تكونها الطبيعي - لا يتمثل لك دهنها وزلالها ونشوياتها، وإنما تتمثل لك نواتها وقناتها المحتوية على سائلها - بلاسما - وغلافها وتيار سائلها ... إلخ، ولا تبدو لك طبيعة الخليات التي تتألف الخلية منها إلا في التحليل المعملي الذي تنحل فيه إلى جزيئاتها.
فالخلية بعيدة في السجية والطبع عن الجزيئات التي تتألف منها، مع أن شخصية كل خلية تتوقف على أنواع الجزيئات التي تتألف منها، وعلى عدد ما فيها من كل نوع؛ هذا ما يميز بين خلية عضل وخلية عصب وخلية كبد وخلية جلد ... إلخ. (3) الشخصية العقلية
ثم نتقدم إلى العقل؛ العقل كما تقدم القول هو حركة جماعة خليات ناتجة عن سلسلة عمليات كيماوية متتابعة في كل خلية، ولكل قوة من القوى العقلية مركز خاص لها في الجهاز العصبي والدماغ على الأخص؛ فشخصيتها تتوقف على شخصية ذلك المركز المؤلف من خليات عديدة متنوعة، ومهيأة لكي تحدث تلك الحركة العقلية الخاصة.
فمجموعة حركات الخليات المتنوعة هي التي تكون شخصية تلك العقلية، كالتصور مثلا أو التذكر أو الاستدلال ... إلخ. وليس بين تلك القوة وخليات المركز من تشابه البتة لا في الطبيعة ولا في الشكل. فالشخصية العقلية قائمة في تآلف حركات الخليات الكيماوية. •••
إذا تقدمنا إلى المجتمع الإنسان الذي يتألف عقله الاجتماعي من عقليات الأفراد نجد اختلافا بين عقل الجماعة وعقل الفرد، ولكنه ليس الاختلاف العظيم الذي نجده بين الجزيء وذراته، أو بين الخلية وجزيئاتها، بل هو أضعف؛ لضعف الرابطة بين عقليات الأفراد، وهي الرابطة «الأدبية».
لذلك لا نجد الفرد يفنى فناء تاما في الجماعة كما تفنى الذرة في الجزيء، قد يشتد هذا الرباط الاجتماعي في المستقبل ويصبح المجتمع أشد توثقا، فتبرز شخصيته بروزا أتم، حينئذ يفنى الفرد في الجماعة كما يفنى الجندي في الفيلق، ويفقد كثيرا من حريته وإرادته.
ترى مما تقدم أن الجاذبية التي هي ينبوع كل قوة وعلة كل حركة في الوجود قد صاغت من أعداد الوحدات المختلفة شخصيات مختلفة متمايزة، من ذريرات وجزيئات وخليات وعقليات وغرائز ... إلخ، فجعلت الكون قطعة فنية بديعة عجيبة.
الباب الرابع
قضايا فلسفية
تنظر الآن إلى الكون الأعظم ككل بقطع النظر عن أجزائه
الفصل الحادي عشر
العلل والمعلولات
(1) هل لحلقات هذا الكون التي شرحناها سلك واحد تنتظم فيه من أدناها - البحر الفوتوني - إلى أعلاها - العقل الاجتماعي وأدبيته؟
لا نرى هذه الحلقات تشترك بشيء سوى قوة الجاذبية، هذه القوة عاملة في كل حلقة من الحلقات الست التي أجملناها آنفا، وفيما سوى ذلك فكل درجة من درجات التطور الكوني عالم مستقل بظاهراته وتنظيمه مع تشابه النظم في مجملها.
فالأجرام تجمع بلا تركب، والجزيئات تجمع وتركب، بحيث إن المركب يختلف في ظاهراته عن الأجزاء التي تركب منها، وتركبها يكاد يكون ثابتا أو قليل التغير.
وفي الحياة تجمع وتركب متعدد معقد دائم التحول والتنوع، وتحرك ملازم للتركب والتحول.
وفي العقل تجمع وتركب وتحول، وتحرك خليات سريع.
وفي الجميع يمكنك أن تتقصى الجاذبية. (2) ما هو كائن فلا بد أن يكون
هل التطورات الطارئة في هذه العوالم ناتجة حتما؟ أو كان ممكنا أن ينتج الكون المادي غير هذه العوالم التي نتجت منه؟
إذا كانت طبيعة الكون المادي تستلزم حتما نشوء تلك العوالم التي شرحناها كانت هذه العوالم مضمرة في كل فوتون من فوتونات المادة؛ أي: إن طبيعة الفوتون نزوعة للنشوءات التي نشأت منه. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن تكون أجزاء الكون متماثلة تمام التماثل في كل مكان وزمان، ووجب أن تكون الحياة وتاجها العقل في كل جرم من الأجرام؛ وبالتالي وجب أن تكون الأجرام متشابهة حجما وحرارة وتشععا ... إلخ، ولا تفاضل بينها ولا تفاوت ولا تباين؛ لأنها جميعا متجمعة من فوتونات ذوات طبيعة واحدة.
والواقع غير ذلك؛ فإننا نرى جماعات المادة مختلفة الأحجام والأعمار والكثافة ونشاط الحركة، نرى أن التجمع في كل جرم أو جسم ينشئ بيئة خاصة، تؤدي إلى ظاهرات خاصة، تختلف عن بعض ظاهرات جرم آخر خاصة به.
فإذن، ما نراه من اختلاف ظواهر أجزاء الكون ليس نتيجة نزعة عامة في الفوتون، بل هو نتيجة تجمعات الفوتونات على أنماط مختلفة غير مقصودة ولا مضمرة فيها، هي أعراض تلك التجمعات، وكل نمط يفضي إلى نوع أو أنواع من التطورات والظاهرات، وكل ظاهرة هي نتيجة لظاهرات عديدة سبقتها مجتمعة، لا لسبب متسلسل من سبب أول في الفوتون؛ لذلك كان محتملا أن يكون للكون المادي عوالم غير هذه العوالم، تختلف عن هذه ولو بعض الاختلاف، ولا ندري كيف تكون، فالكون إذن متطور بلا تقيد في تطوراته سوى تفاعل السوابق المباشرة له، فليس له مجرى خاص اختطته له طبيعة خاصة بحيث لا يستطيع أن يحيد عنه ... ولو كان له مجرى خاص لا ثاني له لأمكن للعقل البشري أن يرى هذا المجرى حاضرا ومستقبلا كما يراها، وماضيا بكل ضبط وبلا خطأ، ولكانت أساليب التطور بسيطة جدا لا تعتورها استثناءات واستدراكات عديدة مختلفة كما هي الحال.
إن مجرى التطور الكوني متعرج متفرع متنوع، وفروعه يعارض بعضها بعضا، وكلما تقدمت في الزمان تواتر تعارضها وتفرعها وتعرجها، الأمر الذي يجعل التطور تحت حكم المصادفات أكثر مما هو تحت حكم التنسيق المتسلسل؛ يجعل النتيجة الواحدة مسببة عن أسباب متعددة مجتمعة ومتقاطعة، لا عن سبب واحد يجعل المجرى ملتويا غير مطرد في خط مستقيم.
إن تفرع مجاري التطور وتنوعها وتعرضها وتقاطعها هي التي تجعل بعض الظاهرات متباينة متعاكسة، كدوران بعض أقمار السيارات عكس دوران الأقمار الأخرى في الاتجاه، وكنشوء جزيئات وذرات في نجوم وأجرام ليس لها وجود في أجرام أخرى، ونحو ذلك.
لو كان سبب التطورات الكونية سجية من سجايا الفوتون لاقتضى أن يكون لكل فوتون سجية خاصة به تختلف عن سجية غيره، والمعلوم أن الفوتونات متماثلة تمام التماثل، فليس سبب تلك التطورات إلا تعدد الفوتونات، وتجمعها في جماعات متعددة بفعل تجاذبها ودورانها، فالفرق بين جماعة وأخرى هو في عدد الفوتونات وكثافتها وسرعة دورانها - بسبب الجاذبية كما علمت. هذه هي أسباب اختلاف جماعاتها في الخواص، وهذا الاختلاف سبب الاختلاف في نتائج تفاعلها - تطوراتها. فالسر في اختلاف أشكال الجماعات وتطوراتها هو في العدد والكثافة والحركة في الحيز؛ هو عدد الفوتونات في جماعة، والحيز الذي تشغله الجماعة بكثافة خاصة بها ، وسرعة حركتها، فبين عدد الفوتونات وحيز كثافتها تلعب الجاذبية أدوارها المختلفة في التطور.
فما هو كائن لم يكن بد من كينونته. (3) سلاسل الأسباب والنتائج
هل النتائج والأسباب سلسلة متصلة بحيث إن لكل نتيجة معينة سببا خاصا لا ينتج غيرها، وهي لا تنتج عن غيره؛ وبالتالي يمكن التنبؤ عن النتائج من معرفة الأسباب؟
السببية طبيعة حتمية في جاذبية الذرات - فوتونات أو مجموعات فوتونات. التجاذب يجمع الذرات، والدوران يفرع تجمعاتها؛ فلذلك لا يمكن أن يحدث حادث إلا من جراء حادث آخر أفضى إليه، لا يمكن أن يحدث حادث من تلقاء نفسه، ولا يمكن أن ينتهي حادث بنفسه؛ لأن القوة لا تفنى، بل لا بد أن يفضي إلى حادث آخر.
فالحوادث سلاسل متصلة، ولما كانت الحركات المادية متعددة ومتنوعة كثيرا، ومتجاورة في الحيز يصادم بعضها بعضا؛ كانت كل حادثة نتيجة لعدة عوامل متصادمة أفضت إليها؛ فلا يمكن أن تعثر على حادثة نتجت من عامل واحد فقط.
