وهنا نقول بأن النتائج المستبطنة التي تترتب على مقررات أرسطوطاليس، تختلف تماما عن ظاهر مذهبه، وهي في جوهرها عريقة في الهيدونية، مفضية بطبعها إلى التسليم بأن «اللذة والألم» مبدأ تصدر عنه أفعال النفس المختلفة، وأن هذه الأفعال في مجموعها ما نسميه بالأخلاق، وفي تفصيلها ما نسميه السلوك.
ولقد غلب على أرسطوطاليس حب الترفع عن ذكر أسماء الفلاسفة الذين تلقح مذهبه بمذهبهم فقال: «ولهذا استطاعوا أن يحددوا الفضائل بأنها حالات النفس التي هي فيها خالية من التأثر وفي راحة تامة.»
ولعلك تسأل: من هم أولئك الذين استطاعوا؟ إن القورينيين لم يقولوا بهذا، ولكن قاله الأبيقوريون، أنسباؤهم في المذهب، ونظراؤهم في الهيدونية.
والذي يخيل إلي أن أرسطوطاليس قد توسع في التعبير لأكثر مما يحتمل المذهبان اللذان يضعهما نصب عينيه في كلامه هذا، فإن كلا من أرسطبس وأبيقور لم يتكلم في الفضيلة إلا على أنها «الخير» الذي ينشده الإنسان في الحياة، فقال أرسطبس: إن اللذة خير مهما كانت، وعرف «أخير» صورها بأنها «حركة لطيفة»، لا إلى الإفراط ولا إلى التفريط، أما الإفراط عنده فلذة جامحة يعقبها من الألم ما يرجح اللذة، وأما التفريط فحالة سلبية، وهذه الحالة السلبية هي التي يفضلها أبيقور، فقال: إنها لا تطلب اللذة الجامحة، ولا تطلب الحركة اللطيفة، وإنما تطلب التحرر من الألم.
فهل لنا بعد ذلك أن نقول: إن أرسطوطاليس قد خلط بين مذهب أرسطبس ومذهب أبيقور؟ هل لنا أن نقول: إنه لم يميز بينهما تمييزا صحيحا؟ الأرجح عندي أن أرسطوطاليس كان يقذف بكل هؤلاء في أتون واحد، ويحمي عليهم من وقود فكره، ولكن ناره كانت تضعف بعض الأحيان، فيبرز من خلال اللهب وجه أرسطبس مرة، ووجه أبيقور أخرى فيقرآه السلام.
فصلنا حتى الآن خمس مسائل، من إحدى عشرة مسألة، شرح بها أرسطوطاليس رأيه في اللذة والألم على أن الشروح التي مضينا فيها حتى الآن كافية لأن تجعل فهم المسائل الست الباقية ونقدها سهلا على من يفهم ما تكلمنا فيه فهما صحيحا، ولهذا أكتفي بأن أنقل المسائل الست الباقية لتكون مرجعا للباحث، إذا ما أراد أن يطبق شيئا من نقدنا السابق عليها، قال أرسطوطاليس في الباب الذي ذكرناه قبلا: (6) «يجب حينئذ أن يقرر مبدئيا أن الفضيلة هي ما يصرف أمرنا تلقاء الآلام واللذات، بحيث يكون سلوكنا أحسن ما يكون، والرذيلة هي على التحقيق ضد ذلك.» (7)
هاك ملاحظة تفهمنا بأجلى من ذلك أيضا، جميع البحوث المتقدمة، توجد ثلاثة أشياء تطلب وتوجد ثلاثة تجتنب، فالمطلوبات هي: الخير والنافع والملائم، والمجتنبات أضدادها الثلاثة: الشر والضار وغير الملائم، وتلقاء جميع هذه الأشياء يعرف الرجل الفاضل أن يسلك سلوكا حسنا، ويتبع الطريق المستقيم، والشرير لا يرتكب فيها إلا خطايا، ويرتكب منها على الخصوص ما يتعلق باللذة؛ لأن هي بديا إحساس عام لجميع الكائنات الحية، وفوق ذلك فإنها توجد على أثر جميع الأفعال المتروكة لإيثارنا واختيارنا الحر، ما دام أن الخير نفسه والمنفعة، يمكن أن يكونا كاسيين ظاهرا من اللذة.
6 (8)
نضيف إلى هذا أنه منذ طفوليتنا الأولى، منذ تلك السن التي فيها لا نكاد نرت، قد غذيت اللذة بوجه ما وشبت معنا، قد يكون حينئذ صعبا جدا أن نتخلص من وجدان تأصل في حياتنا وتلون بجميع ألوانها، وفي حين أن اللذة والألم في اعتبار الأشخاص هما قاعدة تنظم سلوكهم تماما، كثيرا أو قليلا.» (9) «هذا هو ما يجعل ضروريا جدا أن هذه الدراسة التي تلي، يجب أن تحمل على هذين الإحساسين، فليس شيئا صغيرا فيما يتعلق بأفعالنا أن يعلم المرء كيف يحسن أو يسيء التلذذ أو التألم».
7 (10) «تنبيه آخر، إن قهر اللذة هو أيضا أصعب من قهر الغضب، كما يقول هيرقليطس؛ إذن الغنى والفضيلة يؤثر تطبيقها دائما على ما هو الأصعب، ما دام أنه في الأمور التي هي أصعب، يكون جزاء الخير جزاء أوفى، وهذا نفسه سبب آخر في أن الفضيلة والسياسة يجب أن تعنى كلتاهما بدرس اللذات والآلام؛ لأن هذا الذي يحسن استعمال هذين الإحساسين يكون خيرا، والشرير هو الذي يسيء استعمالهما.» (11) «على هذا إذن قد أثبتنا أن الفضيلة لا تشتغل في الحقيقة إلا باللذات والآلام، وأنها تنمو بالأسباب التي تولدها، وأنها تفسد بتلك الأسباب عينها متى تغير اتجاهها، وأنها تفعل وتتمرن على هذه الإحساسات التي منها تولدت، تلك هي المبادئ التي وصفناها آنفا.»
نامعلوم صفحہ