وبضع دقائق تقضى في فناء قصر بلوا مثلا تكفي لمشاهدة نموذج ممتع عن تأثير تلك الرجعة في فن البناء، فمن ناحية من الفناء يرى جناح لويس الثاني عشر العجيب، وفي الجانب الأمامي يرى المقدم اليوناني اللاتيني لغستون الأورلياني، ولأي سبب؟ ذلك لأن دراسة المباني اللاتينية القديمة كانت قد أوجبت عد الفن القوطي القديم من عمل البرابرة، ولو سمح الزمن لغستون الأرلياني لأقدم - كما قيل - على هدم جميع الجناح الذي يعد من روائع الفن الفرنسي.
وتقدم الآثار الفنية لنا شهادات صادقة عن جميع الموضوعات التي تنطوي على دراسة إحدى الحضارات، ويمكن أن يقال، على العموم، إنها تنم على ما ظهرت في زمنه من الأفكار والمعتقدات والرغبات، حتى الأزياء، ويشتمل جميع البدائع الفنية من نحت وألواح وأوسمة، إلخ، على لغة جلية أيضا، فالمتفننون يؤلفون على شكل منظور بين احتياجات الزمن الذي يعيشون فيه ومشاعره ومعتقداته.
ومن آثارهم نعلم أيضا كيف تتطور الفنون وكيف تحول الأمم، على عجل، ما يلوح أنها اعتنقته منها لتتمثلها وفق مزاجها النفسي، ولا تلبث نسخ آثار الفن الأجنبية أن تكسب شكلا قوميا، فما كان المتفنن الهندوسي ليقدر مثلا على استنساخ أثر أوربي من غير تحويله، ويعرف الإيطاليون جيدا فن القوط الذي كانوا ينتفعون في الوقت المناسب بعناصره المهمة الثلاثة، وهي: الحنية المكسورة، والقبة المضلعة، والقوس المنطقة، ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا قط أن يقيموا في إيطالية بناء قوطيا حقيقيا مذكرا بكنائسنا الجليلة ولو من بعيد، وقد كان هذا عندهم فنا مستعارا خاليا من كل صبغة قومية، وما انفكت كنائس تسكانة الجميلة - ولا سيما كنائس فلورنسة - تحافظ على رسم الكنائس اللاتينية القديمة، ولا تجد في أكثر مباني إيطالية قوطية - أي: في مباني سيان - من القوطية غير الحنية المكسورة في الأروقة. أجل، جاء في الكتب أن كنيسة منرفا في رومة نموذج للفن القوطي، غير أن منظرها العام لا يمت إلى القرون الوسطى بصلة، وكل ما في الأمر هو أن بعض العناصر القوطية قرن فيها بعناصر أخرى فقط.
وإذا ما أقيمت مبان من قبل متفننين لا ينتسبون إلى الأمة التي تئويهم، عانى هؤلاء المتفننون عن ضرورة تأثير البيئة التي نقلوا إليها. ومما لوحظ بحق كون كثير من مباني بروج القوطية من صنع الأجانب، بيد أن روح المدينة اشتملت على هؤلاء الأجانب، فاقتبسوا الروح البروجية في بروج، ولم يصنع الإيطاليون الذين شادوا بيعا في روسية كنائس إيطالية، بل أقاموا كنائس على الطراز البزنطي الذي كان - ولا يزال - طراز روسية، هذا البلد الذي بلغ من البربرية ما لم يبدع معه طرازا قوميا في الحقيقة.
والواقع أن المتفنن يعاني طابع بيئته تماما، وهذا ما تقوم عليه قيمة أثره التاريخية، وهو يبلغ من إشباعه بذلك ما تبصر معه جميع مظاهر الزمن الفنية، مشتملة بلا استثناء على طابع الفضيلة التي يمكن أن تؤرخ بها. •••
ودراسة الكتابات تجهز المؤرخين أحيانا بوثائق نافعة لهم كدراسة المباني، ومن ذلك أن كلمات قليلة منقوشة على حجر دمياط (؟) الشهير أعانت شنبليون على اكتشاف معنى الخط الهيروغليفي. فقد كانت الكتابة الهيروغليفية منسية تماما، مع أنه كان يتكلم باللغة مدة خمسة آلاف سنة أو ستة آلاف سنة.
وهكذا أيضا ساعد فك كتابات أشوكا الشهيرة القريبة من أوائل التاريخ النصراني على كون حضارة الهند، التي كان يعزى إليها قدم أسطوري، من أحدث حضارات التاريخ.
وكذلك الأوسمة مفيدة كالمباني والكتابات للكشف عن حياة دور ما، فإذا ما اقتصر مثلا على قراءة الكتب الكثيرة التي نشرت عن إحدى وقائع تاريخنا البالغة الخصب من حيث النتائج، أي: مذبحة السان بارتلمي، ظفر على حسب ديانة المؤلف بمعارف متناقضة جدا حول الوجه الذي نظر به إلى هذا الحادث من قبل معاصريه، وعلى العكس حصل على معارف قاطعة عنه بدراسة الأوسمة الثلاثة التي نشرنا صورة لها في أول هذا الكتاب، فقد ضرب اثنان منها بأمر من ملك فرنسة، وضرب الثالث بأمر من البابا تبجيلا للمذبحة، وما نقش على هذه الأوسمة من كتابات لا يدع شكا حول مشاعر صانعيها، وتكمل المعارف التي ظفر بها على هذا الوجه بدراسة الصور الفوتغرافية المأخوذة عن الصور التي لا تزال ظاهرة في الفاتيكان، والتي حمل البابا على رسمها من قبل فيزاري، عرضا لجزئيات مقاتل الهغنوت في أثناء مذبحة السان بارتلمي. وهكذا تؤدي ثلاثة أوسمة وبعض الصور إلى استقصاء مسألة من أهم مسائل التاريخ. •••
وليست دراسة الفنون من خلال الحضارات جزءا من التربية الكلاسية، ومع ذلك فإنها تنطوي على معرفة تاريخية من الطراز الأول كما يرى بما تقدم.
وإذا وضعت أمام عيون الطلبة صور عن المباني التي أقامتها أمم حائزة لدين واحد ولغة واحدة، ولكن مع الإقامة ببلدان مختلفة، كالمسلمين في الأندلس ومصر والهند، أطلعهم الأستاذ على ما اعتور فن البناء من تحويلات سريعة بفعل مختلف العروق، وهو لكي يثبت أن هذه التحولات لا تنشأ عن فروق بين البقاع يدل على تأثير العرق بدلالته على كون طرز البناء في البلد عينه - كالهند مثلا - قد اختلفت إلى الغاية بين ولاية وولاية في قرون كثيرة من العهد الإسلامي، وذلك عن تباين العروق التي أبدعت هذه المباني.
نامعلوم صفحہ