لذلك لا نتيجة نتجت من سبب واحد، بل من عدة أسباب تضافرت على إنتاجها، ويندر أن تستطيع الإحاطة علما بجميع الأسباب التي أفضت إليها، بل يكاد يستحيل ذلك. وبقدر ما نعرف من الأسباب للنتيجة الواحدة يمكننا أن نحسن التنبؤ عنها، فالحكم الأرجح في التنبؤ عن النتيجة يتوقف على العدد الأوفر من الأسباب - أو العوامل - التي نعرفها، فإذا استطعنا أن نحيط علما بجميع الأسباب بلا استثناء ظفرنا بمعرفة النتيجة المطلقة. ولكن هذا أمر يكاد يكون مستحيلا؛ يمكن الفلكي أن يقدم لك جدولا عن مواعيد الكسوف الشمسي أو الخسوف القمري لبضع مئات أو ألوف من السنين لا إلى أبد الآبدين، وكلما تمادى في تعيين المواعيد البعيدة قل التطابق بين حدوث الكسوف وميعاده المحسوب. لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يحيط علما بجميع حركات الأفلاك العديدة المتفاوتة في دورياتها
Rithm ، وحاصل القول أنه لا نتيجة واحدة لسبب واحد فقط، وإنما هي نتيجة لمجموعة عوامل متعددة متعارضة غير متساوقة تمام التساوق.
يلزم عن هذا أن النتائج والأسباب ليست سلسلة واحدة متصلة مترامية ماضيا ومستقبلا، بل هي سلاسل لا تحصى متشابكة معقدة بحيث إنك لا تستطيع أن تسلسل حادثا إلى أن تصل راجعا إلى سببه الأول، ففيما أنت تسلسله لا تلبث أن ترى السلسلة متفرعة طردا وعكسا؛ أي: تراها متفرعة إلى أسباب من ناحية ومتفرعة إلى نتائج من ناحية أخرى فتتيه في شبكة الأسباب والنتائج.
لذلك لا يبقى عندك شك في أن النتيجة الواحدة بنت المصادفة التي اجتمعت عندها العوامل المتعددة المفضية إلى تلك النتيجة. فالصدفة التي نعنيها لا تنفي السببية، وإنما هي مآل تعدد عوامل السببية، ولأننا لا نعرف العوامل نقول: إنها صدفة. (4) سبب سلاسل السببية
إذا كانت الأسباب المتعددة سلاسل متفرعة، فلا بد أن تكون متفرعة من سلسلة واحدة، أو من أصل واحد، فما هو السبب الأصلي؟
سلاسل السببية - الأسباب والنتائج - متعددة تعددا لا يحصى ولا يحصر، ولكنك تستنتج بوضوح من غضون أبحاثنا الماضية أنها كلها ترجع إلى خاصتين رئيسيتين في أصل المادة - أي: الفوتون - وهما التجاذب والدوران؛ المادة = فوتونات متجاذبة دوارة، فيمكنك أن ترد كل حركة أو حادث في الكون فيما أنت متتبع راجعا إلى أي سلسلة من سلاسل العوامل التي تقدمته - ترده إلى هذه العلة الأصلية - التجاذب والدوران.
وقد لا ترتاح إلى الوقوف هنا بل تسائل: ما علة هذين: التجاذب والدوران؟ (5) العلة الأولى
ما هي العلة الأولى التي أحدثت التجاذب والدوران؟
أضف إلى هذين الأمرين المادة أيضا، وقل: ما هي العلة الأولى التي أبدعت المادة وأحدثت تجاذبها ودورانها؟ لأن إحداث التجاذب والدوران ليس أسهل من خلق المادة، فالذي يستطيع أن يحدث تجاذبها ودورانها يستطيع أن يخلقها أيضا، فالمادة إذن موجودة ولها هاتان السجيتان، فلا تسل.
في تعليل العلل والمعلولات، وتفسير الأسباب والنتائج، حتى في ظاهرات الطبيعة الثانوية؛ نبلغ أحيانا إلى نقطة أو نقط لا نجد عندها سببا حتميا لنتيجة حتمية، فنكاد نشعر أن للذرة هناك إرادة حرة؛ مثال ذلك: تنبثق من الشمس - وسائر الأجرام - فوتونات بسرعة النور يصيب أرضنا منها رشاش، ومن هذا الرشاش ما يصيب سطح بركة أو غدير . فبعض أمواج هذه الفوتونات تنعكس عن سطح الماء الهادئ وترتد إلى أعيننا؛ بدليل أننا نرى طيفنا في الماء ، ونرى سطح الماء نفسه، وبعضها يخترق الماء وينعكس عن قعر البركة أو قعر الغدير؛ بدليل أننا نرى الحصى في القعر. فالفوتونات متماثلة لا تباين بينها، والموجات كذلك، فما الذي جعل هذه الفوتونة - أو موجتها - أن ترتد عن سطح الماء إلى أعيننا، وتلك الفوتونة تخترق الماء وترتد عن القعر إلى أعيننا؟ ألست تشعر كأن لهذه إرادة حرة تختلف عن إرادة تلك، فأرادت غير ما أرادته تلك؟
لا بد أنه يتعذر عليك أن تتصور للفوتونة الواحدة إرادة حرة فتقول لا بد من سبب لتخالف الفوتونتين في المصير. وإنما نحن نجهل هذا السبب؛ إذن مهما برعنا في تعليل الظاهرات وردها إلى أسبابها، فلا بد أن نبلغ إلى نقطة يتعذر علينا عندها التعليل؛ فنقول: إن العلة الأولى مخبوءة وراء هذه النقطة، وبعضنا يسميها «الله».
ثم افرض أننا بمواظبتنا على البحث والاستقراء والامتحان اهتدينا إلى عاملين مختلفين سببا افتراق الفوتونتين في المصير: الواحدة انعكست عن سطح الماء، والأخرى عن قعر الغدير؛ فلا نلبث أن نشعر أن هناك سببا أقصى لذينك العاملين نجهله، فنضطر أن ننقل العلة المجهولة من وراء تلك النقطة التي اكتشفنا عندها العاملين إلى وراء نقطة اختلاف هذين العاملين؛ أي: موضع سبب اختلافهما.
بعد هذا التمثيل نعود إلى موضوع العلة الأولى التي نحن بصددها. أمكننا أن نرد أسباب ظاهرات الكون إلى عاملين رئيسيين: تجاذب ذرات المادة، ودورانها. وإلى اليوم لم نستطع أن نعلم سببهما، ولذلك نحن مضطرون أن ننقل عرش العلة الأولى إلى ما وراء هذين العاملين ونقول: إن العلة الأولى - القوة القصوى - هي التي أوجدت بحر الفوتونات من العدم بأسلوب لا نفهمه أو لا نستطيع تصوره؛ فجعلت كل فوتونة تدور على محورها، وجعلت الفوتونات تتجاذب متداورة حول مركز عام ... إلى ما هناك من تجمع وتفرع كما علمت.
أراك متململا، كأن نظرية «العلة الأولى» كما بسطناها لك غير مقنعة لعقلك، تكاد تقول من أوجد هذه العلة الأولى التي تستطيع المستحيل؛ أي: إيجاد شيء من لا شيء؟
صه، هل يمكنك أن تنتهي من الأسئلة ؟ إذا علمت أن علة عليا خلقت هذه العلة الأولى ألا تسأل: «ومن خلق هذه العلة العليا؟» - إلى ما لا نهاية له من الأسئلة؟
إذن أنت حر بين أمرين. فاختر أحدهما.
إما أن تفرض أن ما وراء الكون المادي علة أولى لا سابق لها أوجدت هذا الكون كما تراه وكما علمته، وتكم فم عقلك عن التساؤل المتسلسل اللامتناهي.
أو أن تستغني عن هذه العلة الأولى التي لا تحل المسألة وتقف عند هذه النقطة: إن الوجود = مادة متجاذبة دوارة موجودة - أو واجبة الوجود - ولا لزوم لموجد لها؛ لأنه إذا كان لا بد من وجود موجد لها وجب أيضا أن يكون لهذا الموجد موجد أيضا، ولا بد من موجد له ... إلى ما لا نهاية له من تسلسل الإيجاد، وإذا قلت إن هذا الموجد واجب الوجود ولا لزوم لموجد له، فلماذا تزيد سلسلة الوجود حلقة لا حاجة بك إليها؟ ولماذا لا تقول: إن المادة المتجاذبة الدوارة واجبة الوجود ولا لزوم لموجد لها؟
لا أفهم ما الداعي لفرض العدم ثم إيجاد المادة من العدم. لا أفهم لماذا نعقد المسألة بفرض العدم سابقا للوجود. لا أفهم لماذا استنبطنا فكرة العدم. ولا أدري ماذا نعني بالعدم. ومن يستطيع أن يفهمنا ما هو العدم؟ أليس طبيعيا وبديهيا أن نقول: إن الكون «موجود» بلا سبب، بل إن وجوده هو العلة الأولى لكل حدثان فيه، ولا معنى لفكرة العدم بتاتا، «الكون موجود» والسلام؟! (6) العقل الأول
لعلك تقول: إن هذه المادة المتجاذبة الدوارة غير عاقلة، ولكن تنظيم هذا الكون يدل على وجود عقل فوقه منظم له، فالعلة الأولى تمتاز على المادة بكونها عاقلة، ولذلك لا بد من افتراض وجودها علة لوجود المادة، وإحداث تجاذبها ودورانها.
أراك تجعل للعقل شأنا أعظم من شأنه الحقيقي في هذا الكون الأعظم.
لقد علمت أن العقل السامي - الإنساني - ليس إلا حاصلا من حاصلات كتلة خليات حيوية؛ هي الدماغ ، أعني أنه وليد أربعة عناصر من عناصر المادة الأرضية. فمهما تراءى لك شيئا عظيما فما هو إلا تفلة تفلتها الهيولي صدفة على هذا السيار الأرضي. فهل تريد أن تجعل هذه التفلة أنموذجا لعقل يدبر الكون برمته؟
فإذا كان للكون مدبر كما نود فلا نفرض له عقلا شبيها بعقل الإنسان الذي لم يكن إلا لمعة ضئيلة في الكون كلمعة الحباحب في الليل الدامس؛ فإذا شئت أن تسمي مدبر الأكوان قوة عاقلة فحذار أن تتوهمه ذا عقل من طبيعة عقلك، وإلا عجز عن إدارة هذه الأكوان مهما عزوت لعقله من السمو.
