نقول: فإذا كان أبو الوليد قد عني بالزنادقة هؤلاء الذين لا يحترمون الفضائل الدينية وينصبون أنفسهم مثالا رديئا للناس وغرضهم إبطال الشرائع والفضائل كما كان غرض «الحشاشين» الذين كانوا بمنزلة الطوائف الفوضوية في هذا الزمان؛ فإن له شيئا من العذر في ما قاله. ولا ريب أنه يكون قد قال ما قاله من صميم قلبه لأن أفعالا كهذه الأفعال تهدم ما تبنيه الفلسفة، وتسد السبيل في وجهها، إذ تنفر العقول منها، ولكن إذا كان أبو الوليد أطلق اسم «الزنادقة» على الباحثين بالعقل والمتطرفين في هذا البحث أكثر منه دون أن ينشأ عنهم ضرر بالفضائل فليس له عذر غير عذر الاتقاء والاحتماء.
والحاصل من كل ما تقدم في هذا الموضوع أن الباحث في فلسفة ابن رشد بحثا عميقا دقيقا يستخرج منها في هذه المسألة نتيجتين متناقضتين - كما تقدم - واحدة سلبية وواحدة إيجابية. وفي هذا القدر كفاية.
ولكن قبل ختام هذا الفصل لا نرى بدا من نشر حكاية صغيرة مختصة بهذا الموضوع، وقد رواها جمال الدين في كتابه (تاريخ الفلاسفة) وعنه نقلها أبو الفرج. ومنها يظهر رأي أحد تلامذة ابن رشد في الموضوع الذي نحن في صدده. وهذا التلميذ هو يوسف بن يهوذا الطبيب الإسرائيلي الذي كان تلميذا لابن رشد وموسى ميمون الفيلسوف المشهور. وقد تقدم أن ميمون هذا هو أكبر دعاة فلسفة ابن رشد بعد وفاته. وقد كتب إليه تلميذه ابن يهوذا المذكور كتابا يدل على ما كان لابن رشد من الشهرة لدى يهود أسبانيا حتى في حياته. وهذه هي خلاصة هذا الكتاب: «لقد أعجبتني أمس ابنتك «الثريا» الجميلة فخطبتها مخلصا بحسب الشريعة المعطاة لنا على جبل سيناء . ثم تزوجتها بثلاثة طرق : الأول إنني أمهرتها ذهب الصداقة. والثاني أنني كتبت لها ميثاق حب؛ لأنني مولع بها. والثالث بضمها إلى صدري كما يضم الفتى الفتاة العذراء. ثم أنني بعد الحصول عليها بهذه الأمور الثلاثة دعوتها إلى فراش الزواج والحب، ولم أستعمل لذلك لا اللطف ولا العنف. فمنحتني حبها؛ لأنني كنت قد منحتها حبي ومزجت نفسي بنفسها. وقد حدث ذلك كله أمام شاهدين مشهورين وهما الصديقان ابن عبيد الله (أي موسى ميمون) وابن رشد، ولكن هذه الزوجة لم تستقر في فراش الزواج تحت سلطتي حتى أخذت تشرد مني وتطلب عشاقا غيري».
انتهى كتاب ابن يهوذا. وهو يعني بهذه الفتاة «الفلسفة» التي تلقنها من أستاذيه ابن رشد وموسى المذكور. والظاهر أنه لم يبرع فيها، ولم يكن على اتفاق معها حتى قال أنها أخذت تشرد منه.
فابن يهوذا هذا روى عنه جمال الدين مؤلف كتاب (تاريخ الفلسفة) ما يلي. قال: «كنت صديقا حميما لابن يهوذا. ففي ذات يوم قلت له إذا كان حقا أن النفس تحيا بعد مفارقة الجسد وتبقى قادرة على معرفة الأشياء الخارجية؛ فعدني وعدا صادقا أنك إذا توفيت قبلي تأتي وتخبرني بما هنالك، لأعدك بأنني إذا مت قبلك أفعل - أيضا - ذلك. فأجابني إلى هذا السؤال وتواعدنا على هذا الأمر. ثم إنه توفي ومرت بضع سنوات دون أن يظهر لي، ولكنني في ذات ليلة رأيته في الحلم فقلت له: أيها الطبيب. أما وعدتني بأن تأتي بعد الموت وتطلعني على ما جرى لك. فضحك وأدار عني وجهه. فقبضت عليه حينئذ من يده وقلت له: «لا أتركك حتى تخبرني كيف يكون الإنسان بعد الموت». فأجابني: إن العام عاد إلى العام والخاص دخل في الخاص. ففهمت حينئذ كلامه الذي معناه أن النفس التي هي جوهر عام قد عادت إلى الجوهر العام. والجسد الذي هو عنصر خاص قد عاد إلى الأرض مستقر العنصر الخاص. ثم انتبهت وأنا أعجب برشاقة جوابه.
