صحيح.
لكن ألم يمثل الوحي الإسلامي بسرعة غير مسبوقة دائرة حضارية استوعبت كل هذا لتتمثل مرحلة شكلت كل المسار التاريخي اللاحق للأنا؟!
ثم كانت لغوية الحدث القرآني، ونحن الأمة الوحيدة التي لا تزال تتحدث بلغة تراثها القديم وكتابها المقدس، وكما تثبت الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليست اللغة قالبا أو وعاء يملأ بالفكر مثلما تملأ السلة بالفاكهة؛ اللغة لحمة في نسيج الفكر وخامة من خامات الوعي.
وقد مارس جلال الحدث القرآني نوعا غريبا - لعله غير مسبوق - من فقدان الذاكرة التاريخية، ترسخ بلغوية الحدث وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار تفاعلاتها السابقة الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثلت فيه قيمها ونواتج حضارتها. وبخلاف الأديان السماوية التي عد الإسلام ذاته امتدادا وتطويرا لها، نجد أن كل ما بقي في الوعي الجمعي من حاصل تاريخ ما قبل الوحي، إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وما يتوجب نقضه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار وإرم ذات العماد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. ولما تنامت حديثا البحوث التاريخية والأنثروبولوجية والأركيولوجية تجلت ذخائر أصول القوميات، أمكن استيعابها وتمثلها، ولكن في إطار ووعي كان قد استقر في إطار الظاهرة القرآنية.
لقد كانت استراتيجية الإسلام البارعة حقا هي اعتبار ذاته امتدادا للأديان الأخرى، هذا ما جعل الإسلام دائرة حضارية قادرة على استيعاب الدوائر الأخرى. وبمعية اللغة العربية سهل أن يغدو الإسلام صلب أصلاب القومية العربية، وهذا ما أكده الرواد المنظرون للقومية العربية ومعظمهم من مسيحيي الشام، إنهم يسلمون بأنهم مسيحيون لكن يعيشون في إطار هوية حدد الإسلام معالم لها، كان مكرم عبيد يقول دائما إنه مسيحي دينا ومسلم وطنا. وكما هو معروف يزخر الفكر العربي الحديث بالمشاريع العديدة التي تروم تنهيض وتنمية الواقع العربي اعتمادا على تجديد منطلقات الخطاب الديني. وشهد البحث عن المركزية الشرقية لتعارض المركزية الغربية. ويتحدث القبطي الأصيل أنور عبد الملك في «ريح الشرق» عن الدائرة الإسلامية من المغرب حتى الفلبين، ونلاحظ أنها دائرة الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي حين كانت تقود مسيرة التقدم الحضاري، وهي الآن - بعد أن سقطنا في قاع الهزائم والقهر والتخلف - هي الدائرة نفسها للشرق الأوسط الكبير.
هكذا كانت مشكلة الإسلام والغرب أنه ليس دينا وشريعة فحسب، بل إطار لهوية حضارية، وكان باستراتيجيته البارعة قادرا طوال تاريخه على استيعاب واحتواء دوائر حضارية أخرى. من هنا كانت العروبة هي أرومة الإسلام والإسلام هو صلب أصلاب العروبة.
وهذا ما يجعل القومية العربية مختلفة عن تصور القوميات الأوروبية في العصر الحديث والتي كانت دعامة قوية من دعامات تأكيد العلمانية وإقصاء الدين تماما عن السياسة والمجتمع المدني. والواقع أن الاختلاف بينهما جذري إلى أبعد الحدود، ويكفي الإشارة إلى أن القومية في الغرب باتت مفهوما رومانتيكيا مستهجنا ومتخلفا، وإذا أخذت مأخذ الجد باتت جريمة، وهذا طبيعي ما دام مفهوم القومية ليس في صالح الغرب والثقافة الغربية؛ إذ تعني اصطناع حدود سياسية، لتتصارع القومية الفرانكوفونية مع القومية الأنجلوسكسونية، وتنافسهما القومية الجرمانية، وتطل برأسها أصول الفايكنج والصرب، في خطر داهم على وحدة الثقافة والحضارة. أما القومية العربية فهي في الوضع المعاكس تماما، إنها معامل مكين لخلق وتأكيد وحدة حضارية ثقافية، ذات ماض عريق وحاضر مضطرم وباحثة عن مكان تحت الشمس، وتظل القومية العربية على الرغم من كل شيء وحدة ثقافية قائمة. أما أن المشروع السياسي لا يعكس هذا الواقع الثقافي أو المصالح الحضارية فتلك هي الأزمة.