إن مدبر الأكوان قوة لا تدرك ولا توصف وتسميتها بالعقل - الذي يعد عقل الإنسان أنموذجا له - تحط من قيمتها.
هي قوة قصوى مجهولة، يستحيل على العقل البشري إدراكها أو وصفها؛ لأنه ليس إلا لمعة في بحر نورها، يتلاشى فيها، وإنما يحس العقل البشري بوجود مقرها وراء الجاذبية إذا لم تكن هي بعينها.
سبب توهم أن القوة المنظمة الكون ذات عقلية من طبيعة العقل البشري هو أننا نحسب التنظيم من مقتضيات العقل، فنعتقد العقل ينظم، وأن العقل يحكم بين النظام والفوضى، وهذا خطأ؛ العقل لم يوجد النظام، ولا هو الذي استنبطه، وإنما النظام استنبط العقل، فالعقل حين يدرك النظام يكون كالمرآة التي صنعها الإنسان ورأى خياله فيها، فالعقل مرآة النظام الطبيعي، والنظام خلق العقل مرآة له ليرى طيفه فيه.
في نهاية الفصل التالي تعلم سبب محدودية القدرة العقلية.
الفصل الثاني عشر
اللانهايات الثلاث
ذكرنا في أول الكتاب أن الوجود ذو ثلاثة عناصر: المادة والمكان والزمان. والآن نود أن نعرف هل هذه العناصر متناهية؛ أي: هل لكل منها قدر مقرر؟ أم هي غير متناهية، يعني لا بداية لها ولا نهاية؟ (1) لا نهائية المادة
علمنا أن أبسط أجزاء المادة وأصغرها هو الفوتون - الضويء - الذي يساوي 10 آلاف منه إلكترونا واحدا؛ أي: إن الإلكترون مؤلف من 10 آلاف فوتون وسينحل إليها - انظر صفحة 156 من كتاب تجينز
The New Back Ground of Science - وإلى الآن لم نكتشف إن كان الفوتون يتجزأ إلى جسيمات أصغر منه، فهو في نظر العلم الحديث «الجوهر الفرد» الذي لا أصغر منه ولا يقبل التجزئة.
ولكن لما كان أي جسم من أجسام المادة مهما كان صغيرا ذا ثلاثة أبعاد؛ أي: طول وعرض وسماكة؛ فلا بد أن يكون الفوتون هكذا ذا ثلاثة أبعاد؛ لأن الذرة مؤلفة من ملايين الفوتونات، والجزيء مؤلف من الذرات، والقلم الذي في يدي مؤلف من جزيئات، وهو ذو ثلاثة أبعاد، فلا بد أن تكون الأجزاء التي تألف منها ذات ثلاثة أبعاد أيضا، وإلا فكيف يمكن أن يتكون جسم ذو أبعاد من أجسام لا أبعاد لها؟
وبناء عليه يمكن أن يقطع الجسم من أحد أبعاده، ولو بالعقل إن لم يتيسر ذلك بالفعل، فيمكنا أن ننصف - بالعقل - الفوتون، ثم أن ننصف كلا من نصفيه، وهكذا دواليك إلى ما شاء الله، ما دام للفوتون قوام مادي ذو أبعاد.
إذن فالمادة قابلة التجزئة إلى ما لا نهاية، أو هي مؤلفة من جسيمات لا نهاية لها في الصغر، هذه هي اللانهاية الأولى. (2) اللانهاية المكانية
علمنا أن عالمنا الحالي تألف في الأصل من فوتونات ضويئات كانت تملأ حيزا عظيما في الفضاء، وعلمنا أن الذرات ثم السدم تجمعت من هذه الفوتونات بفعل خاصتين من خواصها، وهما التجاذب والتداور - الدوران. وهذا يستلزم أن هذه الجسيمات والأجسام تشغل حيزات محدودة، وبالتالي نفهم أن بينها رحابا مختلفة السعة والمدى.
فجميع الأجرام من كواكب وشموس وكوكبات ومجرات تتداور في الفضاء بعضها من حول بعض حسب سنة الجاذبية، وبحسب هذه السنة نفسها تتقارب الأجسام والأجرام، وبمقتضاها ينبغي أن تطبق بعضها على بعض، ولكن هناك عاملا آخر يصد هذا الإطباق؛ ففيما كانت ذريرات المادة تتجمع وتتكاثف، كانت كلما تلبدت في مكان تنطبق الكهيربات على الكهارب، فتتنافى كهربتاها الإيجابية والسلبية وتتفتتان إلى فوتونات لا شحنة كهربائية فيها، وتنطلق إشعاعا في الفضاء بشكل حرارة ونور كما هو معلوم - وقد شرحنا هذا في كتابنا «عالم الذرة».
وبهذا الإشعاع يصغر حجم الجرم فتضعف قوة جاذبيته لغيره، واستمرار عملية الإشعاع في كل الأجرام يضعف قوة الجاذبية العامة، فتقوى الدافعية
Centrifugal Force
أي قوة الابتعاد عن المركز، وهذا الابتعاد، يئول إلى تباعد الأجرام والمجرات بعضها عن بعض، وهذا هو الواقع المشاهد الآن في الأرصاد الفلكية كما أثبته الفلكي الكبير «هوبل» مدير مرصد جبل ويلسن.
فالمشاهد الآن أن الكرة الكونية العظمى - مجموعة المليوني مجرة - الشاملة جميع الأجرام والمجرات تتمدد وتتسع على نحو تمدد فقاعة رغوة الصابون إذا نفخت فيها؛ أعني أن الحيز الذي تشغله العوالم المادية الآن ينتفخ على حساب الفضاء الفارغ، فإذا استمر هذا الانتفاخ فإلى أي حد يبلغ؟ هل هناك حد يصده؟ وإن كان هناك حد فما وراء ذلك الحد؟ بعبارة أخرى هل للفضاء الحالي مدى محدود يشتمل الأجرام الشاردة فيه؟ وماذا وراء فسحة الفضاء؟ وهل لها وراء؟ وما وراء هذا الوراء؟ يمكننا أن نسأل هذا السؤال إلى الأبد ولا ننال جوابا؛ لأننا لا نقدر أن نتصور لهذا الفضاء بداية ولا نهاية مهما تطوح تخيلنا في استقصائه.
هذه هي اللانهاية الثانية الخاصة بالمكان - الحيز - الفضاء. (3) اللانهاية الزمانية
علمنا فيما تقدم أن العوالم المادية تكونت من تجمع الفوتونات التي هي ذريرات أيثرية كما يظن، ثم جعلت أجرامها تتقلص بفعل الجاذبية والدوران، وهذا التقلص أفضى إلى انضغاط ذريراتها، وانطباق إلكتروناتها على بروتوناتها، وتفتتها إلى فوتونات تنطلق في الفضاء تشععا. وفي الوقت نفسه كانت الرحاب بين السدم والأجرام تتسع، فتضعف الجاذبية بينها وبالتالي تتباعد، ومنطقة الوجود المادي تنتفخ؛ يعني فيما كانت الذرات في الجرم الواحد يضغط بعضها بعضا وتشع فوتونات، كانت الوحدات السديمية والجرمية تتباعد.
الوجود المادي الآن في شدة هذا الدور؛ تشعع مستمر تذوب به الشموس والأجرام ذوبانا، وعلى التمادي تفنى هذه الأجرام وتذهب فوتونات في الفضاء، في بحر الإيثر أو الفوتونات؛ فهي من الإيثر وإلى الإيثر تعود، وأخيرا يصبح الحيز الكوني أوقيانوس إيثر كما كان في الأصل. ثم ماذا؟
يعود الوجود المادي يكرر سيرته: يعود إلى التجمع فالتشعع الذي تذوب فيه الأجرام كما تقدم شرحه، وهكذا دواليك من دور إلى دور، فكم مرة مثل هذا الدور؟
هذه العملية - عملية النشوء من الإيثر، ثم إلى الفناء في بحر الإيثر - استغرقت بلايين لا تحصى من الدهور، ولا يعلم كم تكررت منذ الأزل وكم ستكرر إلى الأبد.
وهنا نسأل: متى ابتدأ الأزل ومتى ينتهي الأبد؟
ماذا كان قبل الأزل؟ وماذا يكون بعد الأبد؟ هل للأزل قبل وللأبد بعد؟
لا قبل ولا بعد، ولا بداية ولا نهاية، هو السرمد الذي لا أول له ولا آخر، هذه هي اللانهاية الثالثة. في الفصل القادم تفصيل علمي لهذا. (4) العقل في اللانهايات
هنا ينبري الفيلسوف المتبحر في فلسفة ما وراء الطبيعة فيسأل: هل يستطيع العقل البشري أن يتصور النهاية تارة واللانهاية تارة أخرى؟ وكذلك البداية واللابداية؟ أو بالأحرى المحدودية واللامحدودية؟
إذا شاء العقل أن يتصور لهذا الفضاء العظيم شكلا كرويا أو أي شكل هندسي آخر، كان كأنه يجعل له حدا لكرويته أو شكله ويفرض له قياسا مقررا؛ فإذا تصور له هذا الشكل بدر له في الحال أن يتخطى ذلك الحد إلى ما وراءه، لا يستطيع أن يقتصر على تصور حد من غير أن يتمادى إلى ما وراء ذلك الحد، وإلى ما وراء ورائه؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور في خياله حدا للفضاء ما لم يبدر له أن لذلك الحد وراء؛ فيتخطاه إلى ذلك الوراء.
إذن لا يستطيع العقل أن يتصور النهاية، ولا أن يتصور اللانهاية، وكذلك الأمر في البداية واللابداية؛ لا يستطيع أن يرسم في خياله صورا لأحد الوجهين، وإذا حاول ذلك خبلته الحيرة.
