ولأجل أن نضرب مثلا على ما يعني بهذه القاعدة، نذكر كلمة دالمبير المأثورة «إن حب الذات إذا استنار أصبح المصدر الذي تنبع منه تضحية الذات»، أو نذكر تعريف هولباك الذي استعاره من لبنتز في الفضيلة، بأنها «فن إسعاد الذات بالعمل على إسعاد الغير.»
هنالك وجه ثالث في هذا البحث نقع به على حقيقة وسطى تربط بين الذاتية والغيرية، ويكفي فيه أن نرجع إلى الكلام في بعض الحقائق السيكولوجية (النفسية)، فهنالك حالات عديدة استطاعت فيها العادة وتداعي الأفكار
Association of Ideas
أن تحورا ما كان في أصله وسيلة لأشياء أخرى، وتحولاه إلى غاية مطلوبة لذاتها، خذ لذلك مثلا الرجل البخيل الكانز، فإن جمع المال لذاته ولمجرد جمعه واكتنازه يصبح عنده غاية، بعد أن كان في أصله وسيلة لجلب الطيبات والمتعة به، وكذلك الرجل المدمن فإن الشرب عنده يصبح غاية مطلوبة لذاتها بعد أن كان وسيلة لجلب السرور، وهو يستمر يشرب حتى بعد أن يعجز الشرب عن أن يمده بأي باعث من بواعث السرور، والمشاعر الاجتماعية لا تخرج في طبيعتها عن هذا، فإن هذه المشاعر مؤصلة في الأنانية وقائمة عليها، وهي تستمد قوتها من المدح والذم، ومن الثواب والعقاب، ومن انتظار الفكرة الطيبة، ومن حسن اعتقاد الغير في حسن نيتنا، ومن اشتراك المصالح، وهذه المشاعر تكتسب بالتدريج قوة تتمكن بها من أن تتحول عن أصلها الذي نشأت عنه، ومن ثم تؤثر في النفس تأثيرا مستقلا تمام الاستقلال عن أصلها الأناني.
وقد نقع على آثار تدلنا على أن الوجهين الثاني والثالث من أوجه العلاقة الهيدونية (إسعاد الذات) وبين الأخلاق الاجتماعية (إسعاد الغير) قد تناوبا التأثير في أخلاقيات أبيقور وفي أخلاقيات القورينيين من قبله، ولا يسعنا إلا أن نذكر الباحث بما سبق لنا الكلام فيه عند شرح مذهب أنقريز الأخلاقي، وأن نضيف إلى ذلك قولا ننقله عن هذا الفيلسوف أطلقه على المذهب القوريني في مجموعه، ولم يخص به ناحية بعينها منه فقال: «إن سعادة أوطاننا ورفاهيتها واعتبارها مساوية لسعادتنا؛ كافية وحدها لأن تغمرنا بالابتهاج.»
تأصيل مشاعر الغيرية ومذهب پافلوف
ما من شك في أن الفيلسوف أنقريز قد بلغ بالمذهب القوريني أسمى المراتب عمليا ونظريا؛ فإنه من حيث النظر قد بلغ من تصور التضحية بالذات إلى ذروة ما يبلغ التصور من الكمال المستطاع، ومن الوجهة العملية وضع للمذهب قاعدة ثابتة لم يعرف ما لها من أثر إلا ببحوث پافلوف الاختبارية، كما عرفناها نظريا من كتابات هرتلي، فإن قول أنقريز: «إن مشاعر الغيرية مهما كانت مصادرها وأصولها تحرز - تدرجا - قوة مستقلة خاصة بها، وإن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة، حتى ولو لم تتزن من اللذة، يدل على أن هذا الفيلسوف قد نفذ ببصيرته الوقادة إلى أعماق لم يبلغها أحد قبله من الذين حاولوا وضع نظريات الأخلاق موضع التطبيق العملي، على أن هذا الأثر الذي خلفه أنقريز لم نقف على ما له من نتائج عملية إلا في عصرنا هذا» - خيل إلى المشتغلين بالبحث العلمي عندما طغت المادية العلمية على فروع المعرفة الإنسانية في أواخر القرن الثامن عشر بطوله؛ أن الفلسفة قد انقضى عهدها وبادت، فلم تصبح أكثر من أحاديث تذكر عن الماضي، وآدابا قديمة يقصد بالوقوف عليها تنمية الإطلاع وتوسيع دائرة المعارف؛ أي إنها أضحت وسيلة إلى أغراض ثانوية، وإنها لم تصبح أداة للتأثير في الحياة الإنسانية من طريق عملي.
وكان هذا ولا شك طغيانا وإفراطا في تقدير ما للعلم العملي من قيمة، فلما أشرف القرن التاسع عشر على الختام نامت عاصفة العلم وهبط طغيان العلماء؛ إذ بان للناس أن للعلم حدا يقف عنده، بان لهم أن وظيفة العلم تنحصر في وصف الظاهرات الطبيعية وآثارها وعلاقة بعضها ببعض، وأنه بعيد عن أن يفسر «الماهيات» أو يتناول كثيرا من الأشياء الإنسانية بتجاريبه، وبين جدران معامله، أو في ثنايا قواريره وأنابيبه، بل ظهر لهم أن العلم خدم الفلسفة بقدر ما خدمت الفلسفة العلم، ولكن ما أعطت الفلسفة للعلم، كان أضعاف ما أعطى العلم الفلسفة، وما تطبيقات پافلوف إلا مثلا رائعا يبين لنا وجوه الارتباط بين الطرفين. •••
كان الفيلسوف «لوك
Locke » الإنجليزي أول من أشار إلى ظاهرة تداعي الأفكار
نامعلوم صفحہ