مقدمة
1 - الفجوة بين المعرفة والحكمة
2 - أصول الفلسفة القارية: من كانط إلى المثالية الألمانية
3 - النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
4 - هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
5 - ما الذي يجب عمله؟ كيفية التعامل مع العدمية
6 - دراسة حالة في سوء الفهم: هايدجر وكارناب
7 - العلموية في مقابل الظلامية: تجنب المأزق التقليدي في الفلسفة
8 - تجرأ على التفكير بنفسك: استنفاد النظرية ووعد الفلسفة
ملحق
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
مقدمة
1 - الفجوة بين المعرفة والحكمة
2 - أصول الفلسفة القارية: من كانط إلى المثالية الألمانية
3 - النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
4 - هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
5 - ما الذي يجب عمله؟ كيفية التعامل مع العدمية
6 - دراسة حالة في سوء الفهم: هايدجر وكارناب
7 - العلموية في مقابل الظلامية: تجنب المأزق التقليدي في الفلسفة
8 - تجرأ على التفكير بنفسك: استنفاد النظرية ووعد الفلسفة
ملحق
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الفلسفة القارية
الفلسفة القارية
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
سايمون كريتشلي
ترجمة
أحمد شكل
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
مقدمة
كانت الفلسفة الأكاديمية في إنجلترا لبعض الوقت مقصورة إلى حد كبير على المنطق ونظرية المعرفة، ويوجد اتجاه لقصر الفلسفة على هذا الفهم واعتبار ارتباطها التقليدي بالنظم الأخلاقية والفكرية العامة خطأ. كانت هذه عادة طاغية ولكنها كانت محلية للغاية.
ريموند ويليامز، «كلمات أساسية»
في الخامس من أكتوبر عام 1999، عندما ضغط على مارجريت تاتشر لتعبر عن رأيها حيال إمكانية إنشاء اتحاد أوروبي، قالت: «أتت جميع المشاكل التي صادفتها في حياتي من أوروبا القارية، وجاءت كل الحلول من العالم الناطق بالإنجليزية.» وعلى الرغم من البهتان الواضح في هذا التصريح، فإنه يعبر عن حقيقة عميقة؛ وهي أنه بالنسبة إلى كثير من سكان دول العالم الناطق بالإنجليزية - وفي الواقع، بالنسبة إلى بعض الذين يعيشون خارجه - يوجد اختلاف حقيقي بين عالمهم ومجتمعات أوروبا القارية ولغاتها ونظمها السياسية وتقاليدها وجغرافيتها. تتحدد السياسة البريطانية خصوصا - ولكن ليس بصفة حصرية بأي نحو فيما يتعلق بتيار اليمين السياسي - في سياق التمييز بين «المحبين» و«الكارهين» لأوروبا القارية؛ وهذا يعني أنه يوجد اختلاف ثقافي - يراه البعض انقساما، وربما حتى فجوة كبيرة - بين أوروبا القارية وكل ما يعارضها؛ ما أطلقت عليه البارونة تاتشر، بنبرة تذكرنا على نحو متعمد بونستون تشرشل، «العالم الناطق بالإنجليزية». وتعد الفلسفة القارية تعبيرا عن هذا الاختلاف الثقافي. ويسعى هذا الكتاب القصير إلى تفسير سبب حدوث ذلك، وسبب أهمية هذه الحقيقة، وما قد يترتب عليها حيال النشاط الفلسفي في الحاضر والمستقبل.
تعد مسألة ما إذا كانت الفلسفة القارية أحد فروع الفلسفة مكتملة الأركان أم لا مسألة خلافية، وإذا رأى المرء أنها كذلك، فإن من مواضع الخلاف أيضا ما إذا كان مصطلح «الفلسفة القارية» يصف هذا الفرع على أفضل نحو أم لا (بدلا - مثلا - من مصطلح «الفلسفة الأوروبية الحديثة»، الذي كثيرا ما يستخدم كبديل). دعنا نقل فقط إن الفلسفة القارية مفهوم مثير للجدل. وبوضع هذا في الاعتبار، فإن لهذا الكتاب ثلاثة أهداف؛ وهي: (1)
إظهار السبب في كون الفلسفة القارية مجالا خلافيا من خلال إلقاء نظرة على تاريخ ومعنى هذا المصطلح وكيفية تمييزه وتوضيحه من خلال ما يزعم أنه يعارضه، وهو الفلسفة التحليلية أو الأنجلو أمريكية. (2)
إظهار كيف أن مفهوم الفلسفة القارية يمكن أن يعرف، في الواقع، بوضوح ويتضمن مجموعة مميزة من التقاليد والممارسات الفلسفية التي تتناول مجموعة جذابة من المسائل التي عادة ما يتجاهلها أو يرفضها التقليد الأنجلو أمريكي. (3)
إظهار كيف يمكننا في المستقبل - على الرغم من هذا - التحدث عن الفلسفة بعيدا عن مثل هذه الخلافات الأكاديمية حول ما هو قاري أو تحليلي.
أبدأ باتخاذ مسار مختلف قليلا وتوضيح مشكلة أكبر تواجه الفلسفة المعاصرة؛ وهي: العلاقة بين الحكمة والمعرفة؛ إذ توجد فجوة في جانب كبير من الفلسفة بين المسائل النظرية الخاصة بكيفية معرفة المرء ما يعرفه، والمسائل الأكثر واقعية أو وجودية حيال ما قد يعنيه عيش حياة بشرية جيدة أو مرضية. لقد تخلى جانب كبير من الفلسفة عن مهمة محاولة دمج المعرفة والحكمة في رؤية شاملة واحدة. وسوف أحاول أن أبين كم الجاذبية الذي يكمن في الفلسفة القارية بسبب محاولتها سد أو تقليص هذه الفجوة بين المعرفة والحكمة (أو النظرية والتطبيق)؛ ومن ثم الإبقاء على بعض من صدى التعريف القديم للفلسفة بأنها حب الحكمة. ولكن، كما سنرى، فإنه في هذا العالم الذي يتشكل على نحو متزايد اعتمادا على عمليات العلوم الطبيعية، هذه الرؤية لا تخلو من مشاكل خاصة بها.
يمكن تقسيم الفصول التالية في ضوء تمييز فلسفي كلاسيكي آخر: التاريخي والمنهجي. يقدم الفصل الثاني طرقا تاريخية مختلفة للتمييز بين الفلسفة القارية والتحليلية، فأرجع بدايات الفلسفة القارية إلى استقبال أعمال إيمانويل كانط في أواخر القرن الثامن عشر، الذي يعد في نواح كثيرة الشخصية العظيمة الأخيرة المشتركة لدى التقليدين: القاري والتحليلي، وهو أيضا الذي أعلن بدء انفصال هذين المنهجين أحدهما عن الآخر، وسوف أتناول السبب في هذه الحالة من خلال مقارنة المنهجين مع منهج كانط. كما سأتناول أيضا ببعض التفصيل الجدل الذي نتج عن أعمال كانط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر، وبعد ذلك سأوضح كيف أن هذا الجدل حدد القضية الرئيسية للمثالية الألمانية لدى جيه جي فيشته وجي دابليو إف هيجل. وهذه القضية على نحو بسيط هي: هل يقوض نقد كانط للعقل في نهاية المطاف، على النقيض تماما من نيته المعلنة، أساس المعتقدات الأخلاقية والدينية؟ بعبارة أخرى، ألا يؤدي نقد العقل، الذي لا بد أن يكون نقدا لكل المعتقدات، إلى كابوس الشك التام والعدمية؟ سوف نتتبع الآثار الكبيرة لهذا الأمر في الفلسفة القارية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يبدأ الفصل الثالث بتناول بعض مشاكل التمييز بين الفلسفة القارية والتحليلية، قبل تناول بعض التمثيلات النمطية إلى حد ما - والمثيرة للاهتمام حقا - لذلك في الأدبيات الفلسفية. وبعد ذلك أناقش معنيين للفلسفة القارية؛ الأول: باعتبارها وصفا ذاتيا أكاديميا يستخدمه الفلاسفة، والثاني: باعتبارها سمة ثقافية ذات تاريخ معين يستخدمها عدد أكبر من الأشخاص، من بينهم مارجريت تاتشر. وأرى أن معظم العداء وسوء الفهم فيما يتعلق بالفلسفة القارية من قبل الفلاسفة التحليليين يكمن في حقيقة أن هذين المعنيين يتم الخلط بينهما على نحو غير مفيد، وأن الوصف الذاتي الأكاديمي يخفي السمة الثقافية بطرق ضارة في أغلب الأحيان. وبعد ذلك ألقي نظرة على التاريخ والسياق الثقافي للفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية، مقدما الأطروحة القائلة بأن الصراع بين التقليدين القاري والتحليلي يفهم على نحو أفضل في سياق نموذج سي بي سنو الشهير الخاص ب «الثقافتين»؛ بمعنى أن الحياة الثقافية في العالم الناطق بالإنجليزية تتسم بانقسام بين العلم من جانب، والأدب أو الفهم الإنساني على الجانب الآخر. بعبارة أخرى، الفلسفة القارية ليست شيئا أجنبيا يحدث «هناك»، بل هي تعبير عن عداء في جوهر شيء مثل «الإنجليزية». أركز على المثال التاريخي المفيد لجون ستيوارت مل في هذا الصدد وتأملاته الرئيسية حول الانقسام الثقافي الإنجليزي بين طرق التفكير التجريبية والتأملية، الذي يصل مداه في الصراع بين رومانسية صامويل تيلور كولريدج ونفعية جيرمي بنثام. وأتطرق في الختام إلى تعبيرات أخرى أكثر حداثة عن الصراع بين هاتين الثقافتين.
وأحاول في الفصل الرابع أن أبين ما هو مميز وجذاب في الفلسفة القارية على نحو منهجي أكثر؛ فبعد تقديم بعض الملاحظات حول كيف أن المرء يمكن أن يفسر اختلاف الممارسة بين الفلاسفة، أركز على مفهومي التقليد والتاريخ وإيضاح كيفية فهم هذين المصطلحين على نحو مثير للاهتمام لدى اثنين من الفلاسفة هما إدموند هوسرل ومارتن هايدجر. وأقترح نموذجا لوصف الممارسة الفلسفية في التقليد القاري، والذي يتمحور حول ثلاثة مصطلحات رئيسية؛ هي: «النقد» و«الممارسة» و«التحرر». يهدف هذا إلى إيضاح كيفية اهتمام جانب كبير من الفلسفة القارية بتقديم نقد للممارسات الاجتماعية للعالم المعاصر والسبب في ذلك؛ وهو النقد الذي يطمح لتحقيق هدف التحرر الفردي والمجتمعي.
بعد ذلك أعود إلى المفهوم الأساسي المتمثل في العدمية - أي انهيار أو انخفاض قيمة القيم السامية، مثل الإيمان بوجود إله أو خلود الروح - والذي تجد التفصيل المحدد له في أعمال فريدريك نيتشه، وأتناول السياق الروسي المثير للاهتمام لفهم نيتشه للعدمية. أحاول بعد ذلك إيضاح كيف يمكن لدراسة الأمراض الثقافية والفكرية التي أدت إلى تشخيص نيتشه للعدمية أن تتشعب بعده إلى حداثة رجعية وتقدمية، وكيف أن هذا يقود إلى الفهم المحدد للعلاقة بين الفلسفة والمجالات غير الفلسفية في التقليد القاري.
يتناول الفصل السادس دراسة حالة معينة. إذا كان هناك صراع واحد يجسد جوانب الخلاف بين الفلسفة القارية والتحليلية، فإنه ذلك الذي حدث في الفترة من أوائل ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها بين هايدجر ورودولف كارناب. وهذا الصراع هو أساسا صراع بين التصور العلمي للعالم الذي قدمه كارناب وحلقة فيينا، والتجربة الوجودية أو «التأويلية» للعالم عند هايدجر. ويمكن إرجاع الكثير من جوانب الخلاف الحديثة بين فلاسفة التقليدين التحليلي والقاري إلى المواجهة اللافتة للنظر بين هايدجر وكارناب؛ لذا فإن الأمر يستحق النظر في الأخطاء التي حدثت بالضبط.
في الفصل السابع، قمت بتوسيع مناقشة العلاقة بين التصورين العلمي والتأويلي للعالم عن طريق تناول مسألة «العلموية» في مقابل «الظلامية». إن حقيقة أن جانبا كبيرا من الفلسفة في التقليد القاري يمكن أن يقال إنه استجابة للشعور بالأزمة في العالم الحديث، ومحاولة لإنتاج وعي نقدي للحاضر بتوجه تحرري؛ تساعد إلى حد كبير في تحديد الفارق الأكثر بروزا وإثارة الذي يميزه عن جانب كبير من الفلسفة التحليلية؛ ألا وهو «مناهضة العلموية». يكمن نقد التقليد القاري للعلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن - وعلاوة على ذلك، لا «ينبغي» - أن يقدم نموذجا للمنهج الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا توفر للبشر السبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم العالم. يجد المرء هذا الاعتقاد معلنا عنه لدى مجموعة كبيرة من مفكري الفلسفة القارية، مثل هنري برجسون وهوسرل وهايدجر والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. هذا القلق حيال العلموية مشروع، ولكنه أيضا تعرض في العقود الأخيرة لخطر الانصهار في توجه مناهض للعلموية، هذا الخطر هو خطر «الظلامية». ومن وجهة نظري، القطبان اللذان يجب تجنبهما في الفلسفة هما العلموية والظلامية، ويعكسان ميولا ضارة داخل كل من الفلسفة التحليلية والقارية، وذلك كما أوضح الصراع بين كارناب وهايدجر على نحو بليغ. وأقترح كبديل لطرفي النقيض هذين «سبيلا ثالثا» بينهما.
وأختتم الكتاب ببعض التأملات حول ما أرى أنه وعد الفلسفة. التقسيمات الحالية في دراسة الفلسفة ناتجة عن وصف ذاتي أكاديمي معين غير مناسب ومذهبي (هل أنت فيلسوف متبع للتقليد التحليلي، أم التقليد ما بعد التحليلي، أم التقليد القاري، أم التقليد الأوروبي الحديث؟) إلى حد كبير، تعد الفلسفة التحليلية والقارية وصفين ذاتيين مذهبيين ناتجين عن إضفاء الطابع الأكاديمي على المجال؛ الأمر الذي في رأيي أدى إلى إضعاف الوظيفة النقدية للفلسفة والتهميش التدريجي لها في حياة الثقافة. ورأيي هو أن الفلسفة يجب أن تكون تعبيرا حيويا عن تلك الحياة.
ثمة ملحوظتان وكلمة شكر قبل أن نبدأ. كان هدفي تقليل الإشارات المرجعية لأقصى حد من أجل التركيز على نقل الأفكار الرئيسية بأكبر قدر ممكن من البساطة؛ وهذا يعني أنني في كثير من المواضع أقتبس أو أستعير حجج وأفكار فلاسفة آخرين، بل وأحيانا بعضا من أفكاري التي نشرتها من قبل. أرى أنه لا ضير في ذلك؛ إذ إن هذا الكتاب موجه للقارئ غير المتخصص المحب للاطلاع. وخصصت قسمي «المراجع» و«قراءات إضافية» في نهاية الكتاب لعرض المصادر التي اعتمدت عليها في تأليف الكتاب وتقديم بعض الاقتراحات بشأن الكتب التي يمكن للقراء الرجوع إليها لمعرفة المزيد عن الموضوعات المعروضة في هذا الكتاب.
لن تجد في هذا الكتاب استعراضا أو ملخصا لجميع المفكرين والتقاليد والحركات الفلسفية التي تشكل ما نعتقد أنه الفلسفة القارية؛ من ثم توجد فجوات كبيرة في تغطيتي لهذا الموضوع. إن مثل هذه الكتب الملخصة متوفرة بالفعل، وبعضها جيد للغاية، ولكن لم يكن في نيتي أن أضيف واحدا إلى قائمتها. بدلا من ذلك، هذا الكتاب عبارة عن تأمل مدعم بالأدلة لطبيعة الفلسفة في التقليد القاري، والأسلوب المستخدم فيه يشبه الأسلوب المستخدم في كتابة مقال، لا كتاب. بعبارة أخرى، ما يلي يمثل وجهة نظر ذاتية للأمور.
كتبت المسودة الأولى لهذا الكتاب بين مارس ومايو من عام 2000، عندما شرفت بالعمل كمحاضر زائر في الفلسفة في جامعة سيدني، ويعتمد النص النهائي للكتاب على الملاحظات التي كتبتها عن محاضراتي هناك. أذكر هذا بسبب الصدفة التالية : في اليوم الذي وصلت فيه إلى سيدني - 1 مارس 2000 - أعيد دمج قسمي الفلسفة «العامة» والفلسفة «التقليدية والحديثة» في جامعة سيدني في قسم واحد للفلسفة بعد 27 عاما من الانفصال. والآن، على الرغم من أن هذا الانفصال - الذي لم يكن يخلو من الحدة كما يبدو؛ الحدة التي لا بد من القول إنها لم تختف دون ترك أثر - ترجع أصوله إلى الخلافات السياسية التي نجمت أساسا عن مشاركة أستراليا في حرب فيتنام في أوائل سبعينيات القرن العشرين، فإنه كان ناتجا أيضا عن خلافات فكرية، أهمها العلاقة بين الفلسفة والسياسة، وخاصة الماركسية والنسوية. وعلى الرغم من أنه ليس من الدقة القول بأن فصل القسمين كان مبررا في سياق التقسيم التحليلي-القاري، فإن هذا الأخير كسا بالتأكيد هذا الفصل بجميع أنواع الطرق السيئة بنحو أو بآخر. وأود أن أشكر أصدقائي وزملائي، وبالطبع طلابي في جامعة سيدني لمساعدتي على إعادة النظر في هذا التقسيم. وأخيرا، لم يكن هذا الكتاب فكرتي، ولكن كان فكرة محررتي الرائعة في مطبعة جامعة أكسفورد: شيلي كوكس. أود أن أشكرها على امتلاكها لمثل هذه الأفكار الرائعة.
الفصل الأول
الفجوة بين المعرفة والحكمة
الفلسفة هي حب الحكمة؛ فإذا كنت تعتقد أنك تحب الحكمة، فإن الفلسفة هي المجال الذي يفترض أن تدرسه. ولكن ما هي الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة؟ بالنسبة إلى سقراط، وتقريبا كل الفلاسفة القدماء الذين جاءوا من بعده، الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة تتعلق بما قد يعني عيش حياة بشرية طيبة. وكان بديهيا في معظم الأفكار الفلسفية القديمة أن الحياة البشرية الطيبة تكون أيضا حياة سعيدة. وفي إطار هذا التصور - الذي يوجد تعبير واضح عنه لدى أرسطو، ولكنه يكون مفترضا من قبل المدارس الهلينستية اللاحقة مثل المدرسة الرواقية - فإن الفلسفة تسمح بتحقيق أعلى درجة من السعادة، وهي حياة التأمل الزاهد؛ ومن ثم فإن الفلسفة هي الحياة التأملية، الحياة التي توضع قيد الاختبار والفحص، ويصير الافتراض أن الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تعاش. فينبغي أن تشكل الفلسفة البشر، لا أن تعلمهم وتوجههم فحسب.
ولكن يجب ألا ننسى أنه على الرغم من أن الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، فإن الحياة التي لا تعاش لا تستحق التأمل، والفلسفة عند القدماء لم تنفصل عن التقلبات الفعلية التي تحدث في الحياة الاجتماعية اليومية. بل إن الفلسفة باعتبارها ممارسة تأملية لفحص ما يعتقد أنه حقيقة باسم الحقيقة هي شيء كان يحدث فيما سماه الإغريق «الدولة»؛ أي المجال العام للحياة السياسية. فكانت الفلسفة نشاطا «عمليا» بارزا، يختلف على نحو ملحوظ عن الشكل الاستقصائي النظري على نحو كبير الذي أصبحت عليه الفلسفة بداية من القرن السابع عشر.
شكل 1-1: جياسينتو براندي (1621-1691)، «رمزية الفلسفة».
في التصور القديم، الحكمة التي تعلمنا الفلسفة حبها هي السعي لتحقيق حياة طيبة، حياة تفكير وتأمل، ستكون بحكم تعريفها حياة سعيدة. والآن، وربما على نحو غريب، هذا هو النموذج الذي يعتقد معظم الأشخاص خارج مجال الفلسفة - أي خارج مجال الدراسة الأكاديمية للفلسفة - أن معظم الأشخاص داخل مجال الفلسفة يخضعون له، وهذا هو السبب في أنهم يفترضون على نحو طبيعي تماما أن المسألة الرئيسية في الفلسفة يجب أن تكون معنى الحياة. وبوضع هذه الفكرة في الاعتبار، تخيل المشهد التالي: تلتقي فيلسوفة أكاديمية شخصا غريبا في حفلة ويسألها: «ما عملك؟» تجيب بأنها فيلسوفة، ويتجرأ الغريب للحظة، ولافتقاده لأي شيء يقوله غير ذلك يسأل: «ما معنى الحياة إذن؟» عند هذه المرحلة، يحدث بعض الضحك العصبي مع محاولة قلقة من جانب الفيلسوفة إما لتغيير الموضوع بأسرع وقت ممكن، وإما للشرح بابتسامة خجلة أن الدراسة الأكاديمية للفلسفة لا تتعلق في الحقيقة بمثل هذه الأمور. والآن، وبقدر ما أجد هذا الموقف محرجا اجتماعيا، أعتقد أن الشخص الغريب لديه ما يبرر افتراضه تماما. بعبارة أخرى، إذا لم تعالج الفلسفة مسألة معنى الحياة - ليس بالضرورة أن تتوصل لكنهها، ولكن على الأقل تدرسها - فإنه يمكن القول إن الفلاسفة لا يقومون بعملهم على نحو صحيح.
في رأيي، المشكلة هنا لا تتعلق بالأشخاص خارج مجال الفلسفة أكثر من تعلقها بالأشخاص داخله؛ فلاسفتنا الأكاديميين. فبالنسبة إلى معظمنا، فكرة أن الفلسفة ربما تكون متعلقة بمسألة معنى الحياة أو تحقيق حياة بشرية طيبة وسعيدة تعد إلى حد ما مزحة؛ مزحة سخيفة بالتأكيد. فمثل هذه المسائل يدرسها مجال ما يسمى تجاوزا «علم النفس الشعبي». عموما، الفلسفة الأكاديمية سلمت عن طيب خاطر هذا المجال إلى هذا المد الكبير المتواصل الزيادة من الكتب التي تدور حول «العقل والجسد والروح»؛ تلك الرفوف من كتب العصر الجديد الزاهية الألوان التي تقبع على نحو محرج بالقرب من أقسام كتب الفلسفة المتواصلة التقلص في المكتبات الموجودة في الشوارع الرئيسية. لقد تخلت الفلسفة الأكاديمية إلى حد كبير عن هذه المعارك واختارت التقاعد المبكر.
إذن، بماذا تعنى الفلسفة بالنسبة إلى معظم الفلاسفة الأكاديميين، إذا لم تكن معنية بالحكمة؟ دعنا نقل إنها معنية ب «المعرفة». معرفة ماذا؟ في أوسع معانيها، يمكننا القول إن الفلسفة تعنى بمعرفة طبيعة الأشياء. ويبرز هنا المقابل اللاتيني لكلمة معرفة، وهو (علم)
scientia . ومسألة المعرفة - معرفة طبيعة الأشياء - مسألة علمية؛ فالعلوم - العلوم الطبيعية الحديثة - هي التي توفر لنا المعرفة الأفضل والأكثر موثوقية لماهية الأشياء. لماذا؟ لأن العلوم الطبيعية يمكن أن تقدم أدلة تجريبية على فرضياتها، فيمكن التأكد من صحة ادعاءاتها. فإذا قلت: «المسيح هو مخلص البشرية»، ولم أقدم أي دليل تجريبي، فإن قبولي لهذا الادعاء من عدمه مسألة تخص الإيمان كليا؛ ولكن إذا قلت إن مادة الماء تتكون في جميع الأوقات من جزأين من الهيدروجين وجزء من الأكسجين، فإنني أستطيع إثبات ذلك من خلال تجربة أقوم بها.
