69

فلسفة العلم

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

اصناف

فماذا عن هذا؟ ماذا عن ميراث فلسفة العلم الذي تلقاه القرن العشرون؟

الفصل الثالث

فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)

أولا: حوار الفلسفة والعلم الحديث

رأينا كم كانت روح العلم الحديث دافقة متوثبة. وكما هو معروف بين الفلسفة والعلم علاقة وثقى وحوار عميق، بطول الحضارة الإنسانية وعرضها . وكانت الفلسفة قديما هي الأم الرءوم التي تطوي جناحيها على سائر العلوم، فتعد امتدادا لها، وكانت نشأة فروع العلم الحديث واحدا إثر الآخر - التي تتبعنا معالمها في الفصل السابق - بمثابة انفصال واستقلال تام لهذه العلوم عن الفلسفة، فشهد العصر الحديث العلم والفلسفة كتيارين متمايزين.

ومع هذا لا شك أن الروح الدافقة للعلم الحديث الذي استقل وتنامى وتصاعد وتعاظم أمره قد انعكست في كل خلجة من خلجات الفلسفة الحديثة المواكبة زمانيا للعلم الحديث، من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. وحتى التيارات اللاعقلانية في الفلسفة الحديثة، الصوفية والروحية والحدسية والرومانتيكية إلى الوجودية التي بدأت مع سرن كيركجور

S. Kierkegaard (1813-1855م) ... هذه التيارات المناهضة لروح العلم لا تفهم حق الفهم إلا كرد فعل لعملقة الروح العلمية وصرامة حتميتها التي تهدد فردانية الإنسان وحريته.

بيد أننا معنيون بالتيارات الفلسفية التي عملت على استقطاب روح العلم وبلورتها فانعكست فيها مثالياته وطبائعه وشرائعه، على الإجمال منهجه. والفلسفة بحكم طبيعتها كانت بالضرورة سباقة إلى هذا الاستقطاب لروح العلم الحديث وعصر العلم، وقد رأينا إلى أي حد أفلح فرنسيس بيكون في هذا، حتى عد إماما لتيار العلم الحديث. وكانت الروح العلمية كما بلورها بيكون هي الاستقراء: المنهج التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة، الطبيعة هي مملكة المعرفة الإنسانية، ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل، ولو حتى بفرض يحاول تفسير الوقائع. روح العلم يجب أن تحرر العقل من جنوحات الميتافيزيقا مثلما تحرره من الأوثان والأخطاء المتربصة به، هكذا علمنا الرائد فرنسيس بيكون أن روح العلم ترتكز على معاملين؛ هما التجريبية ورفض الميتافيزيقا.

وبفعل عوامل عديدة، تهيأت إنجلترا - أكثر من سواها - لتمثل هذه التجريبية والانتصار لها؛ فقد كانت إنجلترا جزرا ملقاة على هامش العالم القديم، فلا تضاهي الأمم العريقة في القارة الأوروبية، ذوات التراث الزاخر كإيطاليا وفرنسا مثلا. وباكتشاف الأمريكتين أصبحت الجزر البريطانية فجأة في المركز بين العالمين القديم والجديد. هكذا بدأ العصر الحديث - عصر العلم - بوضع مركزي مستجد لإنجلترا، فانطلقت بلا تراث يثقلها نحو استكشاف العالم الجديد والخبرة التجريبية المباشرة به، والمحصلة أن فرض أسطولها هيمنته على بحار الأرضين، بعد أن علا شأنه حتى على الإرمادا أسطول إسبانيا العظيم. وأفل العصر الحديث مع نهايات القرن التاسع عشر وقد أصبحت إنجلترا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فلا ينفصل هذا عن أن يرفع بيكون الإنجليزي في البداية لواء التجريبية، وينتصف العصر ونيوتن الإنجليزي يزهو بأن نسق العلوم التجريبية الإخبارية قد اكتمل على يديه.

وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الميتافيزيقا حتى ارتبطت هذه النزعة ارتباطا خاصا بروح الفلسفة الإنجليزية، وقد بلغت ذروتها وأكثر صورها شعبية وشيوعا في إنجلترا إبان القرن السابع عشر مع جون لوك

نامعلوم صفحہ