3 . فبالعلم يقف الإنسان على كل شيء، ويصير عارفا كالباري بكل شيء. فطريق الاتصال بالله إذن وطريق السعادة في هذه الحياة إنما هو العلم والدرس. وما غرض الحياة في هذه الدنيا سوى تغليب الفكر والعقل على الحواس والأهواء والشهوات. ومتى استطاع الإنسان هذا الأمر الصعب؛ فقد أدرك السعادة والجنة في هذه الأرض أيا كان مذهبه ودينه، ولكن هذه السعادة لا يدركها إلا أعاظم الرجال. وهم يدركونها في الشيخوخة بواسطة رياضة العقل والنفس والاكتفاء بما يسد الحاجة أي ترك الفضلات وعدم الافتقار إلى الضروري. وكثيرون منهم لا يدركونها إلا عند وفاتهم وهم على فراش الموت. ذلك لأن هذا الكمال النفساني مناقض للكمال الجسدي. وقد كان أبو نصر الفارابي ينتظر مجيء هذه الساعة في آخر عمره، وإذا لم تأت قال عنها وهو على فراش الموت أنها حديث خرافة، ولكن ما كل الناس مستعدون لقبولها، ولذلك لا يدركها إلا المختارون.»
هذه هي خلاصة فلسفة ابن رشد في المسألة الأولى من مسألتي الاتصال.
وأما المتصوفة؛ فإنهم يقولون: «إن تلك السعادة إنما تدرك بالصلاة والتأمل والتجرد من الجسد لا بالعلم». وعندهم طرق وشرائط لإفناء الإنسان ذاتيته، توصلا إلى الفناء بالله وحينئذ يجوز له أن يقول: أنا الله. وقد قال أحد مؤلفيهم ما خلاصته: «لا تذهب لتسأل ابن سينا عن هذا الحب الإلهي؛ فإنه لا يعرف شيئا من أصول هذا الفن، بل عليك أن تنبذ كل الكتب الفلسفية إذا كان أفلاطون الحقيقي (يعني الله) يدرس في مدرستك». ومما يجب ذكره في هذا المقام أن هذه المبادئ هي في الأصل فارسية وهندية لا إسلامية، وقد ذكرناها هنا لعلاقتها بفلسفة ابن رشد.
أما مسألة الاتصال بالثانية فهي أهم من المسألة الأولى.
ومدار هذه المسألة على هذا الأمر. هل الإنسان يستطيع معرفة العقول والأجرام المفارقة له؛ أي البعيدة عنه في أقاصي الفضاء السماوي
4
وهو ما سماه ابن رشد (اتصال الإنسان بالعقل المفارق)، وقد كتب كتابا في هذا الموضوع وتحت هذا العنوان. ومن رأيه أن العقل المنفعل أي الإنسان يستطيع ذلك لسببين: الأول؛ أن العقول والأجرام البعيدة لم يوجدها الباري إلا وأوجد عقولا تدركها وتعرفها، إذ من المحال أن يخلق الباري معقولا دون أن يوجد عقلا يعقله. والسبب الثاني؛ أن القول بأن العقل لا يعقل الأجرام المفارقة له، إنما قول يحط من قدر العقل البشري ويجعله أدنى من الحواس؛ لأن للحواس محسوسات تحس بها، وما كان للحواس يجب أن يكون للعقل؛ لأنه أرقى منها. ومن ذلك يظهر أن غرض الفيلسوف من هذا الرأي صيانة كرامة العقل ورفع تهمة العجز عنه. وهو رأي ينطبق على لباب فلسفته ومؤيد لها. ولعل هذا المذهب قريب مما ذكره برناردين دي سان بيير في كتابه (الكوخ الهندي) عن علاقة الإنسان بالأجرام السماوية البعيدة؛ فقد قال بلسان الرجل الخارجي ما نصه: «وكنت ألبث ساعات متجها نحو المشرق وعيناي تتأملان في النجوم والكواكب العديدة الطالعة منه. ومع أنني كنت أجهل مصير هذه الأجرام ومبدأها؛ فقد كنت أشعر بأنها مرتبطة بالإنسان، وأحس بأن الطبيعة التي خلقت لنفع البشر بأشياء كثيرة لا تقع تحت نظرهم، يجب أن تكون قد أناطت لهم على الأقل تلك الأشياء التي تحت نظرهم. فكانت نفسي لدى هذه التأملات ترتفع إلى العلا مع الكواكب والنجوم» (الكوخ الهندي) الصفحة 61.
ومهما يكن من القول في مسألتي الاتصال اللتين تقدم ذكرهما، فمما لا ريب فيه أنهما خارجتان عن فلسفة أرسطو لا منها. نعم إن أرسطو وصف في الفصل التاسع من كتابه الأدب السعادة بالعقل في هذه الأرض، ولكنه عاد فقال: «ولكن حياة بالسعادة كهذه الحياة ربما كانت فوق احتمال الإنسانية؛ لأننا لا نجد هذه السعادة بما فينا من البشرية، بل بما فينا من الروح الإلهية» وبذلك راعى حدود الطبيعة البشرية مراعاة تامة.
هذا فيما يختص بالمسألة الأولى. أما رأي أرسطو في المسألة الثانية (أي اتصال العقل المفارق بالإنسان) فلا يعرف الباحثون منه إلا عبارة واحدة، وهي قول أرسطو بعدما تقدم: «وسنبحث في فرصة أخرى إذا كان العقل البشري يستطيع أن يعقل الأشياء البعيدة عنه مع ما بينهما من المسافة أو لا يستطيع ذلك». هذا كل ما كتبه أرسطو في هذا الموضوع، إذ لم يعثر الفلاسفة المعاصرون على قول آخر له فيه. فالظاهر أن ابن رشد أراد أن يتولى إنجاز الوعد من أستاذه أرسطو فوضع رأيه الذي بسطناه في هذه المادة. فكان شأن هذه العبارة التي بنى عليها ابن رشد مذهبه في اتصال الإنسان بالعقل المفارق، شأن العبارة التي بنى عليها فلاسفة العرب مذهبهم في العقول، مما سنفصله في الباب الثالث.
الفقرة (5) الخلود
نامعلوم صفحہ