وكما ندرك جميعا تماما، نحن نعيش في عالم علمي؛ عالم يتوقع منا فيه تقديم أدلة تجريبية على ادعاءاتنا، وإلا فسترفض تلك الادعاءات على نحو مستحق؛ فالتصور العلمي للعالم، والذي يعود تاريخه إلى العقود الأولى من القرن السابع عشر في إنجلترا وفرنسا، يهيمن على الطريقة التي نرى بها الأشياء، وربما أهم من ذلك، أنه يهيمن على الطريقة التي «نتوقع» أن نرى بها الأشياء؛ فنحن نتوقع أن نرى الأشياء إلى حد ما مثل المتفرجين في مسرح حيث يمكننا فحصها نظريا؛ الكلمة الإغريقية التي تعني المتفرج في المسرح هي (نظرية)
theoros . وتقدم الأشياء ككائنات ترد تجريبيا وعلى نحو مباشر في شكل أحاسيس أو تمثيلات. ويمنحنا العلم معرفة بطبيعة هذه الأشياء، وبعد ذلك تسمى هذه الأشياء «حقائق».
في عالم يسيطر عليه العلم، ما الدور الذي يسنده الفيلسوف الأكاديمي للفلسفة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال جزئيا بالإشارة إلى الكلمة الإغريقية التي تعني معرفة وهي
episteme ؛ فتصبح الفلسفة إبستمولوجي؛ أي نظرية المعرفة. وهذا يعني أنها تهتم على نحو كبير بالمسائل المنطقية والمنهجية؛ مثل كيفية معرفتنا لما نعرفه، وكيفية التأكد أن هذه المعرفة صحيحة. تصبح الفلسفة استقصاء نظريا حول الظروف التي تكون فيها المعرفة العلمية ممكنة. وفي التصور العلمي للعالم، يتغير دور الفلسفة من كونها ملكة العلوم - كما كانت بالنسبة إلى أفلاطون - حيث كانت المعرفة النظرية تتوحد مع الحكمة العملية لتصبح بدلا من ذلك عاملا مساعدا للعلم - وفقا لرؤية جون لوك في بداية «مقال عن الفهم الإنساني» في عام 1689 - تتمثل مهمته في إزالة المخلفات التي تعترض طريق المعرفة والتقدم العلمي؛ فيصبح الفيلسوف عامل نظافة في صرح العلم العملاق.
إن مهنة عامل النظافة محترمة بما فيه الكفاية، ولكن ماذا عن مسألة الحكمة؟ المشكلة هنا هي أن العلم مذهل؛ إذ إنه يقدم لنا وصفا أفضل وأكثر صدقا للطريقة التي تكون عليها الأشياء، وهو ما يغرم الفلاسفة المعاصرون بتسميته «الأنطولوجيا الطبيعية». علاوة على ذلك، من خلال عمل قرينة العلم - التكنولوجيا - تغيرت حياتنا وتحسنت إلى حد لا يمكن تصوره مقارنة بشخص من العالم القديم، أو حتى مقارنة بأجدادنا. وبناء على ذلك، فالعلم ليس مذهلا فحسب، وإنما فعال أيضا. ولكن على الرغم من هذا - أو ربما بسبب هذا - لا تزال مسألة الحكمة تزعجنا؛ تزعجنا مثل زائدة دودية نعتقد أننا لم نعد بحاجة إليها.
والسؤال هو: هل التصور العلمي للعالم يجعلنا في غير حاجة إلى الوصول لكنه مسألة معنى الحياة؟ هل يتطلب جسد المعرفة استئصال الزائدة الدودية المتمثلة في الحكمة؟ من وجهة نظر متطرفة معينة، يتطلب الأمر ذلك، وربما يجادل بعض الفلاسفة بأن جميع المسائل يجب أن تكون إما قابلة لتحديدها من خلال الاستقصاء التجريبي، وإما يتم رفضها باعتبارها غير صحيحة. على هذا النحو، ربما يدعى أن مسألة معنى الحياة يمكن سبر غورها على نحو سببي أو تجريبي من خلال نظرية التطور الداروينية. وفي هذا الإطار، يمكن تفسير الحياة على أساس بعض الفرضيات السببية، مثل الانتقاء الطبيعي؛ أي إن الإدراك البشري ناتج عن نزعات تطورية، حتى إنه يوجد فرع من فروع الفلسفة يسمى «نظرية المعرفة التطورية» الذي يحاول أولا تحويل جميع المسائل الفلسفية إلى مسائل معرفية، ثم الادعاء بأن كل هذه المسائل يجب أن يكشف عنها بالرجوع للنزعات التطورية.
إنني أعتنق وجهة نظر أقل تطرفا حيال العلاقة بين المعرفة والحكمة، أو بين الاستقصاء العلمي وما يمكن أن نسميه الاستقصاء الإنساني. أنا لا أعتقد أن مسألة معنى الحياة يمكن إخضاعها للدراسة التجريبية؛ فهي ليست مجرد مسألة سببية؛ فكما أعتقد، توجد فجوة بين المعرفة والحكمة؛ وهي ليست فجوة تفسيرية يمكن سدها من خلال إنتاج نظرية أفضل وأكثر شمولا، وإنما فجوة «شعورية». فإذا كان يمكن حل كل المشاكل المعرفية تجريبيا من خلال الاستقصاء العلمي، فإننا قد نشعر أنه حتى لو حلت كل تلك المشاكل في صباح يوم رائع وجميل، فسيظل هذا على نحو ما غير ذي صلة بمسألة الحكمة؛ بمسألة معرفة ما الذي قد تتألف منه الحياة البشرية الطيبة بالضبط.
والمفارقة - وإنها لمفارقة مهمة خاصة بخبرات الحياة اليومية، التي سنعرض لها في الفصل الثاني في صورة مفارقة العدمية - هي أن التصور العلمي للعالم لا يسد الفجوة بين المعرفة والحكمة، ولكنه يجعلنا نشعر بها على نحو أكثر حدة. حتى إنني أراهن أن هذه المفارقة تكون في أقصى حدة لها في المجتمعات المتقدمة للغاية علميا وتكنولوجيا. ويبدو أن الفجوة بين المعرفة والحكمة في المجتمعات الغربية المتقدمة تتسع إلى حد الهوة السحيقة. وبهذا المعنى، فإن المسألة التأملية المتعلقة بمعنى الحياة تكون نتيجة للترف والثراء. ربما كانت هكذا دائما؛ فالفلسفة تظهر فقط عندما تتوافر ضرورات الحياة الأساسية، فكما قال برتولت بريخت: «الغذاء أولا، ثم الأخلاق.» وهذا صحيح على نحو كاف، ولكن الحقيقة الغريبة عن البشر هي أنهم عندما تعطيهم طعاما - ولو طعاما أكثر مما يمكنهم أكله - وعندما تغدق عليهم كل النعم الدنيوية، فإنهم سوف يبتكرون مآسي جديدة لأنفسهم، واضطرابات عصبية وأمراضا جديدة، وحتى «علوما» جديدة للتعامل مع تلك الاضطرابات والأمراض الجديدة؛ على سبيل المثال، التحليل النفسي أو العلاج النفسي أو العلاج بالروائح أو علم المنعكسات، أو ما شابه. وعندما يبدأ الشعور بقوة هذه المفارقة وجوديا، تعود المسألة المهملة الخاصة بمعنى الحياة بحماس حقيقي ومخيف: «يبدو لي أنني أمتلك كل ما أحتاج وأريد، ولكن ما هو الهدف من حياتي؟»
تعد هذه الحالة الغريبة - على الرغم من أنها شأن يومي - مصدرا مبررا للعديد من المحاولات غير المبررة، من وجهة نظري، لملء «فجوة المعنى» والتعامل مع مسألة معنى الحياة. ويمكن أن يتم ذلك بطرق عديدة: من خلال العودة إلى الدين التقليدي، أو من خلال ابتداع دين جديد، أو من خلال السلطوية السياسية، والتي غالبا ما يصاحبها العودة إلى الدين التقليدي في صورة مزيج قوي عنيف (على سبيل المثال، القومية الصربية)، أو من خلال أحد فروع الروحيات السبعة والخمسين المتوافرة حاليا لسد فجوة المعنى: التنجيم أو اليوجا أو الجلوس تحت حيز هرمي مع حمل بلورات أو العثور على الطفل الموجود في داخل الشخص، أو أيا ما يكون. وكما سنرى في نهاية هذا الكتاب الصغير، هذه أشكال مختلفة من «الظلامية»؛ بمعنى أنه إذا ما كان خطأ جانب كبير من الفلسفة المعاصرة هو الافتتان بالعلم - الأمر الذي يؤدي إلى العلموية - فإن الرفض الخاطئ بالقدر نفسه للعلم يؤدي إلى الظلامية. ويتمثل أحد ادعاءاتي الختامية في خطر وجود الظلامية في جانب كبير من الفلسفة القارية المعاصرة؛ إذن، إذا كان الخطر الذي تتعرض له الفلسفة المعاصرة هو العلموية، فإن انعكاسه المقابل هو الظلامية. وبكلمات جون ستيوارت مل: «أحد الاتجاهين يمكن أن يصنع من الرجال وحوشا، والآخر مجانين.»
ولكي ألخص قليلا، فإن الفلسفة القديمة تميزت - من بين أمور أخرى - بهوية تقوم على المعرفة والحكمة، أو على الأقل بمحاولة دمجهما معا؛ أي إن معرفة طبيعة الأشياء من شأنها أن تؤدي إلى الحكمة في تسيير المرء لحياته. والافتراض الذي يربط المعرفة والحكمة معا هو فكرة أن الكون على هذا النحو يعبر عن هدف إنساني؛ ومن ثم فإن معرفة الكون ستكون جزءا لا يتجزأ مما يعنيه أن يكون المرء إنسانا. وهذا هو ما يسمى «النظرة الغائية للكون»؛ حيث يمكن تفسير كل شيء طبيعي في ضوء ما أطلق عليه أرسطو سببه النهائي، هذا الهدف الذي من أجله يكون أي شيء على ما هو عليه. وأدت هذه النظرة إلى وحدة ملائمة بين النظرية والتطبيق، بين المعرفة والحكمة، بين التفسير السببي والفهم أو المعنى الوجودي؛ حيث يمكن على سبيل المثال أن ينظر إلى الكون على أنه كتاب حي كتبه الرب.
في العالم الحديث، ومن خلال التقدم الاستثنائي للعلوم من القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر، تصدعت هذه الوحدة. وكتب رينيه ديكارت بالفعل في عام 1641، في عمله «تأملات في الفلسفة الأولى» قائلا: «البحث المألوف عن الأسباب النهائية لا طائل منه مطلقا في الفيزياء.» لا يعبر الكون عن أي هدف إنساني؛ فهو يخضع ببساطة للقوانين الفيزيائية التي يمكننا أن نبذل قصارى جهدنا للتحقق منها، ولكنها غير مبالية بالسعي البشري؛ فالكون واسع وقاس ولا إنساني وآلي، وهذا هو السبب في كتابة بليز باسكال في وقت ظهور هذه النظرة المتحولة للعالم في أواخر خمسينيات القرن السابع عشر قوله: «الصمت الأبدي للفضاء اللامتناهي يملؤني بالخوف»؛ أي «معرفة» أن كون كوبرنيكوس وجاليليو المفتوح اللامتناهي دون معنى أو هدف نهائي تسبب خوفا كبيرا عندما يتحول المرء للتفكير في مسألة «الحكمة». وهذا أحد التعبيرات عن التجربة التاريخية والروحية التي تعرف باسم «التنوير»؛ إذ يترك ذلك لدينا فجوة تجريبية بين عوالم المعرفة والحكمة، والحقيقة والمعنى، والنظرية والممارسة، والتفسير السببي والفهم الوجودي. وكما عبر ماكس فيبر عن ذلك بعد حوالي قرنين ونصف القرن، فإن الثورة العلمية، في حقيقتها التي لا يمكن إنكارها، تسببت في «نزع السحر عن الطبيعة »؛ فلم تعد الطبيعة تعبيرا مرئيا ل «روح العالم» الذي يشارك فيه البشر أيضا، بل بدلا من ذلك، الطبيعة هي «مادة» موضوعية غير شخصية على نحو صرف، تحكمها القوانين، ويمكن تفسيرها سببيا، ولكن لا علاقة لها مطلقا بأهداف البشر.
إذا كان الأمر كذلك، فإن المشكلة بالنسبة إلينا - نحن المعاصرين - واضحة؛ ففي مواجهة نزع السحر عن العالم الذي أحدثته الثورة العلمية، فإننا نشعر بفجوة بين المعرفة والحكمة تتسبب في تجريد حياتنا من المعنى. والسؤال هو: هل تستطيع الطبيعة أو، في الواقع، الذوات البشرية أن تصبح مسحورة مرة أخرى بطريقة تقلل بل تزيل فجوة المعنى وتنتج تصورا معقولا للحياة الجيدة؟ تبدو هذه المعضلة غير قابلة للحل؛ فمن جهة، يبدو أن التكلفة الفلسفية للحقيقة العلمية هي العلموية، وفي هذه الحالة نصبح وحوشا. ومن جهة أخرى، يبدو أن رفض العلموية من خلال أنسنة جديدة للكون يؤدي إلى الظلامية، وفي هذه الحالة نصبح مجانين. ولا تتميز إحدى جهتي هذا البديل بجاذبية خاصة. وفي نهاية هذا الكتاب، سأحاول اقتراح حل وسط.
شكل 1-2: فريدريكو زوكاري (1540-1609)، «الحكمة».
ربما تتساءل: ولكن ما علاقة هذا بالفلسفة القارية؟ في رأيي أن ما يجب أن يتمحور حوله تفكير الفلسفة في الوقت الحاضر هو هذه المعضلة التي تهدد على أحد جانبيها بتحويلنا إلى وحوش، وعلى الجانب الآخر بتحويلنا إلى مجانين؛ وهذا يعني أن مسألة الحكمة، ومسألة معنى الحياة المرتبطة بها، ينبغي على الأقل أن تدخل في صلب الأنشطة الفلسفية، وألا تعامل بلا مبالاة أو بحرج أو حتى باحتقار. إن جاذبية الكثير مما يقع تحت مسمى الفلسفة القارية في رأيي تتمثل في أنه يحاول الجمع بين مسألتي العلم والحكمة، والحقيقة الفلسفية والمعنى الوجودي، أو على الأقل التقريب بينهما. والأمثلة على هذا وفيرة، سواء فكرنا في فلسفة هيجل حول صراع الإنسان حتى الموت من أجل الاعتراف به ككائن بشري له كرامة ومنزلة داخل الطبيعة باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من ارتقائه إلى المعرفة المطلقة؛ أو فلسفة نيتشه حول موت الرب والحاجة إلى إعادة تقييم القيم؛ أو فلسفة كارل ماركس حول اغتراب البشر في ظل ظروف الرأسمالية والحاجة إلى التحول الاجتماعي التحرري والعادل؛ أو فرويد حول الكبت اللاواعي النشط في الأحلام والنكات وزلات اللسان وما يكشفه ذلك عن اللاعقلانية الموجودة في قلب الحياة العقلية؛ أو هايدجر حول القلق، وعدم الاكتراث المميت بالحياة الاجتماعية الزائفة، والحاجة إلى وجود حقيقي؛ أو سارتر حول خداع الذات، والغثيان، والشغف غير المجدي - على الرغم من أنه ضروري - بحرية الإنسان؛ أو ألبير كامو بشأن مسألة الانتحار في الكون الذي أضحى عبثيا بسبب وفاة الرب؛ أو إيمانويل ليفيناس حول صدمة مسئولياتنا اللانهائية تجاه الآخرين. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية.
هذا يعني أن أهم عوامل جاذبية الفلسفة القارية هو أنها تبدو أقرب إلى قلب وتفاصيل الوجود الإنساني؛ فتبدو أكثر واقعية بالنسبة إلى دراما الحياة، والآمال والمخاوف البشرية، والعديد من مواقف السراء والضراء التي نتعرض لها. وبطبيعة الحال، هذا لا يعني أن هذه المخاوف غائبة تماما عن الفلسفة الأنجلو أمريكية أو التحليلية. على الرغم من أنه قد يكون من الإنصاف القول، من وجهة نظري، إن جزءا كبيرا من هذا النوع الأخير تهيمن عليه مسألة المعرفة، المتصورة علميا أو طبيعيا، على حساب مسألة الحكمة، فإن هذا لا يفسر شخصية مثل لودفيج فيتجنشتاين - على سبيل المثال - الذي يمكن أن يقال إن جاذبيته الهائلة باعتباره مفكرا تعتمد على طريقة جمعه بين الحقيقة الفلسفية وتصور معين للمعنى الوجودي، أو في الواقع، طريقة معينة للحياة. وهكذا ربما يقال إن الهدف الأساسي وراء أعمال فيتجنشتاين هو هدف علاجي وإرشادي؛ لذا دعنا نقل إن محاولة سد الفجوة بين المعرفة والحكمة ليست عاملا كافيا للتمييز بين الفلسفة التحليلية والقارية. وليست تلك هي المشكلة؛ فنقطتي الرئيسية هي أن محاولة سد هذه الفجوة يجب أن تكون أساسا ضروريا «لجميع» طرق التفلسف.
الفصل الثاني
أصول الفلسفة القارية: من كانط إلى المثالية الألمانية
تتمثل مهمة الفصول القليلة القادمة في تعريف الفلسفة القارية ثم إيضاح ما هو مميز وجاذب فيها، وأود أن أفعل هذا بطريقة ذات شقين: شق تاريخي وآخر منهجي. سوف يتناول الفصلان الثاني والثالث التطور التاريخي، بينما سأقدم في الفصل الرابع عرضا أكثر منهجية وجدلية للفلسفة القارية. كانت فكرة كتابة تاريخ الفلسفة بطريقة منهجية وجدلية وسيلة شائعة جدا للشروع في اتباع التقليد الفلسفي القاري منذ رائعة هيجل «فنومينولوجيا الروح»، ذاك الكتاب الذي ظهر في عام 1807 وجمع بين كلا النهجين. ويمكن للمرء أيضا أن يجد الأسلوب نفسه متبعا في أعمال أخرى أكثر معاصرة، مثل: كتاب يورجن هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (1968)، وكتاب فوكو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» (1961)، وكتاب دريدا «في علم الكتابة» (1967). وهذا الأسلوب أقل شيوعا بكثير في التقليد الفلسفي الأنجلو أمريكي. (1) هوسرل أم كانط؟ طريقتان لبدء الفلسفة القارية
اسمح لي أن أبدأ بتناول طريقتين مختلفتين لتمييز الفلسفة القارية عن الفلسفة التحليلية. يمكن للمرء أن يتصور كتابا حول الفلسفة القارية، يبدأ تاريخ هذا الموضوع في حوالي عام 1900 بنشر كتاب هوسرل «مباحث منطقية»، وهو ما يطلق عليه هايدجر العمل «الثوري»، الذي بدأ التقليد الذي يسمى الفنومينولوجيا. ويمتلك هذا النهج ميزة تذكير القراء بأن التقسيم المعاصر (أو في الواقع، الفجوة الواسعة) المتمثل في الفلسفة التحليلية والقارية، هو في جوهره تقسيم بين التقاليد المستوحاة من الفلسفة الثورية في المنطق واللغة لجوتلوب فريجه - مثل الأعمال المبكرة لفيتجنشتاين، والوضعية المنطقية لحلقة فيينا وفلسفة اللغة الأنجلو أمريكية - وبين تلك المستمدة من المواجهة النقدية مع فنومينولوجيا هوسرل، مثل الوجودية والتفكيكية. وكان يوجد تواصل كبير بين فريجه وهوسرل، وفي عام 1894 نشر فريجه مراجعة نقدية متعمقة لكتاب هوسرل الأول؛ «فلسفة علم الحساب» (1891)، أدت إلى تغير كبير في وجهات نظر هوسرل حيال العلاقة بين المنطق وعلم النفس؛ بمعنى أن المنطق لا يمكن - كما كان يعتقد هوسرل في البداية - أن يرد إلى علم النفس.
ما هي الفلسفة القارية؟
الفلسفة القارية هي اسم لفترة تمتد لمائتي سنة في تاريخ الفلسفة، تبدأ بنشر الفلسفة النقدية لكانط في ثمانينيات القرن الثامن عشر. وحفز ذلك ظهور الحركات الفلسفية الرئيسية التالية: (1) المثالية والرومانسية الألمانية وما تلاها (فيشته، وشيلينج، وهيجل، وشليجل ، ونوفاليس، وشلايرماخر، وشوبنهاور). (2) نقد الميتافيزيقا (أو ما وراء الطبيعة) و«سادة الشك» (فيورباخ، وماركس، ونيتشه، وفرويد، وبرجسون). (3) الفلسفة الوجودية والفنومينولوجيا الألمانية (هوسرل، وماكس شيلر، وكارل ياسبرس، وهايدجر). (4) الفنومينولوجيا، والهيجلية، واللاهيجلية الفرنسية (كوجيف، وسارتر، وميرلو-بونتي، وليفيناس، وباتاي، ودي بوفوار). (5) التأويلية (ديلتاي، وجادامير، وريكور). (6) الماركسية الغربية ومدرسة فرانكفورت (لوكاتش، وبنجامين، وهوركهايمر، وأدورنو، وماركوزه، وهابرماس). (7) البنيوية الفرنسية (ليفي-شتراوس، ولاكان، وألتوسير)، وما بعد البنيوية (فوكو، ودريدا، ودولوز)، وما بعد الحداثة (ليوتار، وبودريار)، والنسوية (إيريجاري، وكريستيفا).
بطبيعة الحال، الغريب بشأن هذين التقليدين المتباينين ظاهريا المتمثلين في الفلسفة التحليلية والفنومينولوجيا؛ هو أن كليهما له أصول مشتركة من وسط أوروبا في أعمال الفيلسوف برنارد بولزانو الذي كان يعيش في براغ، وفرانز برنتانو الذي كان أستاذا جامعيا في فيينا وأشار إلى أن سيجموند فرويد الشاب كان من بين طلابه. باختصار، ما أخذه فريجه وهوسرل من بولزانو هو فكرة أن الأفكار ليست خبرات عقلية ذاتية، ولكن لها محتوى موضوعي قادر على التحليل، في حين أن ما أخذاه من فرانز برنتانو هو أطروحة القصدية؛ وهي أن كل فكرة موجهة نحو أشياء في العالم وليست حبيسة خزانة في الوعي. غذت هاتان الفكرتان رفض الشكوكية والنسبوية، وما كان يسمى «النفسانية»؛ وهي وجهة النظر التي تطورت في ألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر، بأن جميع المسائل المنطقية والفلسفية يمكن ردها إلى آليات نفسية. وتمسك هوسرل بتفسير نفسي للمنطق والحساب حتى أقنعه فريجه بخلاف ذلك. وكان نقد النفسانية إلى جانب الرفض القاطع لأي محاولة لرد الفلسفة إلى العلم التجريبي، هما الأمرين اللذين يجمعان بين فلسفة اللغة لفريجه وفنومينولوجيا هوسرل. وهكذا، يتضح لنا أن الفلسفتين التحليلية والقارية لهما نفس الأصول التاريخية، وتنتميان لمصدر جغرافي مماثل في دول وسط أوروبا الناطقة بالألمانية، ولهما عدو فلسفي مشترك. والطريقة الوحيدة لإعادة التواصل بين الفلاسفة هي من خلال العودة إلى النقطة التاريخية والمفاهيمية التي تفرع عندها هذان التقليدان.