الفقرة (6) فلسفته الأدبية
مما هو جدير بالذكر أن العرب لم يهتموا بمؤلفات اليونان الأدبية اهتمامهم بمؤلفاتهم الفلسفية والمنطقية والطبيعية. ولعل السبب في ذلك أن مؤلفاتهم الأدبية كانت مخصوصة بهم. مثال ذلك الإلياذة والأوديسة وخطب ذيموستينوس وغيرها. فإن هذه الكتب الأدبية البديعة لا ذكر فيها إلا للمسائل اليونانية الخصوصية التي قلما يهتم بها باقي الناس سوى طلاب البلاغة، ولكن العرب الذين نبغ في لغتهم من عرفنا من الشعراء والخطباء في الجاهلية وبعدها معذورون إذا لم يقتدوا بالإفرنج في طلب البلاغة من المؤلفات اليونانية.
ومع ذلك؛ فإننا نأسف أسفا شديدا لهذا النقص، لأنه لو أقبل العرب يومئذ على مؤلفات اليونان الأدبية إقبالهم على غيرها من مؤلفاتهم، لأضافوا خزائن البلاغة اليونانية إلى خزائن البلاغة العربية.
وقد تقدم في الفقرة السادسة أن فلسفة ابن رشد الأدبية لم تشغل سوى حيز صغير بإزاء فلسفته الطبيعية. وقد كان الخلاف بينه وبين المتكلمين في الفلسفة الأدبية شبيها بالخلاف بينه وبينهم في فلسفته الطبيعية. وسيرد معنا في الباب الثالث عند الكلام على مسألة «الأسباب» أن هذه المسألة هي النقطة التي تدور عليها كل المسائل الفلسفية والدينية بين ابن رشد ومناظريه. فإن مناظري ابن رشد من المتكلمين كانوا يقولون إن الله يصنع الخير؛ لأنه يشاء صنعه. وهو يشاء صنعه لا لسبب داخلي لازم وسابق لإرادته؛ بل عبارة عن إرادة مطلقة غير مقيدة بسنن ونواميس. ولذلك قال لهم ابن رشد في شرحه كتاب أفلاطون في الجمهورية أن مذهبا كمذهبهم ينقض كل مبادئ العدل والحق، ويهدم كل قواعد الدين التي يقولون إنهم يدافعون عنها. وأما حرية الإنسان؛ فهو يقول فيها ما خلاصته: «إن الإنسان غير مطلق الحرية تماما ولا مقيدها تماما، وذلك أنه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيدا بها لما لها من التأثير على أعماله». وهو يقول: إن هذا هو السر في أن القرآن يجعل الإنسان تارة مختارا وتارة مقيدا. وهذا المذهب وسط بين الجبرية والقدرية. وقد شرحه أبو الوليد في كتاب له في إظهار طرق العقائد الدينية. وقال في كتابه في الطبيعيات إنه كما أن المادة الأولى التي صنع العالم منها كانت قابلة لكل الانفعالات التي تحدث فيها بصور مختلفة متقابلة، كذلك نفس الإنسان قابلة لهذه الانفعالات المتقابلة المختلفة، ولها المقدرة على اختيار بعضها دون بعض.
رأيه في السياسة وفي النساء - أما فلسفة ابن رشد السياسية فهي مبنية على فلسفة أفلاطون وقد بسطها في شرحه «جمهورية» هذا الفيلسوف. وخلاصتها أنه يجب إلقاء زمام الأحكام إلى الشيوخ والفلاسفة ليديروها بقسط وعدل. ويجب حث الناس على الفضائل بتعليمهم البيان والعلوم التي تثقف العقل. أما الشعر وخصوصا الشعر العربي؛ فإنه مضر. ولعله رأى أن الشعر العربي مضر لما يكون فيه أحيانا من الغزل الذي يجر إلى التهتك ورغبته في إفناء روح الجاهلية. ومما يقال في هذا المقام أن أبا الوليد كان لا يكره الشعر العربي في حد ذاته، لأنه كان يحفظ شعر حبيب والمتنبي ويكثر التمثيل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد «كما قال ابن العبار، ولكن طبيعته لم تكن شعرية. أي أن العقل كان فيه أقوى من القلب، ولذلك كان تحمسه نادرا خلافا للإمام الغزالي. وهذا أمر ظاهر في كتاباته كل الظهور؛ فإنك تراها ثابتة ثقيلة الخطى كأن ألفاظها جبال تتدحرج بعضها وراء بعض بلا وثبة ولا حركة شديدة خلافا لكتابات الغزالي التي يخيل لك أنها مكتوبة بقلم من نار، ولكنك في مقابل ذلك تجد في كتابات أبي الوليد ذلك العقل الرزين المقنع الثابت الجأش الذي يلبث في تلك الجبال المتدحرجة روحا حية تتضوع منها ريح النزاهة والاعتدال.
نامعلوم صفحہ