فلسفة كارل بوبر
فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم
اصناف
ويرى برنار أن عماد البحث العلمي شقان هما التجريب والفرض؛ لذلك هاجم الذين عابوا استخدام الفروض والأفكار السابق تصورها أثناء البحث العلمي، وأوضح أنهم خلطوا بين ابتداع التجربة وبين تسجيل نتائجها. «وصحيح أنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهن خلا من الفروض وتجرد من الأفكار السابق تصورها، لكن واجب المجرب في الوقت نفسه أن يحذر العدول عن استخدام الفروض والأفكار، حين يكون الأمر خاصا بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة، وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان، ذلك أن الفكرة هي أصل كل استدلال واختراع، وإليها يرجع الفضل في البدء، ولا يجوز للمرء وأدها أو استبعادها بحجة أنها قد تضر، وكل ما يقتضيه الأمر هو تنظيمها وإخضاعها لمقياس.»
33
وإن الفروض، وحتى ولو كانت فاسدة، تفيد في اهتدائنا إلى الاكتشافات، وينطبق هذا الحكم على جميع العلوم؛ فقد أسس كيمائيو العصور الوسطى علم الكمياء بمحاولتهم لحل مسائل وهمية متعلقة بالسيمياء؛ أي تحويل المعادن الأخرى إلى ذهب؛ لذلك لا يمكن إطلاقا الاستغناء عن الفروض، وإن فائدتها ترجع إلى أنها تجعلنا نتجاوز حدود الواقع ونسير بالعلم إلى الأمام، فليس من شأن الفروض أن تسمح لنا بالقيام بتجارب جديدة فحسب، بل كثيرا ما تجعلنا نكتشف وقائع جديدة لا يمكن لنا أن نلحظها بدونها، وقد يكون الفرض مستنبطا منطقيا من نظرية ما، غير أن هذا الاستنباط لا يخرج عن كونه فرضا يجب التحقق من صحته بواسطة التجربة، فالنظريات في هذه الحالة لا تخرج عن كونها وقائع سابقة يستند إليها الفرض، لكنها لا تغني عن التحقق التجريبي.
أي إن برنارد هنا يعني أن الاتساق المنطقي لا يغني عن وقائع التجريب.
وعلى أساس كل هذه الأهمية للفرض، يفرق كلود برنار تفريقا حاسما قاطعا بين الملاحظة والتجربة، وبين العلوم القائمة على الملاحظة، والعلوم القائمة على التجربة، بين الطب القائم على الملاحظة - أي على محض تراكم وقائع الخبرة - وبين الطب التجريبي الذي يطمح في معرفة قوانين الجسم السليم والمريض؛ بحيث لا نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل ونتمكن أيضا من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة، كل هذا الفارق بين الملاحظة والتجربة يعود إلى الفرض.
إذن فقد صحح برنار خطأ بيكون الكبير في إغفال أهمية الفرض، وصحح خطأ أكبر حين رفض النظرة البيكونية إلى العالم المجرب على أنه طفل يجلس بين يدي الطبيعة، يتعلم منها ما تمليه عليه؛ إذ يقول برنار: إن العالم المجرب هو - من وجهة ما - قاض يحقق مع الطبيعة، وإن كان لا يواجه أفرادا يضللونه بالشهادات الكاذبة، بل يتناول ظواهر طبيعية هي بالنسبة له بمثابة أشخاص يجهل لغتهم وطباعهم، يعيشون وسط ظروف يجهلها، ويريد من ذلك أن يعرف أغراضهم ومراميهم، وهو يستخدم من أجل ذلك كل ما يستطيعه من حيل.
34
ويبدو عمق تفكير برنار في دعواه الملحة بضرورة اعتبار الظواهر الحيوية تماما مثل الظواهر الفيزيائية الكيميائية، نخضعها لنفس المنهج؛ أي التجريب؛ بغية تحقيق نفس الهدف؛ أي اكتشاف العلل القريبة؛ فالمنهج التجريبي ومبادئ البحث والتفكير واحدة في ظواهر الأجسام الجامدة، وظواهر الأجسام الحية على السواء. وقد تبدو هذه الدعوة مألوفة بل ومسلم بها الآن، غير أنها لم تكن هكذا أيام برنار، بل كانت الغلبة لفريق الحيويين، الذين يرون وجود قوة حيوية في الأجسام الحية لا تنفك تصارع القوى الفيزيوكيمائية، وإلا فكيف يحتفظ الحيوان بحرارته في الجو البارد مثلا، وكان كوفييه هو أبرز الحيويين المناهضين لبرنار، وكان تبعا لهذا يرى أن الفسيولوجي فقط علم ملاحظة واستنتاج تشريحي، ويقول: إن جميع أجزاء الجسم الحي مرتبطة وهي لا تعمل إلا متضامنة معا، والرغبة في فصل جزء من أجزاء الجسم معناها إرجاعه إلى نظام المادة الميتة، أي تغيير جوهره تغييرا كليا.
35
برنار بالطبع يؤكد الترابط المتسلسل في وظائف الجسم الحي، لكنه يرى أن هذا الترابط ذاته يمكن دراسته بالمنهج التجريبي كمادة محضة.
نامعلوم صفحہ