هذه هي استراتيجية مايكل دوميت في كتابه الكبير التأثير، المنشور في عام 1993 «أصول الفلسفة التحليلية». يروي دوميت تاريخ الفلسفة التحليلية بداية من فريجه فصاعدا، على أمل محمود بأن تقديم فهم أكثر وضوحا للماضي الفلسفي سيكون مقدمة لنوع من الفهم المتبادل بين الفلاسفة المعاصرين. ووصف دوميت الوضع الحالي بكلمات قاتمة ملائمة:
لا أقصد التظاهر بأن الفلسفة في التقليدين هي في الأساس نفسها؛ فمن الواضح أن هذا سيكون سخيفا. يمكننا إعادة تأسيس التواصل فقط من خلال العودة إلى نقطة التفرع؛ فلا فائدة الآن في الصياح من على جانبي هذه الهوة السحيقة. ومن الواضح أن الفلاسفة لن يصلوا لاتفاق أبدا. مع ذلك، إنه لأمر مؤسف إذا لم يعد باستطاعة بعضهم التحدث مع بعض أو فهم بعضهم بعضا؛ فمن الصعوبة تحقيق مثل هذا الفهم، لأنك إذا كنت تعتقد أن هناك أشخاصا يسيرون على الطريق الخطأ، فربما لن تمتلك أي رغبة في التحدث معهم أو خوض عناء انتقاد وجهات نظرهم. ولكننا وصلنا لمرحلة كما لو أننا نعمل على مواضيع مختلفة.
وعلى هذا النحو، فإن السياق الفلسفي المعاصر يتناقض على نحو سلبي للغاية مع السياق الفلسفي في بداية القرن العشرين. كتب دوميت:
كان فريجه مؤسس الفلسفة التحليلية، وكان هوسرل مؤسس المدرسة الفنومينولوجية؛ وهما حركتان فلسفيتان مختلفتان جذريا. في عام 1903 مثلا، كيف كانا سيبدوان لأي طالب فلسفة ألماني عرف أعمالهما؟ بالتأكيد، لن يبدوا مفكرين متعارضين بشدة؛ بل كانا سيظهران متقاربين في التوجه كثيرا، على الرغم من بعض الاختلاف في الاهتمامات.
ثم يمضي دوميت، على نحو مثير، في مقارنة فريجه وهوسرل بنهري الراين والدانوب، «اللذين ينبع أحدهما على مسافة قريبة جدا من الآخر، ويتبعان مسارين متوازيين تقريبا لفترة ما، حتى يتفرعا في اتجاهين مختلفين تماما ويصبا في بحرين مختلفين». وعلى الرغم من أنه من الواضح - بالنسبة إلى دوميت على الأقل - أن راين فريجه هو المسار الصحيح للفكر (في حين أن دانوب هوسرل يتدفق نحو بحر المثالية الأسود الخاص بالفلسفة القارية)، فإن هذه صورة موجهة وموحية تزعزع التمييز بين تقليدي الفلسفة على نحو رائع جدا.
استراتيجية دوميت مقنعة، وسأستخدمها ضمنيا في مناقشتي حول الصراع بين التصور العلمي والتصور التأويلي للعالم في الفصل السادس؛ وأعني تحديدا أن إحدى طرق تحقيق الفهم المتبادل بين أطراف هذا الصراع هي تتبع مصدره الفلسفي في المواجهة بين هايدجر وكارناب. ومع ذلك - وهذه هي الطريقة الثانية للتمييز بين التقليدين الفلسفيين - إذا أردنا أن نفهم طبيعة الفلسفة في التقليد القاري، فأعتقد أنه من الضروري أن نبدأ بكانط، الذي يعد، كما ذكرت سابقا، آخر شخصية فلسفية عظيمة مشتركة بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، والذي أعلن عن انفصالهما. بادئ ذي بدء، يوجد سببان بسيطان جدا للبدء بكانط بدلا من هوسرل؛ أولا: التطورات التي شهدتها الفلسفة القارية خلال القرن العشرين لا يمكن فهمها إلى حد كبير عند عدم الإشارة إلى بواكيرها في القرن التاسع عشر، وبخاصة فكر هيجل وماركس ونيتشه. وينطبق هذا بصفة خاصة على الفلسفة الفرنسية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، التي ربما توصف على نحو جيد في سياق سلسلة من عمليات الرجوع إلى هيجل (بالنسبة إلى أعمال ألكسندر كوجيف والأعمال المبكرة لجان بول سارتر)، أو نيتشه (بالنسبة إلى أعمال ميشيل فوكو وجيل دولوز)، أو ماركس (بالنسبة إلى أعمال لوي ألتوسير). ثانيا: تاريخ الفلسفة في الدول غير الناطقة بالإنجليزية في القرن التاسع عشر - في بريطانيا على الأقل - لا يتم تضمينه للأسف على نحو كاف في المناهج الدراسية بأقسام الفلسفة بالجامعات؛ حيث إنه لا يزال من الممكن الحصول على درجة علمية في الفلسفة دون أن تجب عليك قراءة الكثير - إن قرأت أي شيء من الأساس - من الفلسفة الألمانية بين كانط وفريجه؛ ولذا فإنه لا يزال من الضروري محاولة سد هذه الثغرة. (2) طريقتان لقراءة كانط
الكثير من الفروق بين الفلسفة التحليلية والقارية يعتمد ببساطة على «كيفية» قراءة المرء لكانط، و«الجوانب» التي يركز عليها المرء في فكره؛ وهذا يعني ما إذا كان الشخص مهتما فحسب بالقضايا المعرفية الموجودة في عمله النقدي الأول «نقد العقل المحض» (1781)، أو بالطموحات المنهجية الأكبر في عمله النقدي الثالث «نقد ملكة الحكم» (1790). وأود أن أستكشف هذه الفكرة بعمق أكثر قليلا.
شكل 2-1: نقش لإيمانويل كانط (1724-1804).
إذا كان الشخص يركز على كتاب «نقد العقل المحض»، فإنه عادة ما يكون مهتما بنجاح حجة الاستنتاج المتعالي؛ هنا كانط يحاول أن يظهر أنه من أجل اختبار الأشياء بأي نحو، يجب أن نفترض وجود عمليات ما يسميه «مقولات الفهم»؛ ومن ثم وجود ذات إنسانية تفهم؛ أي تجمع الفوضى المزعجة الناشئة من الخبرة الحسية في شكل مفاهيم. وهكذا، كما يقول كانط: «الأشياء تتوافق مع المفاهيم، وليست المفاهيم هي التي تتوافق مع الأشياء.» وستوجه هذه القراءة لفكر كانط من خلال مسألة ما إذا كان ينجح في توفير أساس صحيح للمعرفة التجريبية ومواجهة تحدي شك ديفيد هيوم، أم لا. ادعى كانط أن هيوم أيقظه من «سباته الدوجماتي»، من خلال توضيح أننا إذا أخذنا تحدي الشك هذا بجدية، فإننا لا يمكننا أبدا أن نكون متأكدين مما إذا كانت مفاهيمنا - الكامنة في الأحاسيس والانطباعات العابرة - مقابلة على نحو كاف للأشياء في ذاتها ومنتجة للمعرفة أم لا. ورد كانط هو تحويل المسألة برمتها، من خلال التأكيد على أنه على الرغم من أننا لا يمكننا أبدا معرفة الأشياء في ذاتها، فإن عناصر تمثيلاتنا لها تتطابق مع مفاهيمنا لها على نحو كاف للمعرفة. وهذا التحول هو ما يدعوه كانط «التحول الثوري» في الفلسفة. والعالم التجريبي هو في الواقع حقيقي بالنسبة إلينا، ولكن من أجل تفسير كيفية فهمنا للعالم يجب أن نفترض منطقيا، أو بلغة كانط «على نحو متعال»، وجود ذات أو وعي يوحد ما ينتج عن الحدس في شكل مفاهيم. وهذا هو الشكل الأولي لأطروحة ما يسمى «المثالية المتعالية»، الأطروحة التي يعتقد كانط أنها متسقة مع الواقعية التجريبية. وبالقراءة من خلال وجهة النظر تلك، فإن المساهمة الفلسفية الكبرى لكانط تقع في مجال نظرية المعرفة، وضمنيا فلسفة العلم. في الواقع، كانت هذه هي طريقة قراءة كانط على نحو كبير لدى المدرسة الكانطية الجديدة، التي هيمنت على الفلسفة الأكاديمية الألمانية والفرنسية في الفترة من عام 1890 حتى أواخر عشرينيات القرن العشرين. لقد كانت طريقة القراءة المعرفية لكانط تلك لدى بيتر ستراوسون وغيره، هي التي سيطرت على فهم التقليد الأنجلو أمريكي لفلسفة كانط حتى وقت قريب إلى حد ما.
ومع ذلك، فإن طموح عمل كانط «نقد ملكة الحكم» مختلف إلى حد ما؛ فقد حاول بناء جسر بين ملكات الفهم (مجال نظرية المعرفة المعني بمعرفة الطبيعة) والعقل (مجال الأخلاق المعني بالحرية)، من خلال نقد ملكة الحكم. وسيكون الحكم الوسيط بين عالمي الطبيعة والحرية، وسينسق عناصر الفلسفة النقدية في نظام ما. وإذا ما سلك المرء هذا المسار، فإن القضية الأساسية لفلسفة كانط تصبح معقولية العلاقة بين العقل المحض والعقل العملي، أو الطبيعة والحرية، أو وحدة النظرية والتطبيق. كما سنرى لاحقا، هذا هو بالضبط المسار الذي اتبعته المثالية الألمانية لدى فيشته، وإف دبليو جيه شيلينج، وهيجل، والرومانسية الألمانية المبكرة لدى فريدريك شليجل ونوفاليس. ويمكن القول إن هذا هو المسار الذي اتبعته الفلسفة القارية منذ ذلك الحين. (3) كانط وهامان: نقد العقل المحض، والحاجة لنقد النقد
اسمح لي أن أحاول شرح كيف نصل من فلسفة كانط إلى الفلسفة المثالية الألمانية بشيء من التفصيل، من خلال محاولة إعادة بناء بعض سياق الفلسفة فيما بعد كانط. عانى مشروع التنوير الألماني بأكمله - الذي كان مستندا إلى سيادة العقل - نوعا من الانهيار الداخلي. يمكن وصف المشكلة ببساطة كما يلي: سيادة العقل تتمثل في ادعاء أن العقل بإمكانه انتقاد كل معتقداتنا. فكما كتب كانط في مقدمة الطبعة الأولى من عمله «نقد العقل المحض»:
عصرنا هو عصر النقد بدرجة كبيرة، ويجب أن تخضع جميع معتقداتنا للنقد؛ فالدين بقدسيته، والدولة بهيبتها، لا يمكنهما إعفاء أنفسهما من الخضوع لهذا النقد دون إثارة أي شكوك بشأنهما.
ولكن إذا كان ذلك صحيحا - إذا كان العقل يستطيع انتقاد كل شيء - فمن المؤكد أنه يجب أيضا أن ينتقد نفسه؛ لذلك، يجب أن يوجد نقد للنقد إذا أردنا أن يكون النقد فعالا حقا. هذه هي وجهة نظر يوهان جورج هامان، ناقد كانط الأول الأكثر تأثيرا، الذي كان يسكن معه في مدينة كونيجسبرج، والذي صاغ مفهوم «نقد النقد»، الذي لا يزال مصطلحا شائعا جدا في الفلسفة الألمانية. إذا كان كانط يمثل عقلانية التنوير ويحاول الدفاع عنها، فإن هامان هو صوت مناهضة التنوير التي من شأنها أن تزدهر في الحركات الجمالية والثقافية المسماة ب «العاصفة والاندفاع» والرومانسية الألمانية المبكرة. وخضع هامان لتحول ديني درامي بعد بعض المغامرات المثلية المثيرة، خلال رحلة عمل فاشلة في لندن عام 1758. وتعد قصة علاقة هامان اللاحقة بكانط - حيث استعان صاحب عمل هامان السابق في ريجا بكانط لإعادة المتدين الذي ولد من جديد إلى طريق العقل - مادة لأفضل الروايات التاريخية.
ولكن هذا ليس موضوعنا. في عام 1784، ألف هامان «نقد نقد العقل المحض»؛ حيث انتقد شكلية كانط، وتحديدا مغالاته حيال الطابع الشكلي للمعرفة، والإيمان بأنه يمكن فصل العقل عن الخبرة؛ أي إنه يمكن فصل ما هو قبل عما هو بعد. ويعد نقد هامان مقدمة لنقد صديقه - ورفيقه لفترة طويلة في الواقع - فريدريك هاينريش جاكوبي، وكذلك نقد هيجل. وهو يأخذ الشكل التالي: تنقسم فلسفة كانط النقدية إلى سلسلة من الثنائيات المعيبة (الشكل في مقابل المحتوى، الإحساس في مقابل الفهم، العقل في مقابل الخبرة، الطبيعة في مقابل الحرية، المحض في مقابل العملي، وما إلى ذلك)، وتعد سيادة العقل العملي مجرد شكلية فارغة للواجب المجرد. بالنسبة إلى هامان - في تنبؤ غريب آخر بالتطورات الفلسفية اللاحقة، التي تسمى الانعطاف اللغوي - فإن الفصل بين العقل والخبرة، أو الشكل والمضمون، أمر مستحيل؛ لأن الفكر يعتمد على اللغة، التي بطبيعة الحال تكون مزيجا من الاثنين معا. من أين بالضبط تستقي التمييز بين المفهوم والحدس في الاستخدام الفعلي للغة؟ يقول هامان: «القدرة الكاملة على التفكير لا تعتمد على اللغة فحسب ... ولكن تقبع اللغة أيضا في قلب سوء فهم العقل لنفسه.»
شكل 2-2: بورتريه ليوهان جورج هامان (1730-1788).
لذلك، إذا كان يجب أن ينتقد العقل كل الأشياء، فيجب أن يوجد نقد للعقل. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع نقد النقد هذا من الوقوع في الشك؛ الشك الجذري والتام؟ كما يشير فريدريك بايزار: «ثمة كابوس يلوح في الأفق الذي يتمثل في أن النقد الذاتي للعقل ينتهي إلى العدمية؛ الشك في وجود كل شيء. وكان هذا الخوف هو جوهر أزمة التنوير.» وكما سأحاول وأناقش فيما يلي، فإن مفهوم العدمية هو أفضل ما يسمح للمرء بالتمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية. وكانت هذه القضية تقع في جوهر اثنين من الصراعات الأكثر أهمية في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا، وكان جاكوبي في قلب كليهما: صراع وحدة الوجود، وصراع الإلحاد. (4) صراع وحدة الوجود وصراع الإلحاد: انعكاسات عمل جاكوبي
بدأ صراع وحدة الوجود بنشر عمل جاكوبي «رسائل حول مذهب سبينوزا» في عام 1785، الذي كان عبارة عن مراسلاته مع موزس مندلسون بشأن الاعتراف الصادم المتأخر لجي إي ليسينج بتأثره الشديد بأفكار سبينوزا. وشارك معظم أفضل العقول في هذا العصر في هذا الصراع، بما في ذلك مندلسون وكانط ويوهان هيردر ويوهان فولفجانج فون جوته وهامان. كان باروخ دي سبينوزا يصور بنحو كاريكاتوري ساخر حتى وقت هذا الصراع إما في صورة فيلسوف عقلاني مؤمن بوحدة الوجود وإما في صورة ما هو أسوأ؛ شيطان ملحد. وكان لهذا الصراع أثر جانبي يتمثل في وضع حد لهذه الصورة الكاريكاتورية، وقد بلغ ذروته في وصف نوفاليس لسبينوزا بأنه «الثمل بحب الرب»، ولكن لم تكن هذه هي المشكلة الحقيقية؛ فجاكوبي يستخدم اعتراف ليسينج بتأثره الشديد بالفكر الاسبينوزي لتقديم نقد داخلي للتنوير. كان جاكوبي يسعى لإيضاح أن فلسفة سبينوزا هي مثال للعقلانية، وأنه إذا التزم الشخص بالعقلانية على نحو منتظم، فإنها تؤدي إلى الإلحاد؛ لذلك، على النقيض من كانط «التنويري»، يؤدي العقل إلى انهيار أي أساس للاعتقاد الديني أو الحياة الأخلاقية. يضيف جاكوبي أنه إذا كان الأمر كذلك، فإن لدينا خيارا واضحا وقاسيا إلى حد ما، لا بد أن نتخذه: إما أن نعتنق الإلحاد العقلاني للتنوير، وإما أن نرفضه من خلال قفزة إيمانية غير عقلانية. ويجد جاكوبي مصدر إلهام لهذا في قراءته لأعمال باسكال، الذي يرى أنه «لا يوجد شيء متسق للغاية مع العقل مثل عملية إنكار العقل تلك»؛ بمعنى أن الإعمال الصحيح للعقل يوصل إلى النقطة التي علينا أن ندرك فيها ما يكمن وراءه؛ مجال الإيمان. وكانت نسخة جاكوبي من رؤية باسكال مهمة أيضا لناقد ديني آخر للعقلانية العلمانية جاء لاحقا، وهو سورين كيركجور. إن مسألة وضع العقل والعقلانية في مقابل لاعقلانية كثير من الوجود الإنساني؛ تمثل صراعا يقع في قلب الخلافات في التقليد الفلسفي القاري حتى يومنا هذا؛ على سبيل المثال: في جدال الحداثة/ما بعد الحداثة، الذي ميز فترة كبيرة من ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين. وكان بايزار محقا في قوله: «ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن هذا الجدل حدد واحدة من القضايا المميزة للتقليد الفلسفي القاري ككل؛ وهي مسألة سلطة العقل. لقد بدأ ما يسمى «مأزق ما بعد الحداثة» فعليا حينها في عام 1786.»
والمسألة الأخرى التي تحدد مسار الفلسفة القارية هي صراع الإلحاد، الذي بدأ في عام 1798، والذي أدى في عام 1799 إلى عزل فيشته عن منصبه الأكاديمي في جامعة ينا بتهمة الإلحاد. ويكمن أصل هذا الصراع في نشر العديد من الكتيبات المسيئة المجهولة المصدر في عام 1798، والتي أعقبت نشر مقالات في إحدى المجلات، على يد فيشته والفيلسوف غير المعروف كثيرا الآن فريدريك سي فوربج، حول مكانة الدين والأخلاق. إن قصة إقالة فيشته مؤسفة إلى حد كبير، وتتشابه بعض الشيء مع مشكلة إلحاد ببرتراند راسل في نيويورك في عام 1940؛ حيث منع من تولي منصبه في كلية سيتي كوليدج بنيويورك، بناء على حملة تشهير شنت ضده لإعلانه الإلحاد وإبدائه آراء ليبرالية حول مسألة الأخلاقيات الجنسية. ووصف اللورد راسل من جانب جوزيف جولدشتاين - محامي السيدة جين كاي التي قادت الحملة ضد راسل - بأنه «فاسق، وشبق، وشهواني، وداعر، ومصاب بالهوس الشبقي، ومحرض على الشهوة الجنسية، ووقح، وضيق الأفق، وكاذب، ومجرد من المبادئ الأخلاقية». يا له من قدح فظيع! ولكن الفلاسفة منذ زمن سقراط يتهمون بإفساد أخلاق الشباب. وعلى الرغم من أن ينا في تسعينيات القرن الثامن عشر لم تكن تماما مثل مانهاتن في أربعينيات القرن العشرين، فإنه ينبغي أن نتذكر أنها كانت المركز الفلسفي للحياة الفكرية في ألمانيا خلال هذه الفترة، وموطن العديد من أعظم العقول في ذلك الوقت (فيشته، والأخوين شليجل، ونوفاليس، وشيلينج)، والبوتقة التي ولدت منها الرومانسية الألمانية المبكرة أو رومانسية ينا.
شكل 2-3: بورتريه لفريدريك هاينريش جاكوبي (1743-1819).
شكل 2-4: إميل دورستلينج، لوحة لعشاء تخيلي في منزل كانط مع هامان وجاكوبي وآخرين (1801).
على الرغم من أن التفاصيل التاريخية لهذا الصراع مثيرة للاهتمام ومحبطة قليلا في نفس الوقت، فإنها تصبح مهمة فلسفيا عندما يعبر جاكوبي عن رأيه في عام 1799 في عمله «رسالة إلى فيشته». ونجد في هذا النص أول توظيف فلسفي لمفهوم «العدمية»؛ فكما أشار جاكوبي ببساطة، وجهة نظر فيشته - المعروفة باسم مثالية فيشته - عدمية. وما يعنيه بهذا يجب أن أن يفهم في ضوء تراجع النقد الكانطي للميتافيزيقا التقليدية المذكور سابقا، الذي لا ينكر الإدراك المعرفي للبشر للكيانات المتخيلة من جانب الميتافيزيقا الكلاسيكية (الرب والروح) فحسب، ولكن يستبعد أيضا إمكانية معرفة الذوات أو الأشياء في ذاتها وما وصفه كانط بأنه الأساس «الحقيقي» للذات، والذي لا يمتلك وجودا ظاهريا. تمثلت فرضية جاكوبي الأساسية في أن إحياء فيشته للمثالية المتعالية لكانط، يؤدي إلى «أنا» فقيرة لا يوجد لديها معرفة بالأشياء في ذاتها. وهي عدمية لأنها لا تسمح بوجود شيء خارج أو منفصل عن الأنا، والأنا في حد ذاتها ليست سوى نتاج «قوة التخيل الحرة». ويحتج جاكوبي، في فقرة استثنائية، قائلا:
إذا كان أكبر ما أستطيع تأمله، وما يمكنني التفكير فيه، هو الأنا خاصتي الفارغة والنقية، العارية والمحضة، باستقلالها وحريتها؛ إذن، فالتأمل الذاتي العقلاني - العقلانية - سيكون بالنسبة إلي لعنة، وسأكون آسفا على وجودي.
وفي مقابل ما يراه جاكوبي على أنه أحادية مثالية لفيشته، دعا لشكل من أشكال الثنائية الفلسفية؛ حيث إنه وراء الانشغال الفلسفي بالحقيقة، يقع مجال الحقيقية، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الإيمان أو القلب. مرة أخرى، نقد جاكوبي لفيشته يذكرنا بقوة بنقد باسكال لديكارت؛ حيث إن العدمية هي التهمة التي وجهتها نظرة العالم المسيحي للعقلانية العلمانية؛ ومن ثم فإن الاختيار الوجودي الذي يواجهنا - والذي لا يمكن إثباته بعقلانية ولكن يجب علينا أن نراهن عليه - هو بين مثالية فيشته، وهي عدمية لأنها لا توفر معرفة بأي شيء خارج تقديرات الأنا، وثنائية جاكوبي، التي وصفها بسخرية ذاتية بأنها «وهمية» لأنها تدعي أن الرب هو جوهر العقل دون أن تتمكن من إثبات ذلك بعقلانية. ويخلص جاكوبي قائلا:
لكن الإنسان أمامه اختيار واحد: العدمية أو وجود إله. إذا اختار الإنسان العدمية، فإنه يجعل من نفسه إلها؛ أي إنه يجعل من الوهم إلها؛ لأنه في حالة عدم وجود إله، يستحيل أن يكون الإنسان وكل ما يحيط به إلا وهما. أعود وأكرر: إما أن يكون الإله كيانا حيا قائما بذاته، وموجودا خارج نفسي، وإما أن أكون أنا الإله. وهما أمران لا ثالث لهما.