وإذا نزعت الهجمات الاستعمارية والإمبريالية الغربية إلى تحجيم الإسلام والحضارة الإسلامية، فإنها تنزع إلى القضاء المبرم على القومية العربية. وإن بدا مشروع الشرق الأوسط الكبير يريد أن يعلن وفاة القومية العربية وانتهاء أمرها تحت وطأة التقدم الكاسح لمعايير ومصالح الغرب، التي هي معايير التقدم والفلاح والصلاح، فإن هذا - مرة أخرى - حلقة أخرى وليست أخيرة في سلسلة طويلة، لعلها تبدأ بالشرق الأوسط الصغير. •••
مع مطالع القرن العشرين تفككت الإمبراطورية العثمانية وانهارت الخلافة الإسلامية، وألح التفكير في الشكل المنتظر لهذه المنطقة من العالم، فظهر مشروع القومية العربية والعالم العربي، وفي الآن نفسه ظهر مشروع القومية الصهيونية ودولة إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد، وكان تاريخ القرن العشرين من زاوية ما هو تاريخ الصراع - الدامي أحيانا - بين هذين المشروعين.
وبصرف النظر عما يتبدى الآن من نجاح ساحق للمشروع الثاني على أنقاض المشروع الأول، بصرف النظر عن الانتصارات والانكسارات والإخفاقات السياسية، والصدام بين حاكم عربي وآخر أو نظام الحكم في هذه الدولة أو تلك، على الرغم من هذا نقول ما نقوله دائما، وهو أن ثمة واقع أنثروبولوجي أكيد نحياه جميعا شئنا أم أبينا، ما زلنا نحيا الجرح الواحد، وقد بات جرحين فلسطين والعراق، والهم الواحد والمعاناة الواحدة من إسرائيل، من طبع ومن لم يطبع ومن في سبيله إلى التطبيع؛ نتحدث اللغة الواحدة ونقرأ الكتاب الواحد ونشاهد الفيلم والمسلسل التلفزيوني الواحد، نعيش معا لهفة الأمومة ومنزلة الأخ الأكبر وقيم الحياء الجميل، قدسية ثوب الزفاف الأبيض وطقس السبوع والسبع آيات المنجيات، كرم الضيافة وعمق الاحتفال بالأعياد الدينية وشعائر الصلاة، تعلو أصوات المآذن والكنائس ونلتجئ إلى الله في بنية تعبيراتنا اللغوية القصدية والعفوية، نبحث معا عن الغزالي وابن رشد والمتنبي ومحمد عبده، أم كلثوم وفيروز وأشعار نزار قباني ومصرع السندريلا وأغاني كاظم الساهر وهل هو امتداد لعبد الحليم، نفخر معا برواد تحريرنا من الاستعمار البائد وترتعد فرائصنا من أهوال الاستعمار القادم. مع هذا وسواه يسير العالم في زمن العولمة نحو تكتلات شتى ولا مكان فيه للكيانات المتناثرة، بينما تجري الجهود على قدم وساق وعلى الأصعدة كافة من أجل اقتلاع وهم القومية العربية من الأذهان وهي التي تمثل وحدة حضارية وثقافية أعمق من كل تكتل آخر على خريطة العالم. •••
نامعلوم صفحہ