أليس غريبا أن هذا العقل الذي اكتشف إلى الآن معظم أسرار الكون يعجز عن أن يفهم سر النهاية أو اللانهاية، أو أن يفصل بينهما، أو أن يوفق بينهما؟
العقل يبحث عن سر الحياة، ويرى أن هذا البحث مستطاع، ويؤمل أن يقبض على هذا السر، وكذلك يبحث عن أصل العقل نفسه، ويرى أنه يكاد يدرك سر العقل ومصدره، وطالما حار في أمر الكهرباء وسرها إلى أن قبض على سرها أو كاد. ولكن مهما تبحر في تفهم اللانهاية واللابداية لا يرى بارقا من الأمل في فهمها، يرى لغزا لا ينحل أو يستحيل حله. فلماذا؟
هل سبب هذه الاستحالة في اللانهاية نفسها، أو في العقل الذي يغزوها فيعود مندحرا؟ (5) العلة في العقل نفسه
العقل يستمد تصوراته من العالم المادي الخارج عنه بواسطة المشاعر الخمس، وأهمها البصر؛ فجميع المعلومات التي علمتها عقولنا عن العوالم الكونية وردت إليها عن طريق البصر، بواسطة التموجات النورانية وأخواتها من الأمواج الكهرطيسية، وفي كثير من المرئيات القصية والدقيقة نستعين بالآلات البصرية المختلفة كالمقراب - التلسكوب، والمجهر - الميكروسكوب، والمطياف - السبكتروسكوب.
ومن هذا الطريق عرفنا نهاية الحيز المادي أو حدوده، فما ليس ماديا لا يمكن أن يتجاوز المحسوس المنظور مباشرة، أو بواسطة الآلات البصرية؛ فهو إذن محدود بالدماغ الذي ينتجه، وبالجهاز العصبي الذي يعاون الدماغ في إنتاجه.
واللانهاية التي نحن بصددها تتجاوز حدود المادة التي نشأ الدماغ منها، فصدر العقل منه، فلذلك يستحيل على العقل المحدود بالمادة أن يتطاول إلى ما وراء المادة - ما وراء الطبيعة، حسبه أنه استطاع أن يشمل حيز المادة، وأما أن يتخطاه إلى اللانهاية، وهي أوسع منه، فهو حكم منطقي سخيف أخرق.
اللانهاية خارجة عن دائرة المحسوس، لا تقع تحت الحواس ولا تتأثر بها المشاعر الدماغية والعصبية، فكيف يمكن أن يدركها العقل وهو لا يتناول معلوماته إلا عن طريق المشاعر؟ فإذن هذا العقل الذي نتبجح به وبعظمته وقدرته وشموله هو صغير جدا بالنسبة إلى الوجود اللامتناهي، ولا يمكن أن يشمل الصغير العظيم.
فلذلك حين نقول «عقل الله» ننسب لله عقلا من شكل عقلنا وطبيعته، ونقول إنه أعظم من عقلنا، ولكن مهما عظم لا يدرك اللامتناهي ما دامت طبيعته كطبيعة عقلنا، وإن قلنا إن طبيعة «عقل الله» تختلف عن طبيعة عقلنا، فإذن ليس هو عقلا، بل هو شيء آخر لا نعلم ما هو، فليس لنا أن نتكلم عن المجهول المطلق، ولنكف عن محاولة تعريفه، وإلا فنحن نحقره بدل أن نقصد تعظيمه، فلندعه في عالم المجهول المطلق.
إن الإنسان لما عجز عن إدراك اللامتناهي في حين كان يتوق إلى معرفة أسرار الوجود استنبط هذا المجهول، ونسب إليه قدرة وعلما أعظم من قدرته وعلمه.
فالحقيقة أن المجهول والجاهل هما الإنسان نفسه .
الفصل الثالث عشر
الأزل والأبد: السرمد
بداية الكون المادي ونهايته
1
رأينا في عرض هذه الفلسفة أن الوجود المادي هو «المادة المتحركة» التي بدونها لا نستطيع أن نتصور المكان والزمان؛ فالحيز الذي تشغله المادة هو الذي يحدد المكان، وما وراءه مجهول في حكم العدم، وتحرك المادة على التوالي هو الذي يعين الزمن في تصورنا؛ فليس قبل وجود المادة وتحركها زمن، وليس بعد سكونها زمن؛ فالمكان والزمان نسبيان للمادة وحركتها. فهل المادة أزلية أبدية، أو لها بداية ونهاية؟
إذا قلنا إنها أزلية أبدية وقعنا في مشكلة «اللانهاية» التي يتعذر على العقل تصورها والتي تناقض «نظرية الحدوث»، ونظرية الحدوث هذه تنص على أن «الكون حادث متغير»، والحدوث والتغير يستلزمان البداية والنهاية، وإذا قلنا إنها ذات بداية ونهاية انحصر بحثنا في «متى» - متى وجدت وإلى متى تبقى؟ وما هي طبيعة التغير التي تطرأ عليها منذ البداية إلى النهاية؟ (1) الأزلية والأبدية في الميثولوجيا
أما أنها ذات بداية ونهاية فقد لاح للعقل البشري منذ قديم الزمان كأنه أمر بديهي، نرى ذلك في ميثولوجيا جميع الأمم التي كان لها قسط وافر من الحضارة والتفكير العلمي والفلسفي؛ فإن جميع هذه الميثولوجيات القديمة تنص على بداية للكون وبعضها تشير إلى نهايته، ولذلك سببان:
الأول:
تعذر تصور اللانهاية على العقل.
والثاني:
وهو سبب نظنه ظنا - هو ما لاحظه القدماء من التغيرات الطارئة على الوجود المادي.
وفي كتب الوحي في الشرق الأدنى نصوص صريحة على بدء الخليقة المادية وانتهائها بساعة المعاد، حتى لا يبقى إلا العالم الروحي.
ذلك ما يستفاد من الميثولوجيات وكتب الوحي، وأما ما يستفاد من الفلسفة والعلم فمبني على ملاحظات علمية تكاد تكون في حكم الحقيقة، وعلى اختبارات علمية عملية هيهات أن تند عن الحقيقة، وإذا طرقنا الموضوع من ناحية العلم آثرنا أن نبحث أولا في الأدلة على أيلولة الكون المادي إلى الانقضاء - الأدلة المستخرجة من الحقائق العلمية المشار إليها - ثم يسهل علينا أن نعود ثانيا إلى كيفية بدئه ونشوئه. (2) النهاية: اشتقاق الأجرام من السدم
أما أن الكون حادث متغير فقد قرره العلم تقريرا لا مشاحة فيه. فالسديم الذي هو مجتمع عظيم من المادة في الحالة الغازية اللطيفة جدا، يتقلص تدريجا فيما هو يدور على نفسه، وتزداد سرعة دورانه كلما تقلص، وفي خلال ذلك يكون بعض أجزائه أسرع تقلصا من أجزاء أخرى، فتتكون منها النجوم وتنفصل عنها، وتستمر كل نجمة في تقلصها مستقلة، وفي أثنائه قد تنفلق إلى نجمتين متلازمتين في دورانهما - ولذلك أسباب وتعليلات لا يسعها المقام - أو تنتثر منها أجزاء تدور سيارات حولها - وهو نادر؛ وهكذا يتجزأ السديم إلى أجرام متفاوتة الحجم والتكاثف، وبالتالي يتجمد بعضها قبل بعض.
وهنا لا بد أن يلوح في البال هذا السؤال: «ما هو سر هذا التقلص؟ وماذا يحدث في خلاله؟»
أما سره فهو قوة التجاذب بين أجزاء المادة حول مركز مشترك بينها، وأما ما يحدث في خلاله فهو انطلاق القوة من المادة متشععة
Radiating
في شكل أمواج حرارة ونور، وتوزعها في الفضاء. ولما كان علماء العصر قد برهنوا على أن المادة والقوة شيء واحد، أو أن القوة هي المادة متحركة؛ فهذا التشعع أو الإشعاع إنما هو اندثار كهارب المادة ونواها متحولة إلى أمواج نور وحرارة؛ إذن سر هذا التغير الذي نحن بصدده هو ذلك الإشعاع الموجي الذي ينتج عنه أن كل جرم ينقص مادة وقوة في أثناء إشعاعه.
وبناء على حساب السير «تجايمس تجينز» - أحد أعاظم علماء العصر، والذي نستمد منه زبدة هذا المقال - أن الشمس تنقص في كل يوم 360000 طن بسبب الإشعاع الصادر منها، والأجرام المتجمدة كالسيارات أقل إشعاعا، فالأرض تنقص في اليوم 9 أرطال فقط.
أما اندثار الكهيرب والنواة الذي هو سر الإشعاع فسببه التحول الدائب في ذريرات المادة، وفي أرضنا نماذج كثيرة له؛ ومنها تحول عنصر الأورانيوم إلى ثوريوم ثم أكتينيوم ثم إلى الراديوم، وهذا إلى عنصرين آخرين أبسط منه وهما الهيليوم والرصاص. وفي أثناء هذا التحول ينطلق شيء من القوة إشعاعا، وتصبح مادتا هذين العنصرين أقل وزنا من وزن العنصر الأول الذي انحل إليهما؛ بسبب ما خسره في الإشعاع، على هذا النحو تنفلت القوة من الأجرام، في خلال تحولات متوالية تذوب الأجرام رويدا كذوبان الثلوج في الربيع. (3) ناموسا القوة
بعد هذا البيان الموجز يلوح لدارس الطبيعيات أن يعترض قائلا: إذن كلتا المادة والقوة آيلتان إلى الفناء، وهو نقيض ما ينص عليه علم الطبيعيات من أن المادة والقوة غير قابلتين للفناء. وللتوصل إلى جواب مقنع على هذا الاعتراض لا بد من سلسلة بحث طويل في طبيعة التحول الذي أشرنا إليه لا محل للتبسط به هنا، فنقتصر على أول حلقة في هذه السلسلة، وهي البحث في بعض نواميس القوة من حرارة ونور:
الناموس الأول:
أن القوة تتحول من شكل إلى شكل؛ فالقوة الكيمياوية الكامنة في الوقود تتحول إلى حرارة تدفع السفن والقطارات والسيارات ... إلخ. والقوة الكامنة في أطعمتنا تتحول إلى قوة عضلية، وقوة حرارة الشمس ونورها تتحول في النبات إلى قوة كامنة تظهر في الوقود والطعام المشار إليهما آنفا، وقس على ذلك. فبحسب هذا الناموس القوة لا تفنى بل تتحول من شكل إلى شكل، ولأن هذا الناموس شامل جميع الأجرام يلزم عنه أن القوة الموجودة في الأجرام جميعا لا تفنى، وكيفما تحولت تبقى قيمتها كما هي، فلو جمعت القوات التي تشععت وتوزعت في الفضاء إلى القوات الباقية في الأجرام لساوى مجموعها مجموع القوات التي كانت في السدم منذ تكونت الأجرام.
وقد يلوح للقارئ كما لاح لكثيرين أن هذه القوات المتشععة في الفضاء يمكن أن تتألف من جديد سدما على التو تتولد منها أجرام جديدة، وهكذا يبقى الكون في استمرار إلى الأبد ... ولكن ناموس القوة الثاني يتدارك هذا الظن.
الناموس الثاني:
القوة غير قابلة للفناء من حيث كميتها، ولكنها قابلة للتحول من شكل إلى شكل كما تقدم القول، على أن هذا التحول الذي هو نواة الناموس الثاني يتخذ اتجاها واحدا فلا يرتد إلى اتجاه معاكس له. وتسهيلا لتفهم هذا القول نعبر عن الاتجاه بالانحدار من أعلى إلى أدنى؛ فالقوة إذا نزلت من أعلى إلى أدنى في تحولها لا تعود تصعد من أدنى إلى أعلى.
مثال ذلك: النور والحرارة هما شكلان من أشكال القوة «بل هما الشكلان الرئيسيان»، فقدر معين من النور يمكن أن يتحول إلى قدر مساو له من الحرارة، ولكن هذا القدر نفسه من الحرارة يستحيل أن يتحول إلى قدر مساو له من النور، بل إلى أقل، والباقي يشع أمواجا في الفضاء. هذا مثل خاص لقاعدة عامة، وهي أن القوة المتشععة
Radiating
تميل دائما إلى التحول من أمواج قصيرة إلى أمواج أطول - إذ لا يخفى عليك أن الإشعاع يحدث في شكل أمواج. مثال ذلك: التألق
Fluorescence
يزيد موجة النور طولا، فالمادة المتألقة - أو التي يحدث النور العابر فيها تألقا - كبعض الأحجار الشفافة أو كزيت البرافين مثلا، تمتص أشعة النور من جهة وتبرزها من جهة أخرى أطول أمواجا، يدخل النور في سائل البرافين أبيض فيخرج أزرق، ولو أدخلت فيه نورا أزرق لخرج منه أخضر أو أصفر؛ فالتألق يحول النور الأزرق إلى أخضر فأصفر فأحمر «والأحمر أطول الأمواج»، ولكنه لا يحول الأحمر إلى أصفر فأخضر فأزرق «وهو أقصرها موجة».
فالقوة المتشععة إذا تحولت من موجة قصيرة إلى موجة طويلة لا تعود تتحول بالعكس من طويلة إلى قصيرة، وتعتبر الموجة القصيرة أعلى منزلة في سلم الأمواج؛ لأنها أسرع، وتعتبر الطويلة أدنى منزلة؛ لأنها أبطأ، كما هي الحال في السلم الموسيقية مثلا.
هذه هي قاعدة تموج القوة المتشععة في كل حال، وتحت أي ظرف وأي سبب.
بناء على ما تقدم ينبغي ألا ننظر إلى القوة من حيث الكم فقط، بل من حيث الكيفية أيضا. إن مجموع القوة في الكون لا ينقص بل يبقى كما هو، وإنما تحول القوة من حال إلى حال يستمر في اتجاه واحد ولا ينعكس بتاتا. هذا هو ناموس القوة الثاني، ولكن ليس كل ما تقدم شرحه هو كل ما يعني بهذا الناموس الثاني، بل هناك شيء آخر جوهري لا بد من بسطه. (4) عاملية القوة في حياة الأجرام
إن القوة عامل جوهري في بناء المادة الكونية، وفي حياة الأجرام منذ نشوئها إلى انقراضها ، فتحولها من أعلى إلى أدنى كما تقدم بيانه إنما هو تحول عامليتها - أي: عملها - من أقوى إلى أضعف، أو من أنفع إلى أقل نفعا. قد يمكن أن يسهل على القارئ فهم هذا الناموس إذا مثلناه بماء يجري من جبل إلى الساحل في مجرى متعرج، فهو يجري في مجرى مائل إلى تحت تارة، ثم في مجرى أفقي تارة أخرى، ثم في مجرى مائل إلى تحت، وهلم جرا، ولكنه لا يستطيع أن يجري في سبيل مائل إلى فوق من أسفل إلى أعلى، بل يستمر جاريا من أعلى إلى أسفل، إلى أين؟ إلى البحر حيث ينتهي جريه.
هكذا القوة تتحول من حال أعلى فاعلية إلى حال أدنى، ولكن لهذا التحول نهاية، وهو بحر الفضاء، فالكون المادي وهو يشع أمواج القوة
2
إلى الفضاء لا يستطيع أن يستمر في إشعاعها إلى الأبد؛ لأنه يندثر رويدا بشكل أمواج شعاعية، إلى أن يضمحل في ذلك البحر الفضائي العظيم الذي هو أدنى أشكال التحول. وهناك تنتهي حياة الكون وتنتهي حياة القوة العملية. القوة كلها باقية في ذلك البحر ولكنها فقدت «خاصة التحول».
قد يلوح في بال القارئ أن مجرى القوة المنحدر من ذرات المادة في سلسلة تحولات إلى أن يبلغ إلى بحر الفضاء؛ يحتمل أن يعود من ذلك البحر مكونا عالما ماديا آخر، فتعيد القوة الكرة ثانية من أعلى إلى أسفل على نحو ما فعلت سابقا - كما أن ماء النهر المنحدر من أعالي الجبال إلى البحر يعود فيصعد بخارا في الهواء، ثم يهطل مطرا على الجبال ويعود إلى جريه السابق، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له.
ولكن هذا قياس مع الفارق. النهر يستمر في جريه ما دامت المياه ترتفع بخارا في الهواء وتنهطل مطرا، ولكن ما الذي يرفع الماء بخارا؟ حرارة الشمس. فما دامت الشمس ذات حرارة فالبخار يرتفع والمطر يهطل والنهر يجري، فأين العامل الذي يرفع القوة من بحر الفضاء بحيث تستأنف عملها ثانية؟ لا نعرف قوة أخرى ترفع القوة «التي هبطت إلى أوقيانوس الفضاء» إلى مقامها الأول، لكي تستأنف إنشاء الكهارب والنوى وتأليف الذريرات في سدم ... إلخ، وتعود إلى نمط التحول النازل الذي بسطناه آنفا.
فقياس «تنازل القوة» إلى مجرى الماء غير تام من هذه الوجهة، ناهيك بأن الشمس التي حرارتها ترفع الماء ستذوب في المستقبل؛ إذ تنطلق كل حرارتها ونورها إشعاعا في الفضاء. وهكذا مصير كل جرم، هذا المصير يحتمه ناموس القوة الثاني، ويؤيد هذا الناموس الاختبارات العلمية الصادقة، وليس في نواميس الطبيعة ومظاهرها ما يؤيد مظنة عودة القوة إلى مقامها الأول وإعادتها الكرة ثانية كما يتكهن بعض أهل العلم.
وأما متى تبلغ العوالم المادية هذا المصير؛ ففي إمكان الحاسبين من العلماء أن يقدروا له أجلا بملايين ملايين السنين، وإنما يقال بالإجمال إن ما بقي من عمره أكثر مما مضى، فهل ينتج مما تقدم أنه «لا أبد» للوجود المادي بل هو متناه؟
إذن ماذا سيكون بعد، هل يستقر الوجود المادي على هذا النحو - ماذا يمنع أن يتجدد الدور؟ (5) البداية: عمر الأجرام
فيما تقدم كنا ننظر إلى الأمام في مراحل المادة ونتبين أنباءها في مستقبل الزمن إلى أن تضمحل، كنا نرى قدر المادة ينقص بالإشعاع، ونستنتج أن نهاية هذا الإشعاع اندثار آخر ذريرة من المادة، فإذا التفتنا إلى الوراء وجعلنا نتبين أنباء ماضي الزمن نرى أن مادة الأكوان كانت أكثر قدرا مما هي الآن، وكلما توغلنا في تبين الماضي رأينا الأجرام ألطف مادة وأكبر حجما، وأكثر قدرا، وجملتها أكثر وزنا، ولو كان المقام ذا سعة لكنا نبين أن أوزان النجوم كما بلغت إليه الآن لا تتفق مع تقدير عمر لها أكثر من 5 إلى 10 ملايين مليون سنة. وقبل ذلك كانت كلها في الحالة السديمية.
قدر العلماء هذا العمر للنجوم منذ ولادتها من السدم بناء على درس وزن النجم وحجمه، ومقدار سطوعه، وما يخسر من وزنه بالإشعاع كل عام، ومقدار تباعد الجرم الواحد عن الآخر ... إلى غير ذلك من الاعتبارات التي لا محل للتبسط فيها هنا. وإنما نذكر طريقة واحدة بسيطة لحساب عمر النجم منذ ولادته من السديم، نذكرها لكيلا يظن القارئ أن علماء الفلك الطبيعي يتكهنون تكهنا في تقدير أعمار النجوم من غير حساب وعلى غير قاعدة.
فلنتصور الآن أن الشمس والنجم قنطوروس الأول
الذي هو أقرب النجوم إلينا شرعا يتكونان من السديم متجاورين، ثم جعل كل منهما يتقلص فصارت المسافة بينهما تتسع رويدا رويدا إلى أن صارت الآن نحو 4,27 سنين نورية، أي 25 مليون مليون ميل. فإذا كنا نعرف معدل تقلص الشمس
3
وتقلص قنطوروس كل عام أمكننا أن نعلم كم من السنين مضى منذ ولادتهما إلى الآن، بقسمة المسافة بينهما على معدل تقلصهما السنوي. بمثل هذا الحساب مع إدخال اعتبارات أخرى وحسابات أخرى تختص بالإشعاع والسطوع ونقص الحرارة والنور ... إلخ؛ استطاع العلماء أن يقدروا نحو 5-10 ملايين مليون سنة. (6) عمر السدم والذريرات
وقبل أن تولد الأجرام كانت الذرات
Atoma
متكونة في السدم منذ عهد أطول جدا من أعمار النجوم، فمتى ائتلفت النواة - البروتون - والإلكترون في الذرة؟ هذا دهر من أدهار تطور المادة الكونية، وليس بالسهل تقدير سنيه. لقد حسبوا وزن كثير من السدم، وعرفوا أن السديم المسمى «المرأة المسلسلة»
Andronida 31 M
يزن قدر 3500 مليون شمس كشمسنا، ومجموع الضياء الساطع منه يساوي سطوع 660 شمسا، وبناء على هذا التقدير، ولاعتبارات أخرى تختص بالنسبة بين الوزن والسطوع، قدروا أن عمر الذرة في هذا السديم نحو 80 مليون مليون سنة. وكذلك حسبوا وزن السديم المسمى
N. G. 4594
يساوي وزن 2000 مليون شمس، وسطوعه يساوي سطوع 260 شمسا، فقدروا عمر الذرة فيه 110 ملايين مليون سنة. فالمعدل الأوسط لتكون الذرة نحو 100 مليون مليون سنة منذ تكونها في السديم إلى اليوم.
لا نستطيع أن نستمر بالتوغل في الماضي وفي تصور أشكال المادة؛ لأننا كلما تقهقرنا إلى الوراء مرحلة نجد المادة في كل دور سابق أكثر قدرا أو زنة منها في كل دور لاحق. فإذا استمررنا بهذا التوغل إلى ما لا نهاية له اقتضى أن يكون وزن مادة الكون في الأزل ما لا يستطيع العقل تصوره، ولا يمكن أن يتفق مع نواميس الطبيعة. لا بد أن نصل في التقهقر إلى حد من كثافة المادة، لا يمكن أن تكون قبله أكثف منها في الحيز الذي تشغله.
بلغنا في التقهقر في سلم الماضي إلى الدور الذي بدأت فيه الذرة تتكون في السديم من النواة والكهيرب؛ فماذا كان قبل ذلك الدور؟ (7) يد القوة القصوى
لا نستطيع أن نتصور شيئا قبل ذلك الدور إلا أن الحيز - الفضاء الكوني - كان مملوءا سدما لطيفة جدا كلطافة الأيثر - وإذا شئت فهي الأيثر بنفسه - وكانت منتشرة فيه، ومنها نشأت نوى الكهارب والكهيربات غير مؤتلفة في ذريرات، بل بقيت منثورة مبعثرة متفرقة بلا انتظام، ولا يمكن أن يكون هذا الدور أزليا، فلا بد أن يكون قد سبقه دور آخر أو بضعة أدوار كانت فيه المادة والقوة تتأهبان للانتظام، ومهما تقادم هذا الدور فلا يكون أكثر من 200 مليون مليون سنة. وماذا كان قبل ذلك؟
قلنا إننا لا نستطيع أن نتصور أزلية للوجود المادي ما دمنا نرى له تطورا من حالة إلى حالة، فلا بد أن نسلم بأن «قدرة قصوى» عينت حيزا متناهيا من الفضاء، ثم أفرغت فيه قدرا متناهيا من الهيولي - أصل المادة - التي نشأت منها النوى والكهيربات. وإذا كنا نسلم بأن المادة والقوة شيء واحد وجب أن نتصور أن قوة مشعة ذات أمواج أقصر ما عرف من الأمواج إلى الآن وأسرعها كانت في البدء، ولم تكن أطول من جزء من 13 إلى يساره 13 صفرا - فعلامة الكسر العشري هكذا 0,000000000000013 - من السنتيمتر، وهي أقصر الأمواج المعروفة وأسرعها.
هذه الموجة تسحق الكهرب والكهيرب إذا سلطت عليهما في بعض الأحوال، وتنشئهما في بعض الأحوال الأخرى، كما هو ثابت بالاختبار العملي العلمي؛ يجب أن نتصور قوة بهذه الشدة أفرغت في ذلك الحيز الفارغ وجعلت تتبلور أو تتجمد في كهارب وكهيربات تألفت منها الذريرات فيما بعد. من هذه القوة المتجمدة تكونت السدم اللطيفة التي كانت تملأ الحيز المعد لها، ومن كهاربها وكهيرباتها تألفت أجرام بعدئذ، أو يمكننا أن نتصور - بحسب تعبير السير تجايمس تجينز - أن الله ملأ الحيز أيثرا أو فوتونات، ثم حركه بأصبعه، فجعلت ذريرات الأيثر أو الفوتون تتألف منها الكهيربات والبروتونات، منذ ذلك الحين ابتدأ المكان وابتدأ الزمن.
ترى مما تقدم أننا لا نستطيع أن نتوغل في الماضي بلا نهاية؛ لأن نواميس المادة تمنع هذا التوغل، ومهما توغلنا فلا نستطيع أن نتملص من تصور قوة قصوى بدأت الوجود، ولكن هل هذه «القوة القصوى» هي نفس القوة التي كتبت بأصبعها لوحي موسى الحجريين، وهي التي قست قلب فرعون على موسى وشعبه؟ لا نستطيع أن نتصور إلا أن هذه القوة القديرة الغامضة السر أودعت في الحيز الكوني مادة السدم مشفوعة بقوى التجاذب والدوران، ومن ثم شرعت ذريرات المادة تتحرك بهذه القوة، وبتحركها صارت تتألف في كتل، ثم صارت تتطور على نحو ما تبسطنا به.
فلو تصورنا أن ذريرات المادة متفرقة في الفضاء المقدر لها تفرقا متساويا في كل ناحية لكان في كل سنتيمتر مكعب منها جزء من 15 وإلى اليسار 37 صفرا ثم علامة الكسر العشري إلى اليسار؛ ذلك من الجرام، بحسب حساب العلامة هوبل.
وإن تصورنا أن المسافات بين كل واحدة والأخرى من الذريرات الأيثرية متساوية، فقوة التجاذب بينها متوازنة، ولذلك تبقى ساكنة، فلا بد من قوة أجنبية عنها تحركها لكي يختل هذا التوازن إذ يصبح بعضها أقرب إلى بعض، وعندئذ يحدث التجاذب فتتكتل المواد وثم تتكون الأجرام. انظر
الفصل الأول
في «التجمع»، وانظر أيضا الفصل التاسع «تطور الكون» من كتابنا «فلسفة التفاحة أو جاذبية نيوتن».
ما هي الغاية القصوى؟
بعد كل هذه الفلسفة نسأل: ما الغاية القصوى من كل هذه الضجة أو «الهيزعة» الكونية التي تطويها الأحقاب والدهور ولا تنتهي؟ نترك هذا الموضوع لفيلسوف يؤلف فيه كتابا ضخما. والسلام على من اتبع الهدى.
الفصل الرابع عشر
في ما وراء الوجود المادي1
موضوع كتابنا هذا هو الوجود المادي. بقي أن نسأل: هل يوجد وجود آخر غير مادي كما زعم بعض المفكرين المتبحرين المتفلسفين؟ فلنر. (1) الروح وعالم الأرواح (1-1) بماذا نحس
أعرف وأحس أن لي جسدا مركبا من عناصر مادية كيماويا كسائر الحيوانات والنباتات، وأعرف أن هذا الجسد يتغذى من تلك العناصر، وينمو ويلد كما ولد ويموت، وبين الولادة والموت يتحرك حركات ذاتية بقوة فيه يستمدها من غذائه، والعلماء يسمون هذه القوة حياة.
وأعرف أني أحس وأشعر وأفتكر وأتذكر وأستنتج، وأعرف أني أعرف. ومجموعة هذه الأفعال تسمى عقلا.
إذن أعرف وأحس أن في ثلاثة أشياء: جسد، وحياة، وعقل. وأشعر بوجود هذه الأشياء في مختلفة بعضها عن بعض، وأرى أن شخصيتي مركبة من هذه الأشياء الثلاثة، وأعلم أن هذه الأشياء مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وأن أي خلل يطرأ على أحدها يخل الاثنين الآخرين. تنمو هذه الثلاثة معا وتهلك معا. أعلم كل ذلك جيدا بوضوح وبغير التباس في فهمه.
ولكني أعرف أنه ليس في شيء آخر رابع يتميز عن هذه الثلاثة كما تتميز هي بعضها عن بعض، وأن هذا الرابع من ضروريات ذاتيتي بحيث إني إذا فقدته فقدت ذاتيتي كلها برمتها. هذا شيء لا أشعر به.
وإنما قيل لي منذ حداثتي أن لي روحا - أو نفسا - وأن هذه الروح مستقلة عن الجسد بحيث إنها تبقى بعد فنائه. والآن وقد تعلمت مبادئ العلوم المادية والجسدية والعقلية، وطالعت كثيرا، صرت أفكر وأبحث عن هذا الشيء الرابع الذي سموه لنا روحا. فما هي الروح؟
هذا السؤال كنت أوجهه إلى بعض المعتقدين بالروح، فبعضهم يقول: هي الحياة. وآخر يقول: هو العقل. وآخر يقول: إنه شيء مستقل عن الجسد والحياة، ولكنه يحمل العقل وما احتواه من أفكار وتذكارات. (1-2) التفنيد
أما أن الروح هي الحياة فلا قيمة لهذا القول؛ لأنه لا يفيد عن الروح سوى أنها لفظة مرادفة للفظ الحياة، والحياة لا تزال سرا غامضا، ولا يرضاه الخلوديون؛ لأن لحياة الفرد نهاية بالموت، كما أن لها بداية بالولادة أو بتكون الجنين، فمتى مات الفرد اضمحلت الروح - إذا كانت هي نفس الحياة. وإذن لا تكون الروح المرادفة للحياة شيئا رابعا في شخصية الإنسان.
وأما القول إن الروح هي العقل فيستلزم أن تكون الروح عرضة لخطر الفناء بموت الجسد؛ لأن العقل نفسه مرتبط بالجهاز العصبي الذي هو بعض الجسد، بل ما هو إلا مجموعة أفعال ننعتها بالعقلية، وهي بالحقيقة من مفاعيل خليات الدماغ التي تتعاقب فيها التفاعلات الكيماوية بين ذرات العناصر التي تؤلف منها تلك الخليات وبين جزيئاتها، وما وظيفة الخليات الدماغية إلا إصدار تلك الأفعال العقلية، فالعقل ليس ذاتية بل هو عمل أو وظيفة للدماغ.
وأما أسباب تلك التفاعلات التي تسبب تلك الأفعال العقلية، فلم تزل قيد البحث عند «الفزيكوسيكولوجيين» أي: علماء العقل ووظائف أعضاء الجسد. ولا بد أن يتوصلوا يوما من الأيام إلى تعليل كيفية صدور الأفعال العقلية تعليلا فزيولوجيا - جسديا.
فيستفاد مما تقدم أن العقل ليس ذاتا قائمة بنفسها، بل هي عمل دماغي يبطل بانحلال الجسد؛ فإذا كانت الروح عقلا فهي فانية بفنائه. (1-3) البراهين على وظيفة الدماغ
وهنا يطالبنا القارئ بالبرهان على أن الأفعال العقلية ليست إلا نتيجة تغيرات في خلايا الدماغ وسائر الجهاز العصبي بسبب تفاعلات كيمية فيها، وأن وظيفة الدماغ إصدار تلك الأفعال. فالبرهان الإيجابي منوط بتوفيق الأبحاث العلمية «الفزيكوسيكولوجية» في المستقبل، ولكن عندنا الآن أدلة واضحة وجازمة على صحة هذه الدعوى.
فأولا:
إن هذا العقل العجيب أمره ينمو مع نمو الجسد، بل ينمو متأخرا عنه - إذا صحت نسبة النمو إلى الأفعال. والتعبير الأصح هو أن هذه الأفعال العقلية تتعاظم وتتنوع وتتعقد مجاراة لنمو الجسد. فالجنين خال من العقل حتى من الإحساس، والطفل في بدء شعوره أو إحساسه لا يختلف إحساسه عن إحساس بعض النباتات، ولا يبتدئ أن يميز بين الأشياء إلا بعد بضعة أشهر، ولا يتكامل نمو العقل إلا بعد بضع عشرة سنة، فإذن العقل خاضع لنفس السنن البيولوجية - المادية الحيوية - التي يخضع لها الجسد.
ثانيا:
إنه في حالة راحة أعضاء الجسد في النوم يكون العقل كأنه غير موجود؛ أي: إن الأفعال العقلية كالتفكير والتذكر ... إلخ تكون متوقفة تماما كما تتوقف حركة أدوات العمل؛ لأن خليات الدماغ متوقفة عن الحركة حينئذ، وإن لم تتوقف عن الحركة تماما كما في الأحلام مثلا فتكون خليات الأسلاك العصبية متوقفة عن الحركة؛ فيفكر الحالم وهو نائم، ولكن أسلاكه العصبية لا تنقل هذه الحركة لا ذهابا ولا إيابا، ولهذا لا يعرف الحالم أنه يحلم إلا حين يستيقظ؛ إذ تتحرك خليات أسلاكه العصبية، وتتنبه إلى أن ما كان يراه في النوم لم يكن حقيقة واقعة فعلا، بل كان مجرد أوهام.
ففي النوم دليل على أن الأفعال العقلية هي نتيجة قيام الخليات الدماغية بوظائفها، فلما توقفت هذه الخليات عن الحركة توقفت الأفعال العقلية أيضا، ولم يبق شيء يسمى عقلا.
ثالثا:
في حالة التخدير ب «الكلوروفورم» ونحوه تتوقف معظم مراكز الدماغ عن العمل بتاتا، ويتوقف عمل الأسلاك العصبية الممتدة من الدماغ والحبل الشوكي إلى سطح الجسد، ويفقد الإنسان رشده وإحساسه وشعوره فقدا تاما كأنه ميت، فلا يحس بألم ولا بلذة ولا يفكر ولا يتذكر. ومتى زال فعل المخدر عنه تنبه، وشعر كأنه كان في عالم الفناء، فعاد إلى عالم الحياة؛ يختلف شعوره هذا عن شعوره عند صحوه بعد النوم. وفي أثناء غيبوبته بفعل المخدر قد يتكلم كلاما لا تعقل فيه؛ فيهذر ويهرف ويهذي، كأن بعض مراكز دماغه الخاصة بالنطق لم تتخدر تماما؛ فتبقى تبدي حركات ذاتية ميكانيكية كما يبدي ذيل الورل حركات ذاتية بعد قطعه وفصله عن جسمه. مما تقدم يستدل على أن الأفعال العقلية إنما هي نتيجة أفعال مراكز دماغية، تحدث بفعل تفاعلات كيماوية في خلاياها.
رابعا:
قد يطرأ طارئ مرضي كالزهري مثلا على أحد المراكز الدماغية فيعطله، وبالتالي يتعطل معه الفعل العقلي الذي هو وظيفة ذلك المركز، فقد يتعطل المركز الخاص بالذاكرة مثلا فينسى الشخص كل ماضيه، أو يتعطل مركز التعقل فيصبح الشخص أبله، إلى غير ذلك من النواقص العقلية التي تنتج من تعطل مراكزها الدماغية، ولا يخفى ما في ذلك من الدلالة الساطعة على أن ما نسميه قوى عقلية إنما هو نتيجة حركات فقط تصدر من خلايا المراكز الدماغية.
وقد يولد الشخص وفي دماغه شيء من النقص، فيعيش مختل العقل كل عمره ، وقد يعجز الطب عن علاجه.
خامسا:
بعض العقاقير تفعل في بعض خليات الدماغ «أفعالا خاصة»، فتجعل بعض الأفعال العقلية مضطربة أو شاذة كالخمرة والحشيش مثلا، وظواهر أفعالها معروفة، وهناك عقار يدعى سكوبولامين
Scopolamin
يؤثر في بعض مراكز الدماغ، فيعرض الشخص إلى فضح أسراره.
فيما تقدم كفاية على أن الأفعال العقلية إنما هي أفعال خلايا الدماغ، وما نسميه عقلا ليس إلا مجموعة هذه الأفعال، تصدرها وظائف المراكز الدماغية، فمتى توقفت حركات الدماغ بسبب النوم أو التخدير أو المرض أو الموت لا يبق شيء يدعى عقلا.
إن كان العقل ذاتا مستقلة عن الجسد والدماغ، فأين يذهب بجميع قواه أو خواصه في حالة النوم أو التخدير، ثم يعود عند الصحو؟
فإذا سلمنا أن الروح هي العقل نفسه؛ فإذن هي فانية بتوقف الحياة وبفناء الجسد؛ لأن الأفعال العقلية تتعطل بتعطل فاعلها، والروحانيون لا يسلمون بفناء الروح. (1-4) أيثرية الروح
يزعم بعض الروحيين أن للإنسان جسما أيثريا مندغما في جسده المادي، حتى إذا تعطلت حياة الجسد المادي - بالموت - انسلخ منه الجسم الأيثري واستقل عنه، وهذا الجسم الأيثري هو الروح.
فما هي خواص هذا الجسم الأيثري، إذا كان هو الذاتية التي تبقى للإنسان بعد موت جسده؟ فهل يتقلد هذا الجسم وظائف دماغ الجسد العقلية؟ وكيف يمكن ذلك؟ وقد ظهر لنا من البحث الآنف أنه حيث لا دماغ مادي فلا يوجد عقل بتاتا؛ لأن العقل ليس ذاتا بل هو عمل، فلا تفكير ولا تذكر ولا استنتاج ولا غير ذلك مما نسميه قوى عقلية - أو على الأصح تسمى أفعالا عقلية - إذن، ذلك الجسم الأيثري ليس إلا هيكلا يبقى بعد الجسد، كما يبقى الهيكل العظمي بعد بلى اللحم والدم - هذا إن صح أن له وجودا، ولا برهان عندنا أن له وجودا.
نحن نستطيع أن نثبت أن لنا جسدا ماديا مؤلفا من بعض عناصر كيماوية، ونستطيع أن نثبت أن لنا حياة هي من مفاعيل الائتلاف الكيماوي لتلك العناصر، وأما كيف تصدر هذه الحياة من ائتلاف تلك العناصر، فهو أمر لا يزال قيد بحث العلم العملي الاختباري المعملي، وقد يكتشفه العلم في المستقبل القريب أو البعيد، ونستطيع أن نثبت أن ما نسميه قوى عقلية إنما هو أفعال وظائف المراكز الدماغية.
نحن نستطيع كل ما تقدم، ولكننا لا نستطيع أن نثبت أن للإنسان هيكلا أيثريا يتقلد شخصيته تقلدا تاما بحيث تبقى هذه الشخصية تامة بعقليتها بعد تعطل وظائف الجسد بتعطل أدوات الحياة ومراكز الدماغ؛ ليس عندنا أي برهان على وجود هذا الهيكل، ليس عندنا شعور أو إحساس بوجود هذا الهيكل فينا بتاتا، وما هو إلا فرض لتفسير وجود شيء سموه روحا، ولكنه فرض بلا برهان، وفي طوق كل إنسان أن يفرض ألف فرض لتعليل ما يدعيه، ولكن العقل لا يسلم بفرض بلا برهان.
والأيثر نفسه لا يزال فرضا غير يقيني؛ إذ لا برهان علمي معملي على وجوده، وما فرضه العلماء إلا لتعليل بعض الظاهرات الطبيعية، وإذا أمكنهم أن يعللوا تلك الظاهرات بدونه استغنوا عنه.
ونظرية النسبية تقول إنه يستغنى عنه؛ لأن الظاهرات الطبيعية تتعلل بها، ولا يعتبر الأيثر حقيقة علمية ثابتة، إلا إذا أمكن إثبات وجوده بعمليات معملية، كما يثبت وجود الراديوم والهيليوم والفيتامين مثلا.
2
وإذن وجود الهيكل الأيثري الروحاني للجسد الإنساني فرض محض ضمن فرض آخر بلا برهان، ولو ثبت وجود الأيثر ثبوتا علميا يبقى الهيكل الأيثري الروحاني فرضا معلقا لا يقر له قرار في فضاء الوهم والخيال، إذ لا أدلة على وجوده مع الجسد بتاتا، ما هو إلا خيال شعري جميل في مخيلة الروحانيين. (1-5) تطور الروح
ننظر إلى نظرية أيثرية الروح نظرة أخرى من ناحية التطور. أصبحت نظرية التطور الدرويني حقيقة راهنة عند العلماء، حتى إن اللاهوتيين سلموا بها، وقالوا إنها سنة طبيعية من جملة السنن التي سنها الله لخليقته.
فإذا كان للإنسان روح تتمثل بهيكل أيثري متداخل في جسده، ففي أي دور من أدوار تطور الحياة شرع ذلك الهيكل الأيثري يتكون مع الجسم المادي؟ فعندنا الإنسان النندرثالي كان قبل الإنسان الآدمي، وكان قبله ستة أصناف أناس متفاوتون في التطور، وقبل الإناس السبعة في سلم التطور كان أشباه الإنسان - الغورلا والشمبانزي ... إلخ، وكان قبل هؤلاء القرود على اختلاف أنواعها، وكان قبلها غيرها حيوانات تدرجت في سلم التطور من الميكروب فما بعد كما يعلم ذلك جيدا دارس البيولوجيا؛ ففي أية درجة من درجات التطور ابتدأ وجود الروح؟ أو ذلك الهيكل الأيثري؟
وإذا عينا الدرجة التي ابتدأت عندها الروح فيجب أن نحدد الفاصل بين الدرجتين ونقدم تفسيرا بيولوجيا لكل من الدرجتين، وفي تدرج الأحياء في سلم التطور لم يوجد أي فاصل ظاهر بين درجة ودرجة؛ لأن التطور ليس توثبا بينا، بل هو شبه استمرار.
أما الظاهرات «الشبه عقلية» أو «الشبه عصبية» فتبتدئ منذ أول درجة من درجات الحياة. فجرثومة الأميبا مثلا إذا صدمت ذرة رمل انكمشت عنها، ولكن إذا صدمت جرثومة «داي أتوم»
Diatom
مدت منها نواة تقبض عليها وتغلفها وتهضمها، فهنا شبه إحساس أو شعور، والدودة التي تعيش في بطن الطين إذا انكشف عنها التراب تململت لوقوع أشعة الشمس عليها، وكلما ترقيت في ملاحظة الأحياء وجدت الشعور أقوى حتى يكاد يظهر في الحيوانات العليا كأنه عقل بسيط. فهل تصح نسبة الهيكل الأيثري لجميع هذه الأحياء؟ هل للدودة والقرد والغورلا أرواح كالإنسان؟
وإذا حددنا الطور الذي ابتدأ فيه الجسد الإنساني أو «الشبه إنساني» يندغم فيه ذلك الهيكل الأيثري الروحاني، فهل كان هذا الهيكل يتطور بتطور الجسم الحيوي البيولوجي؟ أو أنه جاء لأول وهلة هيكلا روحانيا تاما، يتحمل المسئولية الأدبية والدينية، ويتقلد الحرية ويتصرف بأعماله وأفعاله مختارا؟ أو أن أدبيته تتطور بتطور العقل؛ أي بتطور الدماغ ووظائفه العقلية؟ (1-6) مادية الأيثر
بقي نظر آخر في المسألة، وهو أن الأيثر الذي فرضه العلماء لتعليل الظاهرات العلمية، إن ثبت وجوده كان ضربا من المادة يختلف عن عناصرها بدقة ذراته، وقد اعتبر بعض العلماء الأيثر نفس الفوتون الذي ينحل إليه الكهيرب - إلكترون - حين اصطدامه بالكهرب - البروتون - وصدور القوة منهما لمعة شعاع، ويقول السير «تجايمس تجينز»: إن الكهرب ينحل إلى عشرة آلاف فوتون، وليس للفوتون شحنة كهربائية، وهو آخر ما تنحل إليه دقائق المادة.
فإذا صح الظن أن الأيثر هو فوتونات فيكون هذا الأيثر مادة، والروحانيون يقولون إن الروح شيء غير مادي، وإذن فالروح أو الهيكل الأيثري جسم مادي لطيف جدا، والمادة تشغل حيزا في المكان وتتحرك في الزمكان - أي: المكان الزمان.
وإذا كانت تلك الهياكل الروحانية مؤلفة من هذا الأيثر فلا بد أن تشغل حيزا أي مكانا في الفضاء الأيثري، فهل تبقى فيه أجساما هيكلية سابحة في الفضاء، أو أنها تنحل فيه إلى فوتونات تمتزج مع فوتونات الأوقيانوس الفوتوني كما يمتزج ماء النهر بالبحر؟ وإن بقيت هياكل كما تكونت فما الذي يوطد قوامها ويحفظها من الانحلال إلى الأبد؟
وإذا تمادينا في تصور هذه الهياكل الأيثرية الروحانية بدت لنا أسئلة عديدة عن وجودها وخلودها وتمتعها، إلى غير ذلك مما يحار الفكر فيه.
وأغرب ما تعجز المخيلة عن تصوره هو علاقة ذلك الهيكل الأيثري الروحاني بالجسد المادي العنصري الكيماوي، وأغرب من هذا أيضا التفاعل بين الهيكلين من غير أن يحسه الإنسان أو يشعر به، وأغرب من هذا وذاك اتصال الدماغ الإنساني بالهيكل الروحاني المجرد عن المادة؛ أي: بعد موت الجسد من غير اعتبار للزمان والمكان عن يد وسيط يستحضر ذلك الهيكل ولو كان يبعد عنه ملايين الفراسخ النورانية؛ أي لو اتفق أن كان ذلك الهيكل الروحاني في الطرف الآخر من الكون.
فمهما كان لدماغ الوسيط من قوة الاتصال اللاسلكي - على مبدأ الراديو مثلا - فلا يمكن أن يكون أسرع من الإشعاع الكهرطيسي - كالنور - فكيف يمكن أن يتصل بهيكل الشخص الذي يبتغي الاتصال به على بعد المسافة السحيقة التي يعجز العقل عن تصورها؟ •••
وخاتمة القول: إننا لا نستطيع أن نسلم بلا برهان بوجود هيكل روحاني سواء أكان إيثرا ماديا أو غير مادي، بحيث إن هذا الهيكل يؤثر في الدماغ والدماغ يؤثر فيه، ويتفاعلان، وهما من طبيعتين مختلفتين كل الاختلاف، ولا سيما إذا صح أن الهيكل الروحاني غير مادي.
ما دمنا لا نحس بالروح كما نحس بالجسد والحياة والعقل وكما نحس بالكهرباء والمغنطيسية، أيضا فلا نستطيع أن نسلم بصحة فرض الروح. نريد برهانا إن تعذر الشعور.
يقول بعض المناقشين بهذا الموضوع: إذا كنت لا تحس ولا تشعر ولا تجد برهانا فلا تستطيع أن تنكر؛ لأنك لم تحط علما بكل شيء، فما تجهله لا تستطيع أن تنكره.
فهل منطق أسخف من هذا المنطق؟
أجل، لا يحق لي أن أنكر ما أجهله، اللهم إن كان ثمت أشخاص آخرون يعلمونه، وهل يحق لك أن تفرض ما تجهله أنت؟ فهل يستطيع هؤلاء المناقشون أن ينبئونا ماذا علموا وماذا فهموا، وكيف علموا وكيف فهموا، لكي نفهم نحن أيضا؟
أليس غريبا أن تطلب مني أن أعتقد بالمجهول كأنه شيء موجود وأنت نفسك أشد جهلا به مني؟
إذن تستطيع أن تفرض ألوف الفروض وتعطي لكل مفروض اسما، ثم تفرض علي الاعتقاد بوجودها من غير أن تحدد ماهيتها على الأقل. هل تستطيع؟ وتبرهن لي هذه الماهية.
هذا منطق أسخف من السخافة.
إذا كنت لا تفهم سر هذا المجهول فكيف علمت بوجوده؟
تحاول أن تثبت لي وجود الروح وخلودها، فأرجو أن تفهمني أولا ما هي الروح لكي أعلم ماذا تريد أن تثبت، وإلا فكأنك تريد أن تثبت لي وجود الأحرف الثلاثة - ر. و. ح - وهي لا تحتاج إلى إثبات. هي موجودة بين الحروف الأبجدية ... ا.ه.
والنتيجة: أنه لا يوجد شيء وراء الوجود المادي سوى الفراغ اللامتناهي - العدم. •••
بقي بحث في موضوع الخلق نكف عنه رحمة بالعقول السقيمة.
نامعلوم صفحہ