عند إنكار وجود إله، فإننا نخاطر بتحويل الإنسان إلى إله؛ وهذا يعني وجود إغراء كإغراء بروميثيوس في مثالية كانط وفيشته؛ حيث يتحول الإنسان إلى نسخة طبق الأصل من الإله، ويخلق من العدم (تجدر الإشارة إلى أن رواية ماري شيلي «فرانكنشتاين» (1819) كان عنوانها الفرعي «بروميثيوس الحديث»؛ حيث طارد شيء مشوه الخلقة العقلانية العلمية للتنوير).
لإظهار بعض من آثار هذا الفكر على التقليد الفلسفي القاري، اسمح لي أن أقدم بعض الأمثلة الأخرى. إذا كانت العدمية هي اتهام للأنا الفلسفية، حيث تبخر في الهواء كل ما كان راسخا في النظرة العالمية التي سبقت ظهور كانط، فإن المرء يجد تأكيدا غريبا لنقد جاكوبي في أنانية كتاب ماكس شتيرنر الاستثنائي «الأنا وذاتها» (1844)، وهو الكتاب الذي تعرض لنقد طويل ولاذع من قبل ماركس وفريدريك إنجلز في عملهما «الأيديولوجيا الألمانية» (1846). ما انتقده جاكوبي على أنه عدمية احتفى به شتيرنر على نحو فوضوي على أنه تحرر للفرد. فإذا كنت عدما أو لا شيء، كما يقول شتيرنر، «فإنني لست عدما بمعنى الفراغ، ولكنني العدم المبدع، العدم الذي أخلق منه أنا كمبدع كل شيء». وكنتيجة خاطئة لمحاولته إظهار أن نقد هيجل ولودفيج فيورباخ للدين لا يزال متشابكا بقوة مع النماذج الدينية في التفكير، يجيب شتيرنر على مسألة «ماهية الإنسان» من خلال تحويل الأنا إلى نسخة طبق الأصل من الإله؛ فيصبح الإنسان السبب ذاتي التسبب، وهي ذاتية التسبب الخاصة بالنظرية اللاهوتية للقرون الوسطى. ولاستباق وجودية سارتر، التي وجد فيها شتيرنر صدى مثيرا بعد قرن من الزمن، في عالم ملحد عدمي، يمتلك البشر حرية عاطفية ليصبحوا مثل الإله. هذا هو السبب في ختم سارتر كتابه «الوجود والعدم» بعبارة «الإنسان عاطفة لا جدوى منها».
ويجد المرء أيضا صدى لنسخة جاكوبي من رهان باسكال في تصوير فيودور دوستويفسكي لشخصية كيريلوف العدمي في روايته «الشياطين» (1871).
إن كل من يرغب في الحرية الأسمى يجب أن يجرؤ على قتل نفسه؛ فالذي يجرؤ على قتل نفسه قد تعلم سر الخداع. فبخلاف ذلك لا توجد حرية؛ هذا كل شيء، وبخلاف ذلك لا يوجد شيء. إن الذي يجرؤ على قتل نفسه هو إله. والآن يمكن للجميع فعل ذلك كي لا يوجد أي إله، ولا يوجد أي شيء؛ ولكن لم يفعل ذلك أحد حتى الآن.
هذا هو الموقف الذي يصفه دوستويفسكي ب «الانتحار المنطقي»؛ وهذا يعني - كما يقول في مذكراته - إنه بعد أن يرفع البشر أنفسهم فوق مستوى البهائم، فإن الفكرة «الأساسية» و«الأعظم» و«الأسمى» للوجود البشري تصبح ضرورية للغاية: الاعتقاد بخلود الروح. وبمجرد أن ينكسر هذا المعتقد، كما رأى دوستويفسكي في العدمية أو اللاتفريقية لدى الطبقات المثقفة الروسية في ستينيات القرن التاسع عشر، فإن الانتحار هو الحل المنطقي الوحيد؛ ومن ثم، وجدنا كيريلوف الذي فقد الإيمان بخلود الروح يحاول تأليف كتاب يدرس الأسباب التي تجعل الناس لا يقتلون أنفسهم.
وهكذا، يمكن للمرء أن يقول إنه يوجد مسار في التقليد الفلسفي القاري من نقد كانط في أعمال هامان وجاكوبي، حتى أفكار كيركجارد وشتيرنر ودوستويفسكي - الدينية والإلحادية - المناهضة للعقلانية، وصولا إلى وجودية ما بعد الحرب الفرنسية لسارتر وكامو. (5) توحيد ثنائيات كانط
كان التأثير المشترك لنقد فلسفة كانط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر هو أن إيمان التنوير بالعقل بدا مشكوكا فيه على نحو أكبر من أي وقت مضى؛ فكما أشار بايزار: «لم يكن كانط مانعا لمسيرة التدمير الذاتي للعقل نحو الهاوية، ولكنه كان مشجعا عليها.» ومن الواضح أن قضية معرفة ما إذا كانت هذه النظرة لكانط لها ما يبررها من الناحية الفلسفية أم لا؛ قضية منفصلة. الهدف هنا هو أن سلسلة كاملة من المناقشات التي تحدد التقليد الفلسفي القاري بدأت من هذه النقطة، ورأيي هو أن الفلسفة القارية يجب أن تفهم على هذا الأساس.
اسمح لي أن أختتم هذا الفصل بالعودة إلى الجدل السابق الذي مفاده أن كانط ترك لنا سلسلة من الثنائيات التي بحاجة إلى التوحيد؛ وهذا هو أحد الاعتراضات التي قدمها الفيلسوف الذي اعتبره كانط أفضل ناقد له، وهو سالومون ميمون. ونشرت انتقادات ميمون في عام 1790 تحت عنوان «مقال عن الفلسفة المتعالية». وتتمثل وجهة نظره الأساسية في أن ثنائية كانط بين الفهم والإحساس، التي تقع في جوهر المثالية المتعالية، متطرفة وعميقة الأثر لدرجة أنها تمنع إمكانية التفاعل بين المفهوم المسبق والحدس التجريبي؛ وهذا يعني أن حجة الاستنتاج المتعالي تبطل عن طريق الثنائيات ذاتها التي افترضها كانط من أجل تنفيذ هذا الاستنتاج. هذا ما يغرم بعض فلاسفة التقليد القاري بتسميته «التناقض الذاتي الأدائي».
شكل 2-5: كانط يخلط الخردل في وعاء. (لوحة بريشة فريدريك هاجمان (1801).)
المهم هنا هو إدراك كيف أثرت انتقادات ميمون على فلسفة ما بعد كانط. كيف يمكننا التغلب على الثنائيات الخاطئة لنظام كانط؟ المطلوب هو مبدأ موحد أسمى من شأنه أن يكون في مأمن من هذه الانتقادات. وانطلاقا من هذا السؤال بدأت مثالية فيشته والمثالية الألمانية. وجد فيشته هذا المبدأ الموحد في نشاط الذات، فتوحدت ثنائية النظرية والتطبيق في التأمل الذاتي للذات؛ وعيها للحرية. وكانت هذه هي وجهة النظر التي درسها فيشته في كتابه المشهور «مذهب العلم» (1794). أما على النقيض، بالنسبة إلى شيلينج الشاب، كان المبدأ الموحد هو مفهوم القوة أو الحياة، المذكور في فلسفته المبكرة حول الطبيعة؛ وبالنسبة إلى هيجل، كان مفهوم الروح؛ وبالنسبة إلى آرثر شوبنهاور، كان مفهوم الإرادة؛ وبالنسبة إلى نيتشه ، كان القوة؛ وبالنسبة إلى ماركس، كان مفهوم الممارسة؛ وبالنسبة إلى فرويد، كان اللاوعي؛ وبالنسبة إلى هايدجر، كان الوجود. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية. الهدف هنا هو تأكيد أن القضية الأساسية للفلسفة القارية نشأت من هذه الانتقادات لكانط، ويجب أن تفهم في هذا السياق.
الفصل الثالث
النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لإدراك أنه توجد مشاكل خطيرة في التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية. الفلسفة القارية عبارة عن سلسلة انتقائية ومتباينة للغاية من التيارات الفكرية التي من الصعب أن يقال إنها تمثل تقليدا فلسفيا موحدا. على هذا النحو، فإن الفلسفة القارية مصطلح «ابتدعه» الفكر الأنجلو أمريكي الأكاديمي ليميز نفسه عن الفكر الفلسفي لأوروبا القارية، الذي لم يكن في الوقت نفسه ليقر بشرعيته وتميزه؛ ما يشبه قليلا طلب إفطار قاري (كونتينينتال) في باريس.
ومع ذلك، إذا أخذ مفهوم الفلسفة القارية بمعناه الظاهري كتصنيف جغرافي، فحينها ستنشأ مشاكل أخرى. فيوجد فلاسفة من أوروبا القارية، مثل فريجه وكارناب لا يتبعون فكر الفلسفة القارية، وفلاسفة من خارج أوروبا القارية يتبعونه. وأيضا، من الناحية الجغرافية، يمكن أن تصبح الأمور مختلطة إلى حد كبير، كما هي الحال عندما يدعي دوميت على نحو صحيح أن مصطلح «الأنجلو أمريكية» (وهو تسمية جغرافية أخرى ليس لها مدلول أكثر وضوحا من «القارية») تسبب في ضرر أكبر مما تسبب فيه من نفع؛ لأنه تجاهل جذور الفلسفة التحليلية التي نشأت في الدول الناطقة بالألمانية. بدلا من ذلك، اقترح دوميت - على نحو عابث ولكن دقيق - استبدال مصطلح «الأنجلو نمساوية» به.
ثمة اعتراض أعمق على التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية أثاره برنارد ويليامز، عندما يدعي أن التمييز يقوم على خلط بين الجوانب الجغرافية والمنهجية، كما لو كان المرء يصنف السيارات إلى سيارات دفع أمامي وسيارات يابانية. فعلى الرغم من أن الفلسفة التحليلية كثيرا ما ترتبط بقوة بأماكن معينة - أكسفورد أو برنستون مثلا - فإنها تدل على التزام بأسلوب تفلسف معين، وبمعايير معينة للمحاججة والوضوح والصرامة المنهجية ، في حين أن الفلسفة القارية يبدو أنها تدل على التزام بمكان معين، بغض النظر عن المنهجية. وهكذا، فإنه بالنسبة إلى ويليامز، التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية يقوم على مقارنة تخلط بين الجوانب المنهجية والجغرافية.
ومع ذلك، لن يصحح هذا الالتباس عن طريق إعادة صياغة المصطلحات المتقابلة بدقة اعتمادا على تصنيف جغرافي (أي أنجلو أمريكية في مقابل قارية)، أو منهجي (أي تحليلية في مقابل فنومينولوجية). إذا أعيدت صياغة المصطلحات المتقابلة جغرافيا، فإن هذا سيزيد الأمور سوءا؛ لأن ذلك يعني خطأ أن الفلسفة في المملكة المتحدة وأمريكا الشمالية وأسترالاسيا غير قارية بحكم التعريف، وأن الأب المؤسس للفلسفة التحليلية (فريجه) وأن أكبر ممثل لها (فيتجنشتاين) كانا من أصحاب فكر الفلسفة القارية. إذا تم إعادة صياغة المصطلحات المتناقضة منهجيا، فبالكاد سيكون ذلك مسئولا عن حقيقة أنه على أحد جانبي التقسيم، يمكن أن يقال إن عددا قليلا جدا من الفلاسفة يتبعون الأشكال التقليدية للتحليل الفلسفي (فضلا عن الحديث عن الفلسفة «ما بعد التحليلية» في السنوات الأخيرة)، وعلى الجانب الآخر، لن توجد ببساطة فئة يمكن أن تغطي كافة الأعمال المتنوعة التي أنتجها مفكرون مختلفون منهجيا وموضوعيا مثل هيجل وكيركجارد، أو فرويد ومارتن بوبر، أو هايدجر وتيودور أدورنو، أو جاك لاكان ودولوز.
إن ويليامز محق في كونه متشككا حيال أي تصور من هذا النوع للتمييز بين المدارس والمذاهب الفلسفية؛ لأنه يخفي جدلا ممكنا أكثر عمقا وإثارة للاهتمام حول هوية الفلسفة نفسها. وعلى الرغم من أنه من الواضح، من خلال نقد ويليامز، أن هوية الفلسفة بالنسبة إليه تمثل على نحو أفضل من خلال الفلسفة التحليلية، التي تتمثل مزيتها الأساسية إلى حد ما في «الصدق البارع»، والتي تبدو مستندة إلى مقارنة محل جدل إلى حد كبير بين الفلسفة وإجراءات العلوم الطبيعية؛ فإنه من الواضح أن لديه وجهة نظر حيال هذا الموضوع، والذي سأعود إليه في ختام هذا الكتاب. يوجد شيء محدود الأفق وجبان على المستوى الفكري حيال تحديد المرء لانتمائه لأحد طرفي تقسيم فلسفي متصور؛ لأن ذلك يمنع ظهور التحديات الفكرية الممكنة التي قد تنتج عن حوار خارج نطاق الفلسفة التي يتبناها المرء. (1) نظرة على بعض الأفكار النمطية عن التمييز بين الفلسفتين
مع ذلك، لا ينبغي تنحية التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية جانبا دون محاولة تشخيص بعض الأفكار النمطية الثقافية العالقة في داخله وتخليصه منها. وتواصل نطاقات الفلسفات وجودها، ويتمثل الأمر الآن في محاولة معرفة سبب كون الحال كذلك، من خلال تناول بعض الأمثلة.
يلخص ستانلي روزن، بسخرية شديدة وبمهارة، التمثيل النمطي للتمييز بين الفلسفة التحليلية والقارية على النحو التالي: «الدقة والوضوح المفاهيمي والصرامة المنهجية هي سمات الفلسفة التحليلية، في حين أن الفلسفة القارية تستغرق في الميتافيزيقا التأملية أو التأويلية الثقافية؛ أو بدلا من ذلك، واعتمادا على مدى تعاطف المرء معها، تستغرق في الاستسلام للأوهام والسخافات.» وأخشى أن هذه الأفكار النمطية تتأكد فقط من خلال المناقشات في الصحافة وملاحظات بعض الفلاسفة الأكاديميين الذين ينبغي أن يكونوا على دراية أكبر بالأمور. ولضرب مثل على هذا النوع الأخير من الفلاسفة، لا يجب علينا النظر إلى أبعد مما حدث مع دريدا في جامعة كامبريدج في عام 1992؛ حيث عارض بعض الأعضاء البارزين في الجامعة ترشيح جاك دريدا للحصول على الدكتوراه الفخرية. وفي اليوم التالي لخسارة المعارضة في التصويت، نشرت صحيفة بريطانية ذات منزلة رفيعة خبرا تحت عنوان «العدمية المعرفية تغزو مدينة إنجليزية».
ولكن ربما تم التعبير عن الهوة التي تفصل بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية على نحو أكثر إحكاما أثناء المناقشة العصبية والسيئة السمعة التي تلت تقديم جيلبرت رايل لبحثه في مؤتمر حول الفلسفة التحليلية في فرنسا في عام 1960، والتي أجاب فيها رايل عن سؤال موريس ميرلو-بونتي «أليس برنامجنا واحدا؟» قائلا: «آمل ألا يكون كذلك.» إن هذه العبارة، هذه ال «لا» الثابتة في وجه الغرابة الملحوظة في أوروبا القارية، هي الكاشفة بوضوح لتحامل أيديولوجي ينبغي بالتأكيد ألا يكون له مكان في الفلسفة. كانت هذه ال «لا» هي نفس ال «لا» التي قالتها البارونة تاتشر لخطط جاك ديلور الخاصة بالاتحاد الأوروبي ، والتي كانت بداية سقوطها السياسي في عام 1990. والمفارقة هنا هي أن رايل الشاب بدأ حياته بوصفه مؤيدا للفنومينولوجيا، فكان أول عمل منشور له هو مراجعة دقيقة جدا لكتاب هايدجر «الوجود والزمان»، الذي نشر في دورية «مايند» في عام 1930، وألقى الكثير من المحاضرات في جامعة أكسفورد في ثلاثينيات القرن العشرين حول بولزانو وبرنتانو وفريجه وماينونج وهوسرل. وكما أشار دوميت على نحو أضعف مما تقتضيه الحقيقة: «إنه لأمر مؤسف حقا أن قليلا فحسب من علمه حول هؤلاء المبدعين حفظ مطبوعا، وبالمثل - من وجهة نظري - أن استمر قليل مما تعلمه منهم في أعماله اللاحقة.»
وبمناسبة إشارتنا لميرلو-بونتي، يوضح إيه جيه آير ببراعة الهوة التي تفصل فلاسفة التقليد التحليلي عن فلاسفة التقليد القاري، من خلال الذكرى التالية التي وردت في سيرته الذاتية:
ربما كان من المتوقع أن نجد أنا وميرلو-بونتي أرضية مشتركة للنقاش. ولقد حاولنا فعل ذلك حقا في عدة مناسبات، ولكن لم نمض كثيرا قبل أن نبدأ في النزاع حول نقطة ما لم يكن أي منا على استعداد للتنازل عنها. وبما أن هذه المناقشات تميل إلى أن تكون حادة، اتفقنا ضمنيا على إيقافها واللقاء على مستوى اجتماعي خالص، وهو الأمر الذي ترك لنا مادة كافية للحديث عنها.
يشبه هذا قليلا الصراخ عبر الهوة التي تحدث عنها دوميت وأشرنا إليها سابقا. ثمة مثال آخر، يشمل آير أيضا، أكثر إثارة للاهتمام، وحتى غير محتمل قليلا؛ ويتعلق هذا المثال باجتماع بين آير وربما المفكر الأكثر تطرفا من بين أتباع الفلسفة القارية جورج باطاي، الذي كان معارضا للفلسفة التقليدية، والمعرفة، والفكر الديني، وشبقيا. فقد التقيا في حانة باريسية في عام 1951، مع ميرلو- بونتي. ويبدو أن المناقشة استمرت حتى الثالثة صباحا، وكانت الأطروحة قيد المناقشة بسيطة جدا: هل وجدت الشمس قبل وجود البشر؟ لم يجد آير أي سبب للشك في وجود الشمس قبل البشر، في حين اعتقد باطاي أن الفكرة برمتها لا معنى لها. بالنسبة إلى فيلسوف مؤمن بوجهة النظر العلمية حيال العالم مثل آير؛ فمن المنطقي قول إن الأشياء المادية مثل الشمس موجودة قبل تطور البشر. في حين أنه بالنسبة إلى باطاي - الأكثر دراية بالفنومينولوجيا - يجب أن تدرك الأشياء المادية من منظور ذات إنسانية من أجل أن يقال إنها موجودة. ونظرا لعدم وجود البشر في الوقت المفترض في الفكرة، فمن ثم لا معنى للادعاء بأن الشمس كانت موجودة قبل البشر. ويخلص باطاي إلى ما يلي:
أود أن أقول إن محادثة الأمس كان لها تأثير الصدمة؛ إذ يوجد بين الفلاسفة الفرنسيين والإنجليز نوع من الهوة التي لا نجدها بين الفلاسفة الفرنسيين والألمان.
من أجل رؤية مثال كاشف على التحامل الذي ما زالت تعامل به الفلسفة القارية، يمكن للمرء أن يأخذ كدراسة حالة مقالتين كتبهما اللورد أنتوني كوينتن حول الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، ونشرتا على التوالي في كتاب «أكسفورد كومبانيون تو فيلوسوفي» مؤخرا في عام 1995. تعد مقالة كوينتن حول الفلسفة التحليلية ملخصا منصفا لمفهومي الذرية المنطقية والوضعية المنطقية، على الرغم من أنها وجيزة جدا لدرجة تمنعها من أن تكون مفيدة حول التطورات التي حدثت فيما بعد الحرب في هذا المجال. ويختتمها بالإشارة إلى الفيلسوفين التحليليين هيلاري بوتنام وروبرت نوزيك بقوله: «هما يفكران ويكتبان بروح تحليلية، تحترم العلم، باعتباره نموذجا للمعتقدات المعقولة، وبما يتفق مع صرامته الجدلية ووضوحه وتصميمه على أن يكون موضوعيا.» ومع ذلك، فإن نفس هذا التصميم على الموضوعية ليس واضحا في مقالة كوينتن حول الفلسفة القارية. تبدأ المقالة - على نحو معقول بما فيه الكفاية - بإشارة كوينتن الصحيحة إلى كيفية ارتباط المعنى الحالي بالفلسفة القارية حديثا في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وتعرض أيضا ملاحظات مفيدة حول وحدة المسعى الفلسفي، الذي اتسمت به العصور الوسطى اللاتينية وعصر النهضة، وهو حوار لم يمثل إشكالية على نحو باهر بين الفلاسفة من بريطانيا وأوروبا القارية، امتد لفترة طويلة حتى وصل إلى عصر التنوير؛ حيث كان لوك قارئا لأعمال ديكارت وجاسندي ومالبرانش، وكان هيوم قارئا لأعمال بايل وعرف روسو، ودرس مل أعمال كونت، إلى آخره. الأمور حتى الآن جيدة جدا ، ولكن يدعي كوينتن أنه «لا يوجد حقا أي تقارب ملحوظ بين عالمي الفلسفتين»، ولكي يثبت وجهة نظره (عن غير قصد، بالطبع)، يقدم ملخصات صادمة جدا للوجودية والبنيوية والنظرية النقدية؛ فالأولى مرفوضة، من دون إشارة كافية إلى الفنومينولوجيا، وذلك لاعتمادها «على الأسلوب الدرامي، وحتى الميلودرامي، بدلا من الحجج العقلانية المثبتة». ويقال إن الثانية قد «بلغت ذروتها مع فوكو، وأنها تجاوزت نفسها، وانطلقت إلى فضاء فكري خارجي مع دريدا». أما الثالثة، فرفضت بنحو غريب على النحو التالي: «أبطلت النوايا السياسية الواضحة لمنظري النظرية النقدية أي اهتمام من جانب الفلاسفة التحليليين الملتزمين بالحياد.» إذا كان يمكن أن يقال إن مثل هذه التعليقات تظهر التزاما بالحياد، فضلا عن الفضائل المذكورة أعلاه المتمثلة في الصرامة الجدلية والوضوح والتصميم على أن يكون موضوعيا، فربما يكون اعتقاد كوينتن بأنه لا يوجد أي تقارب ممكن بين عالمي الفلسفتين مبررا على نحو جيد. ولا داعي للقول إن مثل هذه الملاحظات ليست خاطئة فحسب، ولكنها - كما أرى - متعصبة فكريا، وتعمل ببساطة على استمرار الأفكار النمطية الثقافية الضارة. (2) الفلسفة القارية: وصف ذاتي أكاديمي وسمة ثقافية
إذن، كيف نفسر هذه الهوة بين الفلسفتين القارية والتحليلية وفلاسفتهما؟ تثير صفة «قارية» - على الأقل بالنسبة إلى القارئ البريطاني - ارتباطات بالاستخدامات الأخرى لها، مثل الإفطار القاري أو ما كانت والدتي تدعوه «لحاف قاري»؛ وهذا يعني أنه مصطلح جغرافي أو «اسم مكاني» يشير إلى شيء يحدث في مكان معين، وهو أوروبا القارية. والصفة تكشف عن تمييز بين القاري وما هو غير قاري؛ أي تمييز، من وجهة نظر البريطاني، غالبا ما يخاطر بتوطيد اختلاف بين البريطاني والقاري؛ حيث يعرف هذا الأخير على أنه أجنبي وغريب ودخيل، ويعرف الأول على أنه غير أجنبي ووطني ومألوف. على هذا النحو، فإن مفهوم «قاري» يشير إلى المسائل التي تبدو مستعصية على الحل ومزعجة إلى حد ما، والخاصة بالجغرافيا السياسية، والتي تتمثل تحديدا فيما إذا كانت بريطانيا هي المنفصلة عن أوروبا القارية أم العكس (تذكر العنوان الرئيسي السيئ السمعة الذي ظهر بإحدى الصحف : «ضباب على القناة الإنجليزية، وانعزال عن أوروبا القارية»).
شكل 3-1: لوحة لبيتر بول روبنس (1577-1640)، بعنوان «الفلاسفة الأربعة».
أرغب الآن في تقديم ادعاءين حول المعنى التاريخي للفلسفة القارية؛ أولهما هو أنه «وصف ذاتي أكاديمي» على نحو أساسي؛ أي إنه وسيلة ينظم بها الفلاسفة وأقسام الفلسفة أبحاثهم ومحاضراتهم، ويشيرون من خلالها لانتماءاتهم الفكرية. وبهذا المعنى، الفلسفة القارية هي سمة لإضفاء الطابع الأكاديمي على الفلسفة. وبهذا المعنى المحدد، مفهوم الفلسفة القارية هو مفهوم حديث. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع بشأن الأصل الدقيق لمفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي، فإنه لم يظهر كتوصيف للدورات الدراسية الجامعية وتلك الخاصة بالدراسات العليا في الفلسفة قبل سبعينيات القرن العشرين. ومن الواضح أن هذا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية قبل بريطانيا؛ حيث قدمت أول دورات دراسية في مرحلة الدراسات العليا في الفلسفة القارية في جامعة إسكس وجامعة وريك في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. في السياق الأمريكي، وإلى حد أقل في بريطانيا، حل مصطلح «الفلسفة القارية» محل المصطلحات الأقدم «الفنومينولوجيا» أو «الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية». وحفظت هذه المصطلحات في أسماء الجمعيات الأكاديمية المرتبطة على نحو وثيق بالفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية؛ «جمعية الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية» التي تأسست في عام 1962، و«الجمعية البريطانية للفنومينولوجيا» التي تأسست في عام 1967. إذن، يبدو أنه في فترة ما بعد الحرب كانت الفلسفة القارية مرادفة على نطاق واسع للفنومينولوجيا (في رداء وجودي في كثير من الأحيان)، وهي الحقيقة التي تنعكس أيضا من خلال بعض عناوين الكتب الأمريكية التقديمية من ستينيات القرن العشرين: «دعوة للفنومينولوجيا» (1965)، و«الفنومينولوجيا في أمريكا» (1967). وربما يدلل على ذلك أن العنوان الأخير خضع لمحاكاة وتغيير في عام 1983 بظهور كتاب آخر حول نفس الموضوع ولكن بعنوان «الفلسفة القارية في أمريكا». والسبب في أن حل مصطلح «الفلسفة القارية» محل مصطلح «الفنومينولوجيا» ليس واضحا تماما، ولكن يبدو أنه قدم للأخذ في الاعتبار الحركات الفكرية الفرنكوفونية ما بعد البنيوية العديدة، التي كانت مختلفة على نحو كبير عن الفنومينولوجيا وغالبا ما كانت معارضة لها؛ إلى حد أقل في أعمال جاك لاكان ودريدا وجان فرانسوا ليوتار، وإلى حد أكبر في أعمال جيل دولوز وميشيل فوكو.
ويمكن ملاحظة هذا التقسيم الموجود في الواقع بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في ظواهر ثانوية فلسفية متنوعة، مثل توصيف الوظائف الذي يطلب «متخصصين في الفلسفة القارية»، وقوائم أعمال الناشرين التي تخصص عادة في الجزء الأخير منها صفحات خاصة للفلسفة القارية. وكما يؤكد جون سيرل برضى، توجد هيمنة أكاديمية شبه كاملة للفلسفة التحليلية في العالم الناطق بالإنجليزية؛ حيث تشعر أنواع الفلسفة غير التحليلية - مثل الفنومينولوجيا - بأنه من الضروري تحديد موقفها فيما يتعلق بهذه الهيمنة. ومع ذلك، على الرغم من هذه الهيمنة التي لا شك فيها، توجد جامعات في المملكة المتحدة وأيرلندا وكندا وأستراليا تتخصص في الفلسفة القارية، وغيرها الكثير في الولايات المتحدة الأمريكية، معظمها من الجامعات الكاثوليكية، مع وجود بعض الاستثناءات البارزة. في أقسام وكليات الفلسفة، حيث تكون الفلسفة التحليلية هي المهيمنة، غالبا ما توجد دورة دراسية أو ورقة بحثية حول «الفلسفة الأوروبية الحديثة»، أو «فلسفة ما بعد كانط»، أو «الفنومينولوجيا والوجودية»، وهي الدورات التي كثيرا ما تبدأ استجابة لرغبة الطلاب، والتي عادة ما تكون كبيرة جدا في هذا المجال. وأيضا، يمكن القول إن تأثير الفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية، ولا سيما في نسخها الفرنكوفونية الأحدث، أقوى بكثير خارج أقسام الفلسفة من داخلها؛ حيث إنها أثرت على نحو حاسم في العديد من الابتكارات النظرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية: في النظرية الأدبية، والتاريخ، والنظرية الفنية، والنظرية السياسية والاجتماعية، والدراسات الثقافية، وعلم التأريخ، والدراسات الدينية، والأنثروبولوجيا، فضلا عن المناقشات في مجالات الفنون الجميلة والهندسة المعمارية والنسوية، والتحليل النفسي. وعموما، يتم الترحيب بأفكار الفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية - على نحو معبر وملحوظ - خارج أقسام الفلسفة.
ومع ذلك، إذا كانت هذه هي نهاية القصة، فإن المناقشات حول الفلسفة القارية ستكون ذات أهمية عامة قليلة، مثل الخلافات الأكاديمية الأخرى في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ولشرح الانفعال الشديد المستمر الذي يسود النزاعات المحيطة بالفلسفة القارية التي ظهرت في رفض كوينتن وصدمة باطاي، فإنه لا بد من تقديم ادعاء ثان؛ وهذا الادعاء بالتحديد هو أن مفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي أكثر إثارة للخلاف والإزعاج؛ لأنه يحجب معنى «ثقافيا» أقدم، ويعود إلى الجدل حول علاقة بريطانيا والعالم الناطق بالإنجليزية بأوروبا القارية، وهو الجدل المتقد بشدة في السياسة البريطانية المعاصرة على سبيل المثال. وبهذا المعنى، فإن المسائل المتعلقة بتحديد هوية تقليد فلسفي ما، تصبح واقعة على نحو خطير في شرك التحيزات الأيديولوجية للجغرافيا السياسية الظاهرة في مفاهيم غامضة ومضللة، مثل: «التجريبية البريطانية»، و«العقلانية الفرنسية»، و«الميتافيزيقا الألمانية»، وما إلى ذلك. (3) حالة جون ستيوارت مل المثيرة للاهتمام
التاريخ الفكري للعلاقة الفلسفية بين بريطانيا وأوروبا القارية يعود على الأقل إلى أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر؛ حيث ظهور الفلسفة في شكل مكتوب باللغات المحلية الوطنية مثل الفرنسية والإنجليزية وليس اللغة اللاتينية. ومن المعالم التاريخية ذات الصلة في هذا الإطار نشر مؤلف مونتين «المقالات» بالفرنسية في عام 1580، وكتاب فرانسيس بيكون «تقدم المعرفة» بالإنجليزية في عام 1605. لكن البعد الرئيسي الذي يفسر ظهور شيء يمكن للمرء تعريفه بأنه «الفلسفة القارية»، يبدأ في اعتقادي بعد ذلك بفترة طويلة، مع استقبال فلسفة كانط والمثالية والرومانسية الألمانية في إنجلترا في السنوات التي تلت قيام الثورة الفرنسية. وتتمثل الشخصية الرئيسة في هذا الإطار في الشاعر صامويل تيلور كولريدج وفهمه المؤثر - وإن كان غريبا وشاذا - للمثالية والرومانسية الألمانية. ومن المهم جدا في هذا الصدد أيضا اثنتان من المقالات الطويلة، كتبهما جون ستيوارت مل حول جيرمي بنثام وكولريدج، وظهرتا في دورية «لندن آند ويستمنستر ريفيو» في عامي 1832 و1840 على التوالي. وفيما يتعلق بالتأثيرات الفلسفية الألمانية على كولريدج، يتحدث مل عن «فلاسفة الفلسفة القارية» و«الفلسفة القارية»، كما يتحدث أيضا عن «المذهب الألماني الكولريدجي» و«الفلسفة الفرنسية». يكتب مل في بداية مقالته عن كولريدج قائلا:
من يستطع فهم المقدمات المنطقية لفكر كولريدج وبنثام والجمع بين منهجيهما، فسوف يستوعب الفلسفة الإنجليزية بأكملها في عصرهما. اعتاد كولريدج قول إن كل شخص يولد إما أفلاطونيا وإما أرسطيا؛ وربما يمكن التأكيد على نحو مماثل بأن كل إنجليزي في وقتنا الحاضر يكون ضمنيا إما بنثاميا وإما كولريدجيا؛ أي يحمل آراء حيال الشئون الإنسانية، والتي يمكن إثبات صحتها فقط من خلال مبادئ بنثام أو تلك الخاصة بكولريدج.
الفكرة المثيرة للاهتمام هنا هي أن الجمع بين بنثام وكولريدج يمنح المرء الفلسفة الإنجليزية الكاملة لعصرهما. يرجع هذان الاتجاهان إلى سؤالين: إذ يعتقد مل أن بنثام يطرح السؤال التالي بشأن أي مذهب قديم أو رأي سائد: «هل هو صحيح؟» في حين يطرح كولريدج السؤال التالي: «ما معناه؟» إذن، «الفلسفة القارية» معنية بالمعنى، في حين أن مذهب بنثام المقابل لها معني بالصحة. ومن حيث المخطط المذكور في الفصل الأول، إذا كان بنثام معنيا بمسألة المعرفة، فإن كولريدج معني بمسألة الحكمة.
بطبيعة الحال، من المغري للغاية تحليل ما يقوله مل هنا نفسيا؛ لأنه في شتاء عام 1826-1827، عندما كان في سن العشرين، عانى من «أزمة نفسية» شديدة. فسأل مل نفسه - مثل الكثير من الشباب - ما إذا كان سيصبح سعيدا إذا تحققت كل أهدافه في الحياة، واضطر للإجابة بأنه لن يكون سعيدا. إن نفعية التعليم غير العادي الذي خضع له مل أنتجت معرفة ولكنها لم تكن كافية للحكمة، فضلا عن السعادة بالطبع. تغلب مل جزئيا على اكتئابه من خلال قراءة قصائد وردزوورث قائلا في هذا الصدد: «يبدو أني تعلمت منها ما سيكون المصادر الدائمة للسعادة.» تعلم مل - بحسب قوله - أنه «ليس شجرة أو حجرا»، وأدى ذلك لمعارضته لحكم بنثام بأن «الشعر ليس أفضل من لعبة الدبابيس». وحكم مل أنه كان أفضل بكثير من لعبة الدبابيس، وانغمس في قراءة أعمال أتباع كولريدج، وأسلافهم الألمانيين، مثل جوته، الذي أعجب مل ب «تعدد جوانبه»، واللغوي والفيلسوف الإنسانوي فيلهلم فون همبولت. وعندما سئل من قبل المؤرخ توماس كارليل عما إذا كان قد غير نظرته للأمور تماما، أجاب مل مشيرا إلى المنطق الذي ربي عليه: «أنا أومن بالنظارات.» ولكنه أضاف: «ولكني أومن أن العيون ضرورية أيضا.»
شكل 3-2: رسم كاريكاتيري لجون ستيوارت مل (1806-1873).
بالعودة إلى مقالتي مل، بنثام هو «المدمر» العظيم، أو «بلغة فلاسفة التقليد القاري: هو المفكر «النقدي» العظيم في عصره وبلده». وهو يباشر هذا النقد المدمر باستخدام طرق التحليل المنطقي والحس التجريبي السليم للسعي وراء حقيقة «الأمور العملية». بالنسبة إلى مل، بنثام هو امتداد عملي التفكير لشك هيوم نقل على وجه الخصوص إلى نطاقي القانون والحكم. وما يستحق بنثام الثناء عليه هو أنه استخدم هذه المواهب الناقدة بروح المصلح الاجتماعي من أجل تحسين الصالح العام. من ناحية أخرى، لم يكن كولريدج مهتما بالسعي وراء حقيقة الأشياء، ولكن بالسعي وراء معناها. على هذا النحو، ليس هذا المنهج مدمرا للمذاهب والتقاليد الفلسفية السائدة، وإنما يقدم إعادة بناء تأويلية لمعنى هذه المذاهب والتقاليد. بمصطلحات معاصرة، وبالتفكير في أعمال كوينتن سكنر المهمة، فإنه يمكن للمرء أن يطلق عليها منهجا «سياقيا» لتناول الأمور؛ بمعنى أنه إذا أردنا أن «نفهم» معنى ممارسة أو حدث معين أو بالطبع نص في الواقع، فإن علينا تحديد نشأته التاريخية ووضعه في إطار شبكة الحياة الاجتماعية والسياسية المعقدة؛ وبهذا المعنى - وربما على نحو مفاجئ - فإن «الفلسفة القارية الكولريدجية» هي المحافظة على التقليد والعدو الكبير للثورات الاجتماعية، في حين أن فلسفة بنثام هي المدمرة للتقليد وصديقة التغيير والتقدم الاجتماعيين. والمرء معتاد على التفكير في التمييز بين هذين التقليدين أو الاتجاهين على عكس ذلك؛ حيث تكون الفلسفة التحليلية محافظة ومنغلقة فيما يشبه غرفة استراحة الأساتذة الجامعيين الذين يرتدون ملابس تقليدية، والفلسفة القارية هي المقابل غير التقليدي للحذق العصري. وسوف نحظى على نحو مثير للاهتمام بفرصة تناول تقسيم سياسي مقابل في الصراع بين كارناب وهايدجر؛ حيث الأول إصلاحي وتقدمي، في حين أن الثاني - في أسوأ أحواله - رجعي ومحافظ.
ويمكننا عرض مخطط لبعض التقابلات المستقاة من مقالتي مل على النحو التالي:
بنثام
كولريدج
الحقيقة
المعنى
التدمير النقدي
إعادة البناء التأويلية
التغيير الاجتماعي والإصلاح
المحافظة الاجتماعية
التقدم
التقليد (فلسفة تحليلية) (فلسفة قارية)
بالنظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فإن التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية ليس تمييزا جغرافيا بين مكانين مختلفين، مثل بريطانيا وأوروبا القارية، بل هو اختلاف داخلي بالنسبة إلى ما يمكن تسميته ب «العقل الفلسفي الإنجليزي». بعبارة أخرى، هو اختلاف يرتبط بثقافة معينة؛ ثقافة من ثم منقسمة داخليا ومذهبية بالكامل. ويعبر مل عن هذه النقطة ببراعة، مقارنا الصراع الفلسفي بالتعصب الديني بقوله:
روح الفلسفة في إنجلترا - مثل تلك الخاصة بالدين - لا تزال مذهبية على نحو شديد؛ فالمفكرون المحافظون والليبراليون، وأنصار الفلسفة المتعالية والمعجبون بهوبز ولوك، يرى بعضهم بعضا خارج حدود ملة الخطاب الفلسفي، وينظر بعضهم إلى أفكار بعض باعتبارها فاسدة من جراء خطيئة أولى؛ مما يجعل دراستها برمتها - إلا لأغراض الهجوم عليها - غير مجدية، إن لم تكن ضارة.
على الرغم من أن هذا مكتوب منذ أكثر من مائة وخمسين سنة، فإنه ربما يكون وصفا جيدا للطريقة التي يرى بها كثير من الفلاسفة أعداءهم في المجال من الجانب الآخر للهوة - أو الرواق بين الأقسام - التي تفصل بينهم. وتخاطر الفلسفة الأكاديمية بأن تكون مذهبية مثل الصراع الديني الذي يدرس فيه المرء عدوه فحسب من أجل التحضير للهجوم عليه. ولكن دعنا لا نطيل النظر في هذه التفاصيل السيئة.
ما الذي يمكن القيام به حيال ذلك إذن؟ يقدم مل الاقتراح التالي المثير للاهتمام:
من بين الحقائق التي أدركها فلاسفة التقليد القاري منذ فترة طويلة، ولكن لم يتوصل إليها من الفلاسفة الإنجليز سوى عدد قليل جدا حتى الآن؛ حقيقة أهمية أساليب تفكير المعارضة، في الحالة الناقصة الحالية التي عليها العلوم النفسية والاجتماعية؛ والتي هي ضرورية لكل منها في التفكير، مثل الضوابط والتوازنات بين سلطات الدولة في أي دستور سياسي. وفي الواقع، الإدراك الواضح لهذه الضرورة هو الأساس المنطقي أو الثابت الوحيد للتسامح الفلسفي ...
ويمضي مضيفا أن الخطر الكبير في الأمور الفلسفية:
لا يتعلق بالاعتقاد بالباطل بدلا من الحقيقة، بقدر تعلقه بسوء فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة بالكامل. وقد يكون من المعقول القول إنه تقريبا في كل جدال من الجدالات الرئيسية، في الماضي أو الحاضر، في الفلسفة الاجتماعية، كان كلا الجانبين محقين فيما أكداه، على الرغم من أنهما مخطئان فيما أنكراه، وإنه لو بذل أحدهما بعض الجهد لتبني وجهة نظر الآخر بالإضافة إلى وجهة نظره، لكان سيحتاج للقليل من العمل حتى يثبت صحة مذهبه.
يمكن التقاط عدد من الخيوط من هذه الفقرة؛ بداية، ثمة حقيقة شائعة فيما يتعلق ب «الفلسفة القارية»؛ وهي الحاجة لأساليب تفكير معارضة؛ وهذا يعني أن الحقيقة لا يمكن العثور عليها في أي جزء من الكل، ولكن من خلال تأمل الكل على ما هو عليه. وعلى الرغم من أن مل لم يأت على ذكر هيجل، فإن هذه فكرة هيجلية خالصة؛ قريبة من مفهوم «الجدل» عند هيجل. يقول هيجل في تمهيد كتابه «فنومينولوجيا الروح»: «الحقيقي هو الكل.» وهذا يعني أنه إذا أراد المرء الوصول للحكمة والمعرفة الحقيقية في الأمور الفلسفية (ما يسميه هيجل «المعرفة المطلقة»)، فلا بد أن يستعرض المجموعة الكبيرة المتنوعة من الأطروحات والمواقف التي تشكل تاريخ وحاضر الفلسفة حيث يعبر كل منها عن حبة من حبات الحقيقة. ويسبب اختيار حبة واحدة من هذه الكومة خطر عدم الحصول على رغيف الخبز المغذي، الذي يمكن للمرء خبزه من كمية الحبوب الكاملة.
يقارن مل الحاجة لمثل هذه المعارضة أو الجدل بالضوابط والتوازنات التي تشكل جزءا أساسيا من النظام الليبرالي والديمقراطي للحكم. أحد المبررات لوجود نظام حزبي تنافسي في الحكم هو أنه من واجب المعارضة أن تتحقق باستمرار من سياسات وتشريعات الحزب المشكل للحكومة، والعكس صحيح عندما تعكس الأدوار. من وجهة نظر مل المتفائلة، الخطأ في الفلسفة هو سوء فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة بأكملها، أو كما يشير هيجل، وضع الخوف من الخطأ في مكانة أعلى من الرغبة في الحقيقة. بهذا المعنى، لا يتمحور الأمر حول مسألة البت فيما إذا كان بنثام أم كولريدج هو المحق، ولكن يتمحور حول رؤية كلا الاتجاهين الفلسفيين بمنزلة تعبير متحد عن حقيقة أكبر - وهي أن البشر مهتمون بمسألتي المعرفة والحكمة على حد سواء - وأن الأمر يتطلب النظارة للنظر من خلالها، والعينين للرؤية بهما. تتطلب الفلسفة التدمير النقدي والمنطقي وإعادة البناء التأويلية المتأنية؛ بمعنى أن الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية نصفان لكل ثقافي أكبر، ولن تتحقق الحقيقة في الأمور الفلسفية من خلال التأكيد على جانب واحد وإنكار الآخر، ولكن كما يقول مل من خلال: «تبني وجهة نظر الآخر بالإضافة إلى وجهة نظره.» (4) ثقافتان في الفلسفة
ذكرت باختصار ادعاءين تاريخيين حول الفلسفة القارية؛ إنها وصف ذاتي أكاديمي وسمة ثقافية. وباعتبارها وصفا ذاتيا، فإن الفلسفة القارية شر لا بد منه - ولكن ربما عابر - ناتج عن إضفاء الطابع الأكاديمي على المجال. وكسمة ثقافية، تعود الفلسفة القارية على الأقل إلى عصر مل، وما يمكن تعلمه من آرائه هو أن الفصل بين التقاليد الفلسفية هو تعبير عن صراع (وعلاوة على ذلك صراع مذهبي) داخلي لدى «الإنجليزية» وليس تقسيما جغرافيا بين العالم الناطق بالإنجليزية وأوروبا القارية. وعلى هذا النحو، فإن الهوة بين الفلسفة التحليلية والقارية هي تعبير عن انقسام ثقافي عميق بين عادات فكر مختلفة ومتعارضة؛ دعنا نسمها البنثامية في مقابل الكولريدجية، أو التجريبية-العلمية في مقابل التأويلية-الرومانسية. النقطة الأعمق التي يود مل التأكيد عليها، هي أن حقيقة الأمور الفلسفية والثقافية، أيا ما قد تكون، لا يمكن العثور عليها عن طريق اختيار أحد الجانبين؛ ومن ثم سوء فهم جزء على أنه الكل. بل الحقيقة - بكلمات هيجل - هي كل، والكل يجب فهمه في سياق حركته المنهجية وتطوره التاريخي. وآمل أن يسهم هذا الكتاب في اتجاه هذا الفهم.
في اعتقادي أن كثيرا من العداء والشك الذي يبديه فلاسفة التقليد التحليلي تجاه الفلسفة القارية، يحدث بسبب خلط هذين الادعاءين - الأكاديمي والثقافي - على نحو ضار وتبني أحد الجانبين. ولكن هذا العداء ليس دائما من جانب واحد؛ فبالإضافة إلى البهيمية البنثامية لبعض فلاسفة التقليد التحليلي، يمكن أيضا أن يقال إنه ينشأ من الجنون الكولريدجي لبعض فلاسفة التقليد القاري، عندما فشلوا في فهم أحوال موقعهم الثقافي والتحدث بلغة أهلهم؛ على سبيل المثال: يعد هايدجر ودريدا من الفلاسفة العظام، ولكن لا يوجد سبب على الإطلاق للكتابة مثلهما باللغة الإنجليزية. وكانت النتيجة تقليدا محرجا للآخرين في أحسن الأحوال، وكلاما غير مفهوم في أسوأ الأحوال. ما ينبغي على فلاسفة التقليد القاري فهمه إذن هو «إنجليزية» الفلسفة القارية. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع أن أخوض في هذا هنا، فإني أعتقد أنه يمكن تقديم ملاحظات مماثلة عن «أمريكية» أو «أسترالية» أو «كندية» الفلسفة القارية - على سبيل المثال - في العالم الناطق بالإنجليزية.
بعبارة أخرى، يوجد نوعان من الثقافات في الفلسفة، ولن يتغير في الفلسفة، أو في الواقع في الثقافة، سوى القليل، حتى يتم النظر في هذا الوضع على نحو ملائم. وبعد ما يقرب من مائة وعشرين عاما على نشر مقال مل حول كولريدج، في 7 مايو عام 1959، ألقى سي بي سنو محاضرة ريدي الشهيرة في جامعة كامبريدج، وفيها حلل فقدان الثقافة المشتركة وظهور ثقافتين مختلفتين: تلك التي يمثلها العلماء من جهة، وتلك التي يمثلها من سماهم سنو ب «المفكرين الأدبيين» من جهة أخرى. فإذا كان العلماء يؤيدون الإصلاح الاجتماعي والتقدم من خلال العلم والتكنولوجيا والصناعة، فإن المفكرين هم من سماهم سنو «اللوديين الطبيعيين» في فهمهم للمجتمع الصناعي المتقدم وتعاطفهم معه. وبعبارة مل، فإن التقسيم يقع بين البنثاميين والكولريدجيين. وفي كتاب «الثقافتان: نظرة ثانية» (1963)، الذي كتبه سنو بعد سنوات من الجدل الشديد في بعض الأحيان، الذي سببته محاضرته التي ألقاها في عام 1959، قدم الملخص التالي لحجته الرئيسية بأسلوبه النثري المقتصد البارع:
في مجتمعنا (أي المجتمع الغربي المتقدم) فقدنا حتى التظاهر بوجود ثقافة مشتركة؛ فالأشخاص المتعلمون الذين نعرف أنهم تلقوا تعليما مكثفا للغاية، لم يعودوا قادرين على التواصل بعضهم مع بعض على مستوى اهتماماتهم الفكرية الرئيسية. وهذا أمر خطير بالنسبة إلى حياتنا الإبداعية والفكرية، وحياتنا الطبيعية قبل كل شيء. وذلك يقودنا إلى تفسير الماضي على نحو خاطئ، وسوء الحكم على الحاضر، والحرمان من آمالنا للمستقبل. وهذا يجعل من الصعب أو من المستحيل بالنسبة إلينا اتخاذ الخطوات المناسبة.
قدمت المثال الأبرز على افتقاد التواصل هذا في صورة مجموعتين من الأشخاص تمثلان ما سميته «الثقافتين». تتضمن إحدى هاتين المجموعتين العلماء، الذين لا حاجة بنا إلى التأكيد على قيمتهم وإنجازاتهم وتأثيرهم؛ وتتضمن الأخرى المفكرين الأدبيين. وأنا لم أقصد أن هؤلاء المفكرين بمنزلة صناع القرار الرئيسيين في العالم الغربي، وإنما قصدت أنهم يعبرون عن حالة الثقافة غير العلمية، وإلى حد ما يشكلونها ويتنبئون بها؛ فهم لا يصنعون القرارات، ولكن كلامهم يتسرب إلى أذهان من يقومون بذلك. وبين هاتين المجموعتين - العلماء والمفكرين - يوجد تواصل ضئيل، وشيء من العداء، بدلا من التشارك في بعض الاهتمامات.
كان القصد من هذا وصفا للحالة الراهنة للأمور، أو تقريبا أوليا بسيطا جدا لها. وهذا وضع كرهته بشدة، وأعتقد أنه وضح على نحو ملائم.
التشابه هنا مع ملاحظات مل واضح، لا سيما العداء الذي يشعر به ممثلو كلتا الثقافتين بعضهم تجاه بعض. وكما هي الحال مع مل، فإنه من المغري إخضاع جهود سنو للتحليل النفسي. حصل سنو على شهادته الجامعية في الكيمياء بتفوق عام 1927، وفي عام 1928 بدأ العمل للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة كامبريدج، وذلك في مختبر كافنديش الشهير على مستوى العالم الذي كان يرأسه اللورد رذرفورد. ووصل النجاح إلى أن أصبح عالما بحثيا متميزا، وأصبح في عام 1964 الرجل الثاني في وزارة التكنولوجيا المنشأة حديثا على يد هارولد ويلسون. ومع ذلك، كان لديه دائما شغف بالأدب، وفي عام 1932، نشر قصة بوليسية بعنوان «موت تحت الشراع»، تبعتها سلسلة «غرباء وإخوة» التي وصل عدد رواياتها إلى ما لا يقل عن إحدى عشرة، حظيت بشعبية كبيرة؛ ومن ثم، وبطرق عديدة، كان تعبيره عن أزمة الثقافتين يمثل صرخة استغاثة من القلب. ومع ذلك، كما هي الحال مع مل، كانت تلك الأزمة أيضا جزءا من مرض ثقافي أكبر.
تعرض سنو لهجوم شرس على شخصه من قبل الناقد الأدبي والثقافي الأبرز في عصره إف آر ليفيس، الذي هاجم «قدرة سنو على الإقناع الزائف المتعدد الجوانب» ونقص الفهم الأدبي لديه. وتجاهل سنو على نحو صحيح تلك المحاولات النخبوية لتجاهل المشكلة، ولكن من الواضح أن ما تكشف عن مناقشات سنو وليفيس كان هو الصراع الذي أصبح الآن معروفا بين بنثام وكولريدج، صراع النفعية في مقابل الرومانسية. في الواقع، هذا اشتباك مألوف في التاريخ الثقافي الإنجليزي. وكمثال أخير، تاريخيا، ثمة خلاف بين تي إتش هكسلي وماثيو أرنولد في الفترة ما بين مل وسنو. باختصار، أيد هكسلي في محاضرة في عام 1880 ألقاها في برمنجهام - التي كانت تعد حينها المحور الصناعي لبريطانيا - التعليم العلمي في مقابل التعليم التقليدي السائد الذي كان يسيطر على الجامعات حينها. ورد أرنولد في محاضرة ريدي في عام 1882 في جامعة كامبريدج بعنوان «الأدب والعلم»، بالزعم بأن الأدب والعلم يمكن دمجهما في فهم أوسع وجرماني أكثر للعلم باعتباره المعرفة بمعناها الواسع. وعلى الرغم من كونه ردا بناء، فإن المقصد الحقيقي يظهر في معارضة أرنولد الراسخة لتنقيح الفكر الجامعي التقليدي؛ ومن ثم فإن نفس القصة تستمر، ومما لا شك فيه أنه ستظهر صور أخرى أكثر معاصرة منها.
ومن ثم، فإن اقتراحي هو أن علينا فهم التقسيم الحالي للفلسفة في ضوء نموذج الثقافتين؛ حيث إن الصراع بين قطبي هذا العداء يشكل ما نراه كثقافة. وعلى هذا النحو، من غير المرجح مطلقا أن يختفي أي من هذين القطبين أو كلاهما. وكما يقول مل، توجد حقيقة في هذا العداء عرفها «فلاسفة التقليد القاري» لبعض الوقت. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو أن يقتنع طرفا هذا العداء على الأقل بوجهة النظر القائلة بأن وجود الطرف الآخر أمر مشروع، وأنه ربما يوجد شيء لديه يمكن مناقشته، وفي أحسن الأحوال، التعلم منه.
العلاج الذي قدمه سنو للتعامل مع هذا التقسيم الفلسفي والثقافي بسيط جدا، ويمكن تلخيصه في كلمة واحدة: «التعليم». ومن وجهة نظري، إنه لا يزال محقا. وقد أدى هذا التشخيص الثقافي الذي قدمه سنو - على نحو مباشر إلى حد ما - إلى ظهور تقرير روبنز حول التعليم العالي في عام 1963، وإلى تأسيس عدد من «الجامعات الجديدة»: ساسكس، ووريك، ويورك، وكيل، وكينت، وإيست أنجليا، وجامعتي التي ارتدتها إسكس. وكان الهدف الضمني لهذه الجامعات هو معالجة مشكلة الثقافتين بالإصرار على حصول الطلاب على تعليم شامل؛ حيث ينبغي على علماء العلوم الطبيعية دراسة موضوعات من العلوم الإنسانية والاجتماعية، والعكس صحيح. ومن الحقائق المحزنة أنه نتيجة للهجوم على الجامعات الذي شنته حكومة تاتشر في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، تخلت هذه المؤسسات عن هذه المهمة إلى حد كبير، واحتل مكانها طلسم «تعدد التخصصات» المبهم.
وأخيرا، ربما نتأمل حجة ستيفن تولمين في كتاب «المدينة العالمية»؛ حيث يقول بجرأة إن هناك ثقافتين لأن هناك بدايتين للحداثة؛ إحداهما إنسانية، والأخرى عقلانية. إذا كان اسم ديكارت يرتبط عادة بهذه الأخيرة، فإن رأي تولمين هو أن الحداثة العلمية التي تبدأ في العقود الأولى من القرن السابع عشر تحجب - بل تشوه أيضا - الحداثة الإنسانية التي يمكن تتبع أصلها إلى التشكك الإنساني العملي التفكير لمؤلف «المقالات» لمونتين، الذي ظهر في عام 1580. بالنسبة إلى تولمين، كان هناك مسار مزدوج غير محدد للحداثة - بجانبيه الإنساني والعلمي - أدى إلى انهيار أو تفكك وحدة النظرية والتطبيق، أو الحقيقة والمعنى، أو المعرفة والحكمة. ويتمثل اقتراح تولمين المتفائل (مفرط التفاؤل في رأيي، ولكنه مثير للإعجاب مع ذلك) في أننا بحاجة إلى أنسنة الحداثة، وللقيام بذلك نحتاج إلى بعث الفلسفة العملية من جديد. ويعيد تنشيط كتابات فيتجنشتاين اللاحقة التشكك الإنساني لمونتين ويجدد الدافع العملي للتفلسف. يقول تولمين في هذا الصدد:
إذا كانت الثقافتان لا تزالان منفصلتين، فإن هذا ليس سمة خاصة ببريطانيا القرن العشرين وحدها؛ فهي تذكير بأنه كان للحداثة نقطتا انطلاق مختلفتين؛ واحدة إنسانية متأصلة في الأدب الكلاسيكي، وأخرى علمية متأصلة في الفلسفة الطبيعية في القرن السابع عشر.
ما لم يوضح حتى الآن هو السبب في عدم رؤية أن هذين التقليدين من البداية متكاملان، وليسا متنافسين. مهما كان المكتسب من جهود جاليليو وديكارت ونيوتن في الفلسفة الطبيعية، فإن شيئا ما فقد أيضا من خلال التخلي عن إرازموس ورابليه، وشكسبير ومونتين.
الفصل الرابع
هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
لا شيء يبدو لي عتيق الطراز أكثر من المثل التحرري الكلاسيكي.
جاك دريدا
بعد أن قدمت في الفصلين السابقين نوعا من السرد التاريخي للفلسفة القارية، دعني الآن أحاول تقديم سرد أكثر منهجية للاختلافات بينها وبين الفلسفة التحليلية. وسوف يأخذنا هذا لاستعراض الدور المهم للتقليد والتاريخ وما يسمى ب «التاريخانية». وسأنهي الفصل باقتراح نموذج معين للممارسة الفلسفية يدور حول ثلاثة مصطلحات: «النقد» و«الممارسة» و«التحرر». وستبدأ هذه المجموعة من المفاهيم - كما آمل - في شرح السبب في كون جانب كبير من الفلسفة في التقليد القاري يهتم بتقديم نقد فلسفي للممارسات الاجتماعية للعالم المعاصر، الذي يطمح نحو فكرة التحرر الفردي أو المجتمعي. بعبارة أخرى، يطلب جزء كبير من الفلسفة القارية منا أن ننظر إلى العالم على نحو ناقد بقصد تحديد نوع من التحول، سواء أكان شخصيا أم جماعيا. وفي رأيي، هذه هي مجموعة الافتراضات التي تعمل في الخلفية التي تربط الفلاسفة الكلاسيكيين مثل هيجل ونيتشه، مع ورثتهم المعاصرين من أمثال يورجن هابرماس وفوكو ودريدا. (1) شخصيات أم مشكلات؟
يعد ريتشارد رورتي واحدا من عدد قليل من الفلاسفة الناطقين بالإنجليزية، الذين حاولوا على نحو مستمر ومستميت إنهاء التقسيم بين الفلسفة التحليلية والقارية، من خلال العمل في كلا المعسكرين. ولذلك اتهم وعلى نحو غير مبرر من قبل كلا الجانبين أنه يفهم الأمور على نحو خاطئ. وقد مال رورتي لإرجاع أصل كل من التقليدين التحليلي والقاري إلى البراجماتية الأمريكية لجون ديوي. ويشير رورتي إلى أن الفارق بين التقليدين يتمثل على نحو أساسي في حقيقة أن الفلسفة التحليلية تتعامل مع مشاكل، في حين أن الفلسفة القارية تتعامل مع شخصيات. يبدو أن هذا بنحو أو بآخر صحيح لدرجة أن الفلسفة القارية عادة ما تمثل من قبل أشخاص مثلي على هيئة تسلسل زمني لشخصيات تبدأ بكانط، بدلا من النهج القائم على المشاكل الذي يميل المرء إلى ربطه بالفلسفة التحليلية. ولكن يجب على المرء أن يكون حذرا هنا؛ لأن معيار رورتي للتفرقة بين الفلسفتين يمكن أن يقال إنه نوع من التعميم الذي يؤكد الفكرة النمطية السخيفة، بأن الفلسفة القارية غير مهتمة إلى حد ما بالمشاكل والمحاججة الخاصة بها.
ومع ذلك تعكس ملاحظة رورتي شيئا مثيرا للاهتمام؛ فالكتب والأبحاث والمناقشات حول الفلسفة القارية المعاصرة - سواء أكانت في أوروبا القارية أم العالم الناطق بالإنجليزية - لديها ميل للتركيز على نصوص فيلسوف رئيسي معين، أو تقديم دراسة مقارنة لنصوص اثنين أو أكثر من الفلاسفة. وهكذا، بدلا من كتابة بحث بعنوان «مفهوم الحقيقة»، ربما يكتب المرء بحثا حول «مفهوم الحقيقة عند هوسرل وهايدجر»؛ وبدلا من كتابة بحث حول «النقد الجماعاتي لليبرالية»، يمكن للمرء أن يكتب عن «علاقة نقد هيجل لكانط بالنظرية السياسية المعاصرة»؛ وبدلا من الكتابة عن «حدود النظرية الأخلاقية»، يمكن للمرء أن يكتب عن «العودة الدائمة لنقد نيتشه الجينيالوجي للأخلاق»؛ وبدلا من الكتابة عن «مشكلة الهوية الشخصية»، ربما يكتب المرء حول «مفهوم الذات من كانط إلى دريدا»؛ وهكذا.
ومن الإنصاف أن نقول إن هذه الممارسة في كثير من الأحيان تربك وتغضب الفلاسفة الذين تدربوا على التقليد التحليلي، الذين يصرون على أن فلاسفة التقليد القاري يقدمون تعليقات فحسب ولا يقدمون فكرا جديدا؛ أي إنهم يقدمون فقط «تفسيرا للنصوص» ذا طابع فرنسي، وليس محاججة فلسفية دقيقة. ويرى كثيرون أن هناك ميلا كبيرا جدا نحو التعليق على حساب الأصالة في الفلسفة القارية المعاصرة في العالم الناطق بالإنجليزية. ولكن ما ينقص مثل هذه الانتقادات (ومعيار رورتي)، هو تحديد معالم ممارسة مختلفة للفلسفة بإدراك مختلف تماما لأهمية الترجمة والتعليق والتأويل والتقليد والتأريخ للبحث الفلسفي المعاصر. ليس الأمر أن الفلسفة في التقليد القاري رافضة للتعامل مع المشاكل؛ بل على العكس من ذلك؛ غالبا ما تتناول المشاكل «من الناحية النصية والسياقية»؛ ومن ثم تتطلب أسلوبا مختلفا للتعامل معها، النوع الذي قد يبدو غير مباشر على نحو أكبر. (2) النصوص والسياقات
ستانلي كافيل هو فيلسوف أمريكي كبير آخر رفض على نحو دائم السماح بتصنيف أعماله تحت النهج التحليلي أو القاري في التفكير. مع ذلك، وعلى النقيض من رورتي، يرى كافيل أن أصول كلتا الفلسفتين تعود إلى تقليد الفلسفة المتعالية الأمريكية المهمل فلسفيا، الذي يعبر عنه على نحو واضح في أعمال رالف والدو إيمرسون وهنري ديفيد ثورو. وكتب كافيل في بداية أعظم أعماله «زعم العقل» (1979) يقول: «كنت أرغب في فهم الفلسفة كمجموعة من النصوص وليس كمجموعة من المشكلات.» ومع ذلك، أعتقد أن هذا يوضح المقصد بقوة كبيرة. وأرى، بدلا من ذلك، أن مختلف التقاليد الفكرية التي شكلت الفلسفة القارية المعاصرة تشكل كوكبة محددة، على الرغم من أنها متغيرة باستمرار من النصوص، سيسطع فيها نجم بعض النصوص على نحو أكبر لفترة من الوقت ثم يخبو، لينجذب انتباهنا إلى ضوء نصوص أخرى. سوف يسطع نجم بعض هذه النصوص مثل النجوم العملاقة الحمراء لتغطي على كل شيء آخر في مجالها، في حين أن البعض الآخر سوف يخبو مثل الثقوب السوداء ويفشل في إصدار أي ضوء. وكما نعلم جميعا، فإن الطريقة التي تبدو عليها السماء ليلا تتحدد عن طريق مكاننا في العالم، وشدة بريق بعض النصوص سوف تعتمد على السياق الذي ينظر إليها من خلاله، وعوامل محتملة أخرى مثل كمية التلوث الفكري في المناخ الثقافي.
ولاختيار صورة واقعية أكثر، نقول إن نصوص التقليد القاري تشكل نوعا من الأرشيف الوثائقي للمشاكل الفلسفية، مع وجود علاقة واضحة بينها وبين سياقها وسياقنا، وهي تتميز بوعي قوي بالتاريخ. وسوف نستخدم مصادر مختلفة من هذا الأرشيف في أوقات مختلفة، اعتمادا على طبيعة المشاكل التي تواجهنا، والتي نسعى إلى إيجاد حلول لها. ولكن ما يميز العديد من النصوص في هذا الأرشيف هو أنها - على غرار أعمال هيجل، وماركس، ونيتشه - تتميز بوعي ذاتي تاريخي قوي لن يسمح بقراءتها دون الإشارة إلى سياقها أو سياقنا. وهذا النهج التاريخي هو النهج الذي اتبعته في الفصلين الثاني والثالث؛ حيث سعيت لتحديد الإشكالية الفلسفية لفكر ما بعد كانط، عن طريق توضيح التاريخ النصي والسياقي لتلك الفترة في العالم الناطق بالألمانية، والظروف التي وصل فيها هذا الفكر إلى العالم الناطق بالإنجليزية. لا يتمتع هذا النهج فحسب بالميزة الكبيرة المتمثلة في تقديم تاريخ الفلسفة في صورة جيدة للقراءة تجعل المرء راغبا في معرفة المزيد عنها، ولكنها تلمح أيضا إلى أن النقاش الفلسفي المنهجي لا يمكن فصله عن الظروف النصية والسياقية لنشأته التاريخية.
اسمح لي أن أقدم أربعة أمثلة حديثة على ذلك: (1)
كان الاهتمام بكتاب كانط «نقد ملكة الحكم» في ثمانينيات القرن العشرين، وعلى وجه التحديد الاهتمام بمناقشة مفهوم التعالي؛ سببا ونتيجة للمشاكل التي طرحها خلاف الحداثة/ما بعد الحداثة. وعلى هذا النحو، اعتمدت النقاشات الحادة في كثير من الأحيان بشأن ما إذا كانت الحداثة انتهت (وهو موقف جان-فرانسوا ليوتار) أو ببساطة غير مكتملة (وهو موقف هابرماس)؛ على كيفية قراءة المرء لكانط وأي أعماله يختار أن ينصب تركيزه عليها. ولحسن الحظ أصبح هذا الخلاف مبتذلا إلى حد كبير، وتخطته المناقشات. (2)
عندما كنت طالبا جامعيا في تخصص الفلسفة خلال أوائل ثمانينيات القرن العشرين، كان شيلينج اسما لم نسمع به أو سمعناه فقط مرتبطا بنقد هيجل المبكر لعمله. ونشأت زيادة الاهتمام الحديثة بأعمال شيلينج من المشاكل الفلسفية الملموسة في الاستقبال الأنجلو أمريكي للفكر «ما بعد البنيوي» الفرنسي. وأصبح من الواضح أن شكل المحاججة لدى مفكر مثل دريدا، يحمل أوجه تشابه ملفتة للنظر لذلك الخاص بشيلينج، وإذا كانت هذه هي الحال، فربما لم تكن «التفكيكية» طليعية جدا كما كان متصورا سابقا. (3)
يعتبر إيمانويل ليفيناس في الوقت الراهن عموما واحدا من أعظم الفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين. مع ذلك، لاقت أعماله تجاهلا على نحو كبير في فرنسا حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين. ويبدو أن الفيض الحالي للأعمال حول فلسفة ليفيناس كان نتيجة مباشرة للمعلومات الجديدة التي تم الكشف عنها في شتاء عام 1986-1987 حول مدى تورط هايدجر المخزي مع النازية؛ لذلك، ينشأ الاهتمام بأعمال ليفيناس في سياق ضيق الأفق الأخلاقي والسياسي لتفكير هايدجر، وضمنيا التفكير الذي استلهم من هايدجر، لا سيما تفكيكية دريدا. (4)
بالاستثناء الواضح للعمل الرائد لتشارلز تيلور، كان هيجل حتى وقت قريب بعض الشيء شخصية مغمورة نوعا ما في الفكر الفلسفي الأنجلو أمريكي. والتجدد الحالي للاهتمام بأعمال هيجل ناتج عن المناقشات في الفلسفة الأنجلو أمريكية المعاصرة في أعمال جون ماكدويل وروبرت براندوم وغيرهما، حول قصور الفلسفة الطبيعية والحاجة إلى إيجاد وسيلة لمواءمة الطبيعة مع الحرية أو العقل.
يمكن تقديم أمثلة أخرى من هذا النوع؛ حيث تعمل الفلسفة القارية كنوع من الأرشيف النصي الكبير لمشكلات فلسفية محددة السياق؛ فأية مشكلة فلسفية معاصرة مهمة سوف تؤدي بالمرء إلى استدعاء نص ومجموعة من المفاهيم من هذا الأرشيف. وطريقة مضي المرء قدما من الناحية الفلسفية تكون بالنظر إلى الماضي بطريقة جديدة.
بعبارة أخرى، بالنسبة إلى الفلسفة القارية، فإن المشاكل الفلسفية لا تسقط من السماء جاهزة، ولا يمكن التعامل معها كعناصر في خيال لا تاريخي من «الفلسفة الدائمة». وقراءة المرء لنص فلسفي كلاسيكي من هذا التقليد لا تأخذ شكل نقاش على العشاء في الجامعة، بقدر ما تكون في صورة اجتماع مع شخص غريب من أرض بعيدة بدأ المرء للتو فهم لغته، وبصعوبة. أتذكر - بحرج شديد - تقديم بحث إلى بعض الفلاسفة في إحدى الجامعات البريطانية الكبرى بعد بداية مسيرتي الأكاديمية بقليل، وعلى العشاء، وبعد تحمل حديثي الطويل حول تغير معنى مفهوم الذات من أرسطو إلى ديكارت إلى هايدجر إلى دريدا، سئلت: «لماذا لا يمكنني قراءة أعمال ديكارت كما لو كنت أتناول العشاء معه، تماما مثلما أتناول العشاء معك؟» أجبت بأن ديكارت توفي قبل 350 عاما، بعد أن رأى رأي العين الفوضى الشديدة التي نتجت عن حرب الثلاثين عاما، وأنه كتب باللاتينية والفرنسية، وأنه استخدم أجناسا أدبية معينة مثل مقال السيرة الذاتية (في عمله «مقال عن المنهج»)، والممارسة الروحية (في عمله «تأملات في الفلسفة الأولى»)؛ ولذلك، استنتجت أنه لا يمكن للمرء أن يطلع ببساطة على كل تلك العوامل ليقرر ما إذا كانت حججه صحيحة أم لا. ولا حاجة بي إلى قول إنني فشلت في إقناع محدثي وغيره من الضيوف على العشاء، ولكن المشهد مع ذلك مفيد في توضيح وجود اختلافات بيننا في النهج الفلسفي.
وهذا يعني أن المشاكل الفلسفية - نصيا وسياقيا - «متجذرة»، وفي الوقت نفسه «منفصلة». وهذا المزيج من التجذر والانفصال ربما هو ما يفسر السبب في أن المشاكل التي تبدو هامشية، الخاصة بالترجمة واللغة والقراءة وفهم النص والتفسير وتأويل التاريخ، لها هذه الأهمية الكبيرة في التقليد القاري. بطبيعة الحال، هذا غالبا ما يترك المرء معرضا للتهمة الغريبة بأنه يسلك مسلكا «أدبيا» بدلا من المسلك «الفلسفي»، كما لو كانت افتراضات الفيلسوف لها علاقة شفافة ودون وساطة بالتجربة؛ وهي الرغبة التي يبدو أنها تقوم على ما سماه ويلفريد سيلرز «وهم المعرفة الموهوبة»، وهي فكرة أن المعرفة الفلسفية تقوم على نحو واضح وصريح على الأمور التي نكون على دراية بها على نحو مباشر أو تكون «مباشرة أمام العقل». (3) التقليد والتاريخ
وهكذا، وعلى الرغم من أن الاعتماد في التفرقة بين التقليد التحليلي والقاري على اختلاف سطحي يتمثل في اعتماد الأول على المشكلات والثاني على الشخصيات، لا يعد كافيا؛ فهو يؤدي إلى أسئلة أعمق حول التقليد والتاريخ، وأهمية هذا الأخير بالنسبة إلى التقليد القاري. ربما أسهل وسيلة وأكثرها إيجازا لتحديد الفارق بين الفلسفتين تكون من حيث ما تراه كل منهما على أنه شكل تقليدها الفلسفي والفلاسفة الذين يمثلون هذا التقليد؛ وهذا يعني أن ما يهم هو التقليد الذي «يشعر» الفيلسوف بالانتماء إليه، مع معرفة من الذي يعتبر سلفا أو مرجعا له (وربما الأهم من ذلك، معرفة من الذي لا يعتبر كذلك؛ وفي بعض الأحيان دون معرفة السبب). وهكذا، في حين أن فيلسوف التقليد التحليلي ربما يرى فريجه وراسل وجي إي مور باعتبارهم مرجعيات له، فإن فيلسوف التقليد القاري ربما يرى هيجل وهوسرل وهايدجر كذلك. وبهذا المعنى، يمكن التفرقة بين الفلسفة التحليلية والقارية من خلال أسلافهما، مثل بورتريهات وصور العائلة القديمة؛ حيث يمكن للمرء اكتشاف التشابه بين الوجوه القديمة الموجودة بتلك الصور وورثتهم في الوقت الحاضر.
ولكن التفرقة بهذه الطريقة لا تدخل إلى صميم المسألة حقا؛ لأن ما هو مثير في الفلسفة التحليلية - من منظور الفلسفة القارية - هو أنها حتى وقت قريب جدا لم تكن لديها وعي ذاتي بتقليدها على نحو غريب. وبدأ هذا في التغير، وقدمت أعمال مهمة حول أصول الفلسفة التحليلية، سواء فيما يتعلق بجذورها الألمانية لدى فريجه، كما رأينا بالفعل في حالة دوميت، أم فيما يتعلق بنقد راسل للمثالية البريطانية. ويمكن النظر إلى ظهور الفلسفة التحليلية في العقود الأولى من القرن العشرين على أنه يسير بالتوازي مع حركات حداثية أكبر في الشعر والفنون الجميلة والهندسة المعمارية. وبوضع هذا في الاعتبار، فإنه ربما ليس من قبيل المفاجأة أن فيتجنشتاين لم يكن فحسب مؤلف كتاب «رسالة منطقية فلسفية»، ولكنه صمم أيضا وبنى منزلا بأقل الأساليب الحداثية تكلفة لأخته في فيينا.
ثمة عرض مهم آخر في «التأريخ» الحديث للفلسفة التحليلية يتمثل في أن السيرة الذاتية أصبحت مادة للاهتمام الفلسفي المشروع والفضول الثقافي الكبير. والمثال هنا مرة أخرى هو فيتجنشتاين في كتاب راي مونك الرائع «لودفيج فيتجنشتاين: واجب العبقري» (1990)، وفي فيلم ديريك جرمان الأقل روعة: «فيتجنشتاين» (1993). وقد تعزز هذا التحول نحو السير الذاتية في عام 1996 بالسيرة الذاتية لبرتراند راسل التي كتبها مونك، والسير الذاتية الناجحة الحديثة التي كتبها أشعيا برلين وإيه جيه آير. وعلى الجانب القاري، تعد السيرة الذاتية الفكرية لهايدجر من تأليف روديجر زافرانسكي جديرة بالذكر. وتكمن جاذبية السيرة الذاتية في أن إنتاج الفيلسوف الفكري يمكن النظر إليه باعتباره تعبيرا عن توجه وجودي معين. وعلى هذا النحو - وهذا هو أهم عوامل جاذبية فكر فيتجنشتاين - يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها متجسدة في صورة أسلوب حياة. وهكذا، فإن تأييد أو مناصرة وجهات نظر فيلسوف معين قد تؤدي إلى محاكاة أو محاولة مضاهاة معينة لتلك الحياة، ويرى المرء كل هذا طوال الوقت على المستوى الأكاديمي؛ حيث لن يدافع طلاب فيلسوف شهير ذي كاريزما عن مذهبه فحسب، ولكنهم أيضا سيقلدون إشارات يديه، وتردده في الكلام، والمشكلات التي يعاني منها في الحديث، وحتى تدخينه، وشربه للخمور، وعاداته الجنسية. وليست كلمة التلمذة كلمة قوية بما يكفي للدلالة على ما يجري هنا. ولكن هذا ليس بالفكرة الجديدة؛ حيث إن السيرة الذاتية كانت أداة رئيسة في التعليم الفلسفي في العالم القديم؛ وهي تتضح بمثال سقراط، وكذلك أيضا في مختلف المدارس الهلينستية اللاحقة، مثل الرواقية والأبيقورية؛ ففي السيرة الذاتية، تندمج الفلسفة مع أسلوب للحياة. (4) التاريخانية والتحرر
وبقاء مع مسألة التاريخ، أزعم أن جانبا كبيرا من التقليد القاري سيرفض صحة التمييز بين الفلسفة وتاريخ الفلسفة المطبق في جزء كبير من التقليد التحليلي. وهذا هو أيضا السبب في أن التركيز على تقليد ما بعد كانط مهم للغاية بالنسبة إلى الفلسفة القارية؛ لأن مسألة التاريخ تصبح هنا محورية فلسفيا في أعمال هامان وهيردر، وأهم من ذلك كله في أعمال هيجل، باستثناء ملحوظ لأعمال جيامباتيستا فيكو وجان جاك روسو. ويمكن القول إن من أهم مزايا الفلسفة القارية هي أنها تسمح للمرء بالتركيز على الطابع التاريخي الجوهري للفلسفة كممارسة، والطبيعة التاريخية الجوهرية للفيلسوف الذي يقوم بهذه الممارسة. وهذا هو النظر فيما يعرف عادة ب «التاريخانية».
وهذا النظر في التاريخانية يترتب عليه أنه لم يعد من الممكن، على نحو مشروع، إحالة المسائل الفلسفية العميقة حول معنى وقيمة الحياة البشرية إلى الموضوعات التقليدية للميتافيزيقا التأملية - الإله والحرية والخلود - وهي المواضيع التي اعتبرها كانط خالية من المعنى على المستوى المعرفي، على الرغم من أنه يمكن الدفاع عنها أخلاقيا. بدلا من ذلك، يعني إدراك التاريخانية الجوهرية للفلسفة (والفلاسفة) أمرين: (1) «التناهي» الأساسي للذات الإنسانية؛ أي إنه لا توجد نقطة مرجعية أو نقطة استشراف تشبه تلك الخاصة بالإله خارج التجربة الإنسانية، يمكن من خلالها وصف خبرتنا والحكم عليها؛ أو إن كانت موجودة، فإننا لا نستطيع أن نعرف شيئا عنها. (2)
الطابع «العارض» أو «المبتدع» تماما للتجربة الإنسانية؛ أي إن التجربة الإنسانية بشرية تماما، فنحن من نصنعها ونعيد صنعها، وظروف هذه العملية بطبيعتها عارضة.
شكل 4-1: هيجل وهو يؤلف كتاب «فنومينولوجيا الروح»، غافلا عن معركة ينا الدائرة خارج نافذته، في 14 أكتوبر 1806. (اللوحة بريشة فيليبس وارد.)
بمجرد أن ينظر للإنسان باعتباره ذاتا متناهية متضمنة في شبكة عارضة جوهريا من التاريخ والثقافة والمجتمع، حينها يمكن للمرء أن يبدأ في فهم سمة مشتركة بين كثير من الفلاسفة في التقليد القاري؛ وهي المطالبة بتغيير الأمور . إذا كانت التجربة الإنسانية صنعا عارضا، فيمكن إعادة صياغتها بطرق أخرى. وهذه هي المطالبة بتغيير ممارسة الفلسفة أو الفن أو الشعر أو التفكير بحيث تكون قادرة على التعامل مع الحاضر وانتقاده، وفي نهاية المطاف تحريره. وهكذا، فإن المطالبة التي تسري في جزء كبير من الفكر الفلسفي القاري، والتي تستمر في إلهام فلاسفة مثل هابرماس ودريدا، هي أن «يحرر» البشر أنفسهم من ظروفهم الحالية، وهي الظروف التي لا تؤدي للحرية. وكما قال روسو، وكان هذا هو السعي الأساسي للرومانسيين الألمان والإنجليز الشباب في نهاية القرن الثامن عشر: «ولد الإنسان حرا، ولكنه مقيد في كل مكان.» لذا، فالنقد والتحرر عنصران أساسيان لا يمكن الفصل بينهما.
شكل 4-2: نسخة مصورة من الصفحة الأولى من «البرنامج النسقي».
العبارة الأكثر إثارة التي أعلمها حول العلاقة بين النقد والتحرر، يمكن أن نجدها في شكل غريب وبسيط على نحو رائع في نص قصير مكتوب على كلا وجهي ورقة واحدة، يعود تاريخها على الأرجح إلى صيف عام 1796؛ النص الذي يطلق عليه «أقدم برنامج نسقي للمثالية الألمانية» (انظر الملحق في نهاية هذا الكتاب). وأثبتت الدراسات الفيلولوجية أن هذا النص مكتوب من قبل هيجل الشاب، على الرغم من أن الأفكار الواردة به تعبر أكثر عن أفكار شيلينج الشاب، وإلى حد أقل، عن أفكار الشاعر الألماني الكبير يوهان كريستوف فريدريك هولدرلين. في الواقع، قبل بضع سنوات من ظهور هذا النص، كان الثلاثة قد درسوا معا في كلية اللاهوت في توبنجين بجنوب ألمانيا، وارتقى بعد ذلك شيلينج السلم الأكاديمي حتى أصبح أستاذا جامعيا في جامعة ينا عام 1798 في سن مبكرة مذهلة وهي الثالثة والعشرين. ولنص «البرنامج النسقي» هذا تاريخ غريب؛ فعلى الرغم من أنه اكتشف عن طريق محرري أعمال هيجل غير المنشورة فورستر وبومان، فإنه لم يتم تضمينه في مجموعتهما من الكتابات الهيجلية المتنوعة التي ظهرت في عام 1834-1835؛ ربما لأن النص لم يكن منسجما على نحو جيد مع وجهات النظر الأكثر تحفظا لهيجل الناضج. كان هذا النص واحدا من آخر نصوص هيجل التي عرضت للبيع بالمزاد في برلين في عام 1913، عندما اشترته مكتبة الدولة البروسية. وكان أول نشر للنص والتعليق عليه في عام 1917، عندما جذب انتباه الفيلسوف الألماني اليهودي الكبير فرانس روزنزويج، الذي منح النص عنوانه الشهير الآن، والذي بدأ النقاش الفلسفي الواسع الذي أثاره «البرنامج النسقي».
يبلور النص بدقة عددا من الموضوعات في فكر ما بعد كانط. وفيما يلي ثماني نقاط نقاشية رئيسية يثيرها، ولكن يوجد غيرها: (1)
الفكرة (التي عرضنا لها بالفعل في الفصل الثاني) التي تفيد بأن ما هو مطلوب فلسفيا بعد كانط هو المصالحة بين ثنائيات النظام النقدي، مضافا إليها الفكرة الرومانسية القائلة بأن العمل الفني هو الوسيلة لمثل هذه المصالحة. فالعمل الفني يقدم صورة حسية للحرية، ويصنع انسجاما بين مجالي الطبيعة والعقل. (2)
فكرة أنه من أجل خلق هذا العمل الفني، يجب أن يصبح الفيلسوف مثل الشاعر، ويمتلك القدرات الجمالية نفسها. فيجب أن تصبح الفلسفة والشعر - اللذان انفصلا منذ كتاب أفلاطون «الجمهورية» - شيئا واحدا. (3)
توحيد الفلسفة والشعر في عمل فني هو من النوع الذي يتطلب «ميثولوجيا العقل»، التي من شأنها أن تسمح للناس بأن يصبحوا عقلانيين، وتسمح للفلاسفة بأن يصبحوا حسيين. وعندما يحدث هذا، «سوف تسود الوحدة الأبدية بيننا». الفكرة هنا هي أنه من أجل أن تصبح أفكار العقل فعالة اجتماعيا، يجب أن تصبح ملموسة؛ ومن ثم، فإن الطريقة التي يجب بها تجنب شكلية العقلانية الكانطية، هي من خلال تجسد العقل في شكل ميثولوجيا. وهذا هو ما يطلق عليه أيضا في النص «دين حسي». (4)
بعد ذلك تعمل ميثولوجيا العقل بمنزلة ما يمكن أن نسميه الأيديولوجية في السياسة؛ وهي الأيديولوجية التي تكون نقدية وتحررية على حد سواء. (5)
نقدية لأنه من أجل تحقيق الحرية علينا تدمير ما يقف في طريقها، وهو ما يعرف في النص بأنه آلية الدولة، التي تتعامل مع الشعب الحر مثل الآلات؛ ولذلك، ذكر في النص على نحو تحذيري أنها «يجب أن تنتهي». وهذا التدمير للدولة يعني أيضا ضمنيا القضاء على دين الدولة، الذي يتميز ب «نظرة احتقار»؛ حيث يرتعد الشعب الحر «أمام حكمائه وكهنته». (6)
وتحررية لأن الهدف من ميثولوجيا العقل هو الوصول لتنظيم جديد للمجتمع قائم على الحرية والمساواة: «وعندها فقط يمكن أن نتوقع النمو «نفسه» للقوى «جميعها».» (7)
لذا، من خلال الطاقة الإبداعية للفن في شكل ميثولوجيا العقل يمكن أن نشير إلى أبعاد الحياة المتحولة سياسيا. وهذا يكشف ما يمكن أن نسميه «روسوية» المثالية والرومانسية الألمانية المبكرة، التي أرادت وضع شكل جديد من أشكال السلوك الاجتماعي الأخلاقي، مع وجود حرية ومساواة بين جميع الرجال والنساء. وبالنسبة إلى الرومانسيين على وجه الخصوص، في إنجلترا وكذلك في ألمانيا، فإن هذا كان يعني مجتمعا قائما على الصداقة؛ حيث يكون كل الأصدقاء أحرارا ومتساوين. (8)
وهكذا، في اليوتوبية الساذجة على نحو رائع لهذا النص المنسي في السابق، يرى المرء إلهام نقد كانط للميتافيزيقا ممزوجا بالروح التحررية للثورة الفرنسية لعام 1789 لإنتاج بيان جمالي؛ حيث «تكون الحقيقة والخير أخوين فقط في الجمال». وكما قال الناقد الماركسي العظيم جورج لوكاش عن رومانسية ينا: «كانت كالرقص على فوهة بركان ثائر، كانت حلما متوهجا بعيد الاحتمال.» كان بالفعل بعيد الاحتمال تماما، لكنه لا يزال متوهجا.
شكل 4-3: لوحة لأوجين ديلاكروا (1798-1863)، بعنوان «الحرية تقود الشعب»، 28 يوليو 1830. (5) تناول التقليد بطريقة غير تقليدية بالمرة
إذن، الفلسفة القارية جزء لا يتجزأ من علاقتها بتقليدها. في الواقع، هذه فكرة قابلناها بالفعل في تصنيف مل لبنثام وكولريدج في سياق التمييز بين التقدمية والمحافظة. ولكن مل متسرع للغاية في ربطه بين التقليد والمحافظة. وفي واقع الأمر، صحيح أن العلاقة بالتقليد يمكن أن تكون محافظة على نحو اجتماعي، كما هي الحال في أعمال كولريدج الناضج أو في المحافظة السياسية الكلاسيكية لإدموند بيرك؛ ومع ذلك، فإن تناول التقليد ليس من الضروري أن يكون تقليديا على الإطلاق، ما دام ما يحاول مفهوم التقليد استعادته هو شيئا مفقودا أو منسيا أو مكبوتا في الحياة المعاصرة. وعلى هذا النحو، تناول التقليد ليس من الضروري أن يكون انصياعا محافظا في مواجهة الماضي، ولكن يمكن بدلا من ذلك أن يأخذ شكل مواجهة «نقدية » مع تاريخ الفلسفة والتاريخ على ما هما عليه. وهذا التصور النقدي للتقليد هو ما يسميه هايدجر «تفكيك» أو «تجريد» تاريخ الميتافيزيقا؛ وهما الكلمتان اللتان حاول دريدا الشاب إدخالهما للفرنسية بكلمة
déconstruction (أي التفكيكية). ينبغي تناول مفهوم التفكيكية المثير للجدل على نحو غير مثير للجدل، ثم ينظر إليه على أنه محاولة تفكيك نقدية للتقليد، من حيث ما لم يخضع للتفكير داخله وما يبقى للتفكير فيه من خلاله؛ وبهذا المعنى، يمكن للمرء أن يتحدث عن تجربة راديكالية للتقليد. اسمح لي أن أحاول جعل هذا الأمر ملموسا على نحو أكبر باللجوء إلى طريقتين بارزتين للتفكير في التقليد راديكاليا؛ وهما طريقتا هوسرل وتلميذه الأكثر شهرة، هايدجر.
يمكن القول إن التقليد له معنيان: (1)
شيء موروث أو منقول إلينا دون مناقشة أو استقصاء نقدي. هذا هو المفهوم المحافظ للتقليد الذي يتحدث عنه مل فيما يتعلق بكولريدج. (2)
شيء مقدم أو منتج من خلال التعاطي النقدي مع المعنى الأول للتقليد؛ أي تناول للتقليد ليس بأية حال من الأحوال تقليديا؛ تقليد راديكالي.
شكل 4-4: بورتريه لإدموند هوسرل (1859-1938) وهو طالب.
وهذا المعنى الثاني للتقليد هو المعنى المشترك - ليس دون بعض الاختلافات الجوهرية، ولكن هذا موضوع آخر - لدى هوسرل وهايدجر. بالنسبة إلى هوسرل، في كتاب «أزمة العلوم الأوروبية» (1954) الذي نشر بعد وفاته، يتوافق معنيا التقليد مع التمييز بين التجربة «المترسبة» والتجربة «المنشطة» للتقليد. ومن المفيد أن نفكر في الترسيب من الناحية الجيولوجية باعتباره عملية ترسيخ أو تثبيت. وبالنسبة إلى هوسرل، الترسيب يكمن في نسيان أصل حالة الأشياء. اسمح لي أن أستخدم مثال هوسرل الشهير حول الهندسة، الذي يظهر في مقاله الذي نشر في عام 1936 بعنوان «أصل الهندسة»، كملحق لكتابه «أزمة العلوم الأوروبية»، ولا ينبغي أن ننسى أن هذا المقال كان موضوع كتاب دريدا الأول، الذي كان مجرد ترجمة وتعليق على مقال هوسرل. ببساطة، كانت حجة هوسرل الرئيسية هي أنه إذا ما نسي المرء أصل الهندسة، فإنه سينسى الطابع التاريخي لهذا المجال. ولكن لماذا يعد هذا أمرا مهما؟ إنه مهم لأن الهندسة تظهر في أكثر أشكالها نقاء ما يسميه هوسرل «التوجه النظري»، وهو الموقف الذي تأخذه العلوم الطبيعية نحو أهدافها. تتمثل فكرة هوسرل في أن إعادة تنشيط المعرفة بأصل الهندسة يعد تذكيرا بالطريقة التي ينتمي من خلالها التوجه النظري للعلوم إلى سياق اجتماعي وتاريخي محدد، ما يطلق عليه هوسرل الاسم الشهير «عالم الحياة». هدف هوسرل النقدي والجدلي هو أن نشاط العلم، منذ جاليليو، أسفر عما يسميه «إضفاء الطابع الرياضي على الطبيعة»، والذي يتغاضى عن الاعتماد الضروري للعلم على الممارسات اليومية لعالم الحياة؛ فتوجد فجوة بين المعرفة والحكمة، بين العلم والحياة اليومية. وهذا هو الموقف الذي يدعوه هوسرل «أزمة»، والذي يحدث عندما يحدد التوجه النظري للعلوم الطريقة التي ينظر بها إلى جميع الكيانات. ومهمة الفلسفة - بمعناها عند هوسرل (أي الفنومينولوجيا) - هي الانخراط في تأمل نقدي وتاريخي لأصل التقليد، يسمح بحدوث تجربة نشطة ومنشطة للتقليد لمواجهة الجوانب الساذجة في تصورنا الحالي للماضي.
لا تختلف الأمور كثيرا في تصور هايدجر المبكر للتفكيكية؛ تفكيكية تاريخ الأنطولوجيا، التي ليست مطلقا وسيلة لتدمير الماضي، ولكنها وسيلة للبحث عن الميول الإيجابية للتقليد، والعمل على مواجهة ما يصفه هايدجر ب «تحيزاته الضارة». والتفكيكية هي نتاج لتقليد كشيء مصنوع ومصاغ من خلال عملية تكرار أو استرجاع. الفكرة هنا هي التوصل إلى علاقة أصلية مع التقليد من خلال عملية استرجاع أو تكرار؛ حيث يعيد المرء المعنى الأصلي لحالة الأشياء من خلال عملية تأمل نقدي وتاريخي. ويعد المثال الرئيسي لدى هايدجر هو الطريقة التي يرتبط بها الوجود - الكينونة - بالزمان، وهو الارتباط الذي يدعي أنه تم إخفاؤه في تقليد الميتافيزيقا الغربية منذ وقت الإغريق؛ لذلك، على المرء أن يدمر الإدراك المنقول والمبتذل حيال الماضي من أجل تجربة القوة الخفية والمدهشة للتاريخ. وفي الفترة التي ظهر فيها كتاب «الكينونة والزمان» (أي أواخر عشرينيات القرن العشرين)، يوضح هايدجر الفرق بين التقليد المستقبل والتقليد المدمر في سياق التمييز بين التقليد والتراث؛ ومع ذلك، هذا لا يعني أن التقليد يندمج مع نوع من صناعة التراث، بل يلعب هايدجر على معنى الفعل الألماني
Überliefern (أي يسلم، أو ينقل)، للإشارة إلى أن العلاقة الأصيلة بالماضي هي علاقة تسلم إمكاناته الخفية وتكشف عنها. وعلى هذا النحو، بالنسبة إلى هايدجر، يتطلب الوجود الحقيقي كشرط مسبق له تجربة راديكالية للماضي وليس تجربة منقولة.
من المهم أن نشير إلى أن الهدف من تأملات هوسرل وهايدجر حول التقليد - وهذا ينطبق أيضا على تأملات هيجل حول تاريخ «الروح» ومفهوم نيتشه للعدمية كما سنوضح فيما بعد - ليس الماضي في حد ذاته، ولكن «الحاضر»، وعلى وجه التحديد «أزمة» الحاضر. يشعر بالأزمة الحقيقية للعلوم الأوروبية أو ما يطلق عليه هايدجر «محنة الغرب» في عدم وجود محنة: «أزمة، أي أزمة؟» إن الأزمة الحقيقية تكمن في عدم وجود أزمة، والمحنة الحقيقية تكمن في عدم وجود محنة. وربما يشير دوستويفسكي ساخرا إلى أنه في مثل هذه الحالة من النسيان، ننزل إلى مستوى الماشية السعيدة. وهكذا، فإن المعنى المنشط أو المحطم للتقليد - أي تقليد راديكالي - يتيح لنا وعيا نقديا للحاضر. (6) الفلسفة كنتاج لأزمة
يمكن القول إن المسألة المحورية للفلسفة في التقليد القاري هي مسألة الممارسة؛ وهذا يعني حياتنا الراسخة تاريخيا وثقافيا كأنفس متناهية في عالم من صنع أيدينا. وهذه المسألة هي التي تدفع الفلسفة نحو نقد الأوضاع الحالية؛ حيث إن الظروف لا تؤدي للحرية، ونحو المطلب التحرري المتمثل في تغيير وضع الأمور؛ الحاجة لإحداث تحول في ممارسة الفلسفة أو الفن أو التفكير أو السياسة. ولعل هذه الحقيقة تبدأ في شرح ميزة للفلسفة في التقليد القاري ربما تكون محيرة، وهي موضوع «الأزمة» الذي يجري - بأشكال مختلفة - مثل نهر جوفي عبر تقاليد المثالية الألمانية والماركسية والفنومينولوجيا والتحليل النفسي ومدرسة فرانكفورت. ويمكن العثور على فكر الأزمة هذا أيضا في مناطق ذاتية الوعي ثقافيا وسياسيا على نحو أكبر في التقليد التحليلي؛ على سبيل المثال: يتضح هذا الفكر في البيان الرسمي الرائع الذي ظهر في عام 1929 لحلقة فيينا، والذي سأناقشه في الفصل السادس. ويدعو كاتبو هذا البيان إلى تصور علمي للعالم والتغلب على الميتافيزيقا، معتبرين ذلك عنصرا أساسيا في التحول الديمقراطي الاجتماعي الراديكالي للمجتمع.
في جزء كبير من التقليد القاري، تعد الفلسفة وسيلة لنقد الحاضر، لتعزيز وعي تأملي للحاضر على أنه في أزمة، سواء أكان يعبر عن ذلك كأزمة إيمان في عالم برجوازي متحفظ (عند كيركجارد)، أم أزمة العلوم الأوروبية (عند هوسرل)، أم أزمة العلوم الإنسانية (عند فوكو)، أم أزمة العدمية (عند نيتشه)، أم أزمة نسيان الكينونة (عند هايدجر)، أم أزمة المجتمع البرجوازي الرأسمالي (عند ماركس)، أم أزمة هيمنة العقلانية الأداتية وسيطرة الطبيعة (عند أدورنو وماكس هوركهايمر)، أم أيا كان التعبير عنها. وتؤدي الفلسفة باعتبارها تأملا ثاقبا حيال التاريخ والثقافة والمجتمع إلى إيقاظ الوعي النقدي؛ ما يسميه هوسرل تنشيط تقليد مترسب. وبتوسيع هذا أكثر قليلا، فإن مسئولية الفيلسوف - بصياغة هوسرل «خادم البشرية» - هي «إنتاج» الأزمة؛ مما يؤدي إلى إرباك التراكم البطيء للرواسب القامعة للتقليد من أجل نقد تاريخي منشط، سيكون أفقه عالم حياة متحررا. والفلسفة في التقليد القاري لديها هدف تحرري. وبالنسبة إلى الفيلسوف، الأزمة الحقيقية ستكون الموقف الذي لا يتم فيه الوعي بوجود أزمة؛ وفي مثل هذا العالم، لن يكون للفلسفة أي هدف بخلاف أن تكون نوعا من الفضول التاريخي أو الإلهاء الفكري، أو وسيلة فنية لشحذ المنطق السليم لدى الفرد.
لتوضيح الأمور أكثر، اسمح لي أن أقترح النموذج البسيط التالي للفلسفة في التقليد القاري، منظما حول المصطلحات التي تشكل العنوان الفرعي لهذا الفصل:
شكل 4-5: قبر جان جاك روسو (1712-1778) في مقبرة العظماء بباريس.
وهذا يعني أن النقد هو نقد للممارسة القائمة لأنها تبدو جائرة أو غير حرة أو غير صحيحة أو أيا ما يكون. علاوة على ذلك، إنه نقد يهدف إلى التحرر من تلك الممارسة الجائرة نحو ممارسة أخرى فردية أو جماعية؛ طريقة مختلفة لتصور الحياة الإنسانية، سواء أكان ذلك الحياة النيتشوية للنبل المنعزل، أم المجتمع الشيوعي الذي تصوره ماركس، أم الصيرورات المتعددة التي وصفها دولوز وجوتاري، أم شيئا مختلفا تماما عن كل ما سبق.
الفصل الخامس
ما الذي يجب عمله؟ كيفية التعامل مع العدمية
كما رأينا في الفصل الثاني ، أورث كانط إشكالية لورثته من المثاليين والرومانسيين وحتى الماركسيين في التقليد القاري، وهي الإشكالية التي تصارع معها هو نفسه في كتاب «نقد ملكة الحكم»، والتي تمثل جوهر نقد جاكوبي لكانط وفيشته. ويمكن الآن صياغة تلك الإشكالية بالطريقة التالية: نقد كانط للميتافيزيقا، إذا كان مبررا، يحقق الإنجاز الرائع بإظهار اللامعنى «المعرفي» للادعاءات التقليدية للميتافيزيقا التأملية الدوجماتية، بينما يؤكد على الضرورة «الأخلاقية» التنظيمية لسيادة العقل العملي (أي مفهوم الحرية). وهذا يطرح السؤال التالي: كيف تمثل الحرية أو تحدث في عالم الطبيعة، إذا كان هذا العالم يخضع للسببية ويسير ميكانيكيا وفقا لقوانين الطبيعة؟ كيف يوفق بين سببية العالم الطبيعي وما يدعوه كانط «سببية الحرية»؟ كيف تتحول العبقرية إلى قوة عملية، وذلك إشارة إلى إيمرسون الذي يشير هو الآخر إلى كلمات كانط في كتابه النقدي الثالث؟ ألم يترك كانط البشر فيما سماه هيجل وماركس الشاب الوضع الوسط، بكونهم خاضعين بحرية للقانون الأخلاقي ومسيرين عن طريق عالم الطبيعة الموضوعي المجرد من أي قيمة، والذي يقف ضد البشر باعتباره عالم اغتراب؟ أليست الحرية الفردية مختزلة إلى فكرة مجردة في مواجهة عالم غير مبال من الأشياء المتوافرة للمرء كسلع بتكلفة ما؟
شكل 5-1: لوحة لدومينيكو فيتي (1589-1624)، بعنوان «الكآبة».
هذه هي الإشكالية التي شخصها نيتشه في ثمانينيات القرن التاسع عشر من خلال مفهوم العدمية؛ وهو المفهوم المهم تماما لمجموعة كبيرة من مفكري الفلسفة القارية في القرن العشرين: هايدجر، وفالتر بنجامين، وتيودور أدورنو، وكارل شميت، وحنا آرنت، وجاك لاكان، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجوليا كريستيفا. وهذا يعني أن الاعتراف بحرية الذات يترافق مع انهيار اليقين الأخلاقي في العالم. في الفصل الثاني، تتبعنا ظهور هذا المفهوم من نقد جاكوبي لكانط وفيشته إلى شتيرنر ودوستويفسكي وسارتر. وأود الآن أن أعود إلى موضوع العدمية بمزيد من التعمق. (1) العدمية الروسية
لا بد أن فهم نيتشه للعدمية بدأ في السياق الروسي المشار إليه في الفصل الثاني مع دوستويفسكي؛ ما سماه «العدمية في بطرسبرج». التقط نيتشه مفهوم العدمية من الروائي الروسي إيفان تورجنيف، الذي قرأ الترجمة الفرنسية لأعماله على يد بروسبير ميريميه. وبالمصادفة، مثلت رواية «كارمن» التي ألفها ميريميه في عام 1845 أيضا أساس نص أوبرا بيزيه، التي ظهرت في عام 1875، والتي حملت الاسم نفسه، والتي كانت مفضلة لدى نيتشه؛ وهو اختيار مثير للجدل على نحو كبير من وجهة نظري، ولكن تلك قصة أخرى. ونالت العدمية على يد نيتشه تصورها الفلسفي المتكامل والتعبير الكامل عنها.
ما يميز السياق الروسي عن السياق الألماني هو أن العدمية في النسخة الألمانية مسألة ميتافيزيقية أو معرفية إلى حد كبير، في حين أنها في السياق الروسي لها بعد اجتماعي سياسي أكثر وضوحا. تبدأ القصة ربما بمحاولة نيكولاي شيرنيشفسكي القول بعدمية القيم الجمالية التقليدية بالزعم أن الفن ليس تعبيرا عن مفهوم مطلق ما للجمال، بل يمثل اهتمامات فئة معينة في مرحلة معينة في التاريخ. وهكذا، في السياق الروسي، ترتبط إشكالية العدمية ارتباطا وثيقا بالسياسة الاشتراكية الراديكالية، والتي عبر عنها على نحو قاطع في رواية شيرنيشفسكي ذات التأثير الكبير «ما الذي يجب عمله؟»، التي ظهرت عام 1863. وتتضمن القصة الكاملة للجانب السياسي للعدمية الروسية نقد ميخائيل باكونين الفوضوي للدولة، وربما تصل لذروتها في بلشفية لينين البروميثية وثورة أكتوبر عام 1917. وليس من قبيل المصادفة أن الكتاب الذي ألفه لينين في عام 1902، ووصف فيه رؤيته السياسية للحزب و«ديكتاتورية البروليتاريا»، كان أيضا بعنوان «ما الذي يجب عمله؟».
بهذا المعنى، العدمية الروسية تعبير عن وجهة نظر متشككة ومناهضة للجمال، ونفعية وعلمية على نحو راديكالي حيال العالم. وتتعرض وجهة النظر تلك لنقد ليبرالي لطيف لكنه مدمر في رواية تورجنيف «آباء وأبناء» (1862)، من خلال مصير الشخصية الممثلة للعدمية بازاروف. ويقع الصراع الدرامي الرئيسي هنا بين وجهتي نظر متعارضتين حيال العالم: وجهة النظر الرومانسية الليبرالية الإصلاحية المحبة لأوروبا الخاصة بالآباء (نيكولاي وبافل)، ووجهة النظر الوضعية النفعية الراديكالية القومية الروسية لدى الأبناء (أركادي وبازاروف). ولدينا هنا التعبير الروسي عن صراع مل بين الرومانسية والنفعية؛ بنثام وكولريدج. وفي المشهد الرئيسي للرواية، وسط تلميحات غامضة حول العدمية كقوة تمرد عنيف، يقول بازاروف ساخرا: «نحن نتصرف وفق ما نراه نافعا لنا ... وفي هذه الأيام يعد الرفض أنفع شيء؛ لذا فإننا نرفض.» «كل شيء؟» «كل شيء.» «ماذا؟ ليس الفن والشعر فحسب ... لكن أيضا ... لا أتجرأ على نطق اسمه ...» «كل شيء.» كررها بازاروف بكل هدوء.
أنهى تورجنيف الصراع الدرامي بين الليبرالية والعدمية على نحو كلاسيكي، وإن لم يكن مقنعا؛ فبعد وقوع بازاروف بقوة وعلى نحو غير عقلاني في حب السيدة الأرستقراطية والرومانسية أودينتسوفا - دون أن تبادله الحب - يعود إلى أرض الوطن ليعيش كطبيب ريفي مثل والده. وفيما يرقى إلى الانتحار (وهو أمر منطقي في رأي دوستويفسكي)، يلتقط بازاروف عدوى التيفود من جثة إحدى الفلاحات المصابة بالمرض، ويعترف بحبه للسيدة أودينتسوفا على فراش الموت. وهكذا تنهزم العدمية أمام قوة الحب، وتنتهي الرواية برؤية مسيحية تتمثل في «المصالحة الأبدية والحياة التي لا نهاية لها». (2) العدمية النيتشوية
التعبير الأكثر بلاغة عن نسخة نيتشه من العدمية يمكن العثور عليه في الكتاب الأول من مجموعة أعماله التي جمعت بعد وفاته بعنوان «إرادة القوة». فبالنسبة إلى نيتشه، العدمية تعني:
أن تخفض القيم السامية قيمة نفسها. غياب الهدف، الجواب على السؤال «لماذا».
ما ينبغي التركيز عليه هنا هو استخدام الفعل الانعكاسي؛ «تخفض قيمة نفسها». فنيتشه لا يدعي أن القيم السامية تنخفض قيمتها من خلال النقد؛ وهو ما قد يكون زعم جاكوبي أو تورجنيف، بل إنه أمر أساسي في تطورها أن تخفض قيمة «نفسها». يمكن وضع هذا القول جنبا إلى جنب مع عبارة نيتشه الأشهر التي كتبت على جدار برلين السابق، وعلى جدران المراحيض في جميع أنحاء العالم، وهي أنه «لقد مات الإله». وهذا لا يعني أن الإله بنحو ما مات منسلا بهدوء من الباب الخلفي للكون دون أن يخبر أحدا، أو أن إلها آخر أخذ مكانه؛ بل يعني ذلك أننا «نحن الذين قتلناه»؛ فإننا نحن البشر مسئولون عن موت الإله. العدمية هي انهيار نظام المعنى؛ حيث يصبح كل ما كان مفترضا كمصدر متسام للقيمة في ميتافيزيقا ما قبل كانط باطلا؛ حيث لا توجد شماعات معرفية يعلق عليها معنى للحياة. فكل الادعاءات المتسامية عن معنى الحياة تختزل إلى مجرد قيم - في فلسفة كانط، يختزل الإله وخلود الروح إلى حالة مسلمات العقل العملي الخالص - وأصبحت تلك القيم غير قابلة للتصديق، تنتظر ما سماه نيتشه «قلب القيم» أو «إعادة تقييم القيم».
وبعيدا عن أي تأثير من السياقين الروسي والألماني، فإن ما يجب التأكيد عليه هو الجرأة والأصالة التامتان لتصور نيتشه للعدمية؛ فبالنسبة إلى نيتشه، سبب العدمية لا يمكن تفسيره اجتماعيا أو سياسيا أو معرفيا أو حتى فسيولوجيا (أي فيما يتعلق بقصة ما حول انقراض الجنس البشري)، ولكنه متأصل في تأويل معين للعالم، وهو: «المسيحية». بالنسبة إلى نيتشه، امتلك التأويل «المسيحي الأخلاقي» للعالم الميزة الواضحة المتمثلة في أنه ترياق للعدمية عن طريق منح معنى للعالم، ومنح قيمة للبشر، ومنع اليأس. ومع ذلك، بالنسبة إلى نيتشه - وهذا أمر قاطع - توجد مفارقة أو تناقض داخل العدمية؛ وهو أن التأويل المسيحي الأخلاقي للعالم مدفوع برغبة في معرفة الحقيقة، ولكن هذه الرغبة تنقلب في نهاية المطاف ضد التأويل المسيحي للعالم من خلال اكتشاف أنه غير حقيقي. بعبارة أخرى، الميتافيزيقا المسيحية تتمحور حول الإيمان بعالم حقيقي يختلف عن عالم الصيرورة الزائف الذي نعيش فيه. ومع ذلك، من خلال إدراك موت الإله، يتبين أن العالم الحقيقي خرافة. وهكذا - وهذا هو التناقض - الرغبة في تأويل أو تقييم أخلاقي للعالم تبدو الآن رغبة في الزيف. والمسيحية - مثل التراجيديا القديمة في عمل نيتشه المبكر «مولد التراجيديا» - لم تمت، بل بالأحرى انتحرت؛ ومع ذلك، تكمن المشكلة في أن الإيمان بالعالم الحقيقي «ضروري» ببساطة من أجل العيش لأننا لا يمكن أن نتحمل عالم الصيرورة هذا. ويكتب نيتشه قائلا:
ولكن بمجرد أن يكتشف المرء كيف أن هذا العالم مصنوع فحسب من أجل تلبية حاجات نفسية، وكيف أنه ليس له أي حق فيه، فإن آخر صورة من العدمية تأتي إلى حيز الوجود هي التي تتضمن عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي وتحرم على نفسها الإيمان بعالم «حقيقي». وبعد الوصول إلى هذه الحالة ، يسلم المرء بأن حقيقة الصيرورة هي الحقيقة «الوحيدة»، وينكر كل السبل الملتوية التي تؤدي إلى عوالم ميتافيزيقية وإلى آلهة مزيفة؛ ولكنه «لا يمكنه أن يتحمل هذا العالم، وإن لم يكن يريد أن ينكره».
شكل 5-2: فريدريك نيتشه (1844-1900) في زي عسكري.
وهذا ما يفسر سبب العداء الرئيسي للعدمية بالنسبة إلى نيتشه، وهو أننا ««لا نقدر ما نعلمه، ولا «يسمح» لنا بتقدير الأكاذيب التي ينبغي أن نود أن نقولها لأنفسنا». وهذا يعني أننا لم يعد بإمكاننا الإيمان بعالم حقيقي فيما وراء عالم الصيرورة هذا، ومع ذلك لا يمكن أن نتحمل عالم الصيرورة هذا. أو لصياغة هذا بكلمات تذكرنا بنقد جاكوبي لفيشته: «كل شيء أناني أصبح يثير اشمئزازنا (على الرغم من أننا ندرك أنه لا وجود لعمل غير أناني)؛ ما هو ضروري قد أصبح يثير اشمئزازنا.» وينتج هذا العداء الشديد ما يسميه نيتشه «عملية التحلل»؛ وهي أننا عندما ندرك الأصل الرث لقيمنا الأخلاقية، وكيف أن التأويل المسيحي الأخلاقي للعالم مدفوع بالرغبة في الزيف، فإن استجابتنا «المتفاعلة» هي إعلان أن الوجود لا معنى له. وهذا الإعلان عن اللامعنى هو ما عرفه نيتشه على أنه العدمية، وكشفه في ثلاثة أشكال ناشئة: (1)
في تشاؤم شوبنهاور، الذي يدعوه نيتشه «العدمية السلبية»، أو على نحو أكثر عدوانية «البوذية الأوروبية»؛ بمعنى أنه إذا كان هناك خواء في قلب معتقداتي الميتافيزيقية السابقة، فإنني حينها قد أؤكد أيضا هذا الخواء وأمارس اليوجا أو الأوريجامي أو أي شيء آخر. (2)
في الفوضوية الروسية أو «العدمية الفاعلة» التي شهدناها في أعمال تورجنيف، والتي يرى نيتشه أنها مجرد «تعبير عن الانحلال الفسيولوجي». وهذا يعني أنه إذا كان هناك خواء في قلب معتقداتي الميتافيزيقية السابقة، يمكنني حينها أن أمضي في تدمير كل شيء من حولي في صورة أعمال إرهاب خلاق عنيف. (هذا اتجاه داخل العدمية يمكن للمرء رصده في العديد من الحركات السياسية المتطرفة، مثل الحركة الموقفية في باريس في ستينيات القرن العشرين، التي ادعى أنصارها أنه بما أن المجتمع مجرد مشهد - صورة زائفة لمظهر فارغ - فإن المهمة السياسية تتمثل في إعلان هذه الحقيقة في الأفعال السياسية المختلفة والفنية على نحو كبير غالبا. وكان أحد الشعارات الشهيرة لتلك الحركة هو: «تحت أحجار الأرصفة، يوجد شاطئ»، وهو ينطوي على أنه ينبغي على المرء كشف هذا الشاطئ عن طريق رمي تلك الأحجار على الشرطة.) (3)
في مزاج ثقافي عام من التعب واللامبالاة والإرهاق والعناء الذي لخص في عبارة نيتشه الشهيرة: «المجتمع الحديث ... لم تعد لديه القوة «لطرح فضلاته»»؛ بمعنى أنه إذا كان هناك خواء في قلب معتقداتي الميتافيزيقية، فربما من الأفضل أن أهز كتفي بلا مبالاة وأتمتم فحسب قائلا: «أوه، حسنا، أعتقد أن هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور.» ربما نرى هذا على أنه «عدمية نظرية»، والتي يعبر عنها كلاسيكيا في شخصية إيور في كارتون «ويني ذا بو».
لكن، جديا، النقطة الأساسية التي ينبغي فهمها هنا هي أن العدمية ليست مجرد نفي التأويل المسيحي الأخلاقي للعالم، ولكن «نتيجة» له. فبالنسبة إلى نيتشه، تتحقق العدمية كحالة نفسية عندما ندرك أن المقولات التي حاولنا من خلالها منح معنى للكون لا معنى لها. وهذا لا يعني على الإطلاق أن الكون لا معنى له، ولكن يعني بدلا من ذلك - في إشارة لفلسفة كانط، وتذكير باهت برؤية جاكوبي - أن «الإيمان بمقولات العقل هو سبب العدمية»؛ ومن ثم، من وجهة نظر نيتشه، العدمية هي النتيجة غير المتوقعة لنقد كانط للميتافيزيقا؛ وهذا يعني أن العدمية هي نتيجة التقييم الأخلاقي؛ فقيمي لم يعد لها مكان في العالم، وهذا هو الاغتراب الذاتي للرواقية الحديثة التي سماها هيجل ساخرا «وجهة النظر الأخلاقية للعالم».
والآن، «يمكن» لمثل هذا الموقف أن يؤدي إلى استسلام العدمية السلبية أو الأوهام الحماسية للعدمية الفاعلة، ولكنه يمكن أن يؤدي أيضا إلى المطالبة بإعادة تقييم القيم؛ المطالبة التحويلية التحررية بأن تكون الأمور مختلفة. في أعمال نيتشه، ومن منظور مجموعة كبيرة من مفكري التقليد القاري في القرن العشرين، يرافق تشخيص العدمية المطالبة بالتغلب على العدمية. وتعرف أعمال نيتشه بمناهضتها للعدمية؛ وهذا هو السبب في أن نيتشه يصر مرارا وتكرارا على أهمية وجود مقولات جديدة وقيم جديدة، من شأنها أن تسمح لنا بتحمل عالم الصيرورة هذا دون الوقوع في اليأس أو اختراع إله جديد والخضوع له.
وفق رؤيتي، هذه هي وظيفة فكرة «العود الأبدي» الغامضة ظاهريا في أعمال نيتشه؛ أي «الوجود كما هو، دون معنى أو هدف، مع ذلك يتكرر بنحو لا مناص منه دون الانتهاء إلى العدم». يؤكد نيتشه أن ما يجري من محاولات مع مفهوم العود الأبدي هو النقيض التام لوحدة الوجود؛ بمعنى أنه إذا كانت وحدة الوجود هي حضور الإله في كل شيء، فإن العود الأبدي محاولة للتفكير في الكون دون وجود إله؛ فالإلحاد بالنسبة إلى نيتشه ليس مجرد بيان للحالة، بل هو أيضا نتيجة لجهد كبير لتحرير البشر من الأصنام التي اعتادوا على التذلل لها.
على الرغم من أن هناك آخرين سيختلفون معي، فإني أرى مفهوم العود الأبدي لنيتشه باعتباره تجربة فكرية تعد نوعا من المغالاة في الفكر الكانطي؛ بمعنى أن الأخلاق عند كانط تستند إلى مفهوم الواجب النقي السامي الذي لا يمكن أن يقوم على أي مصلحة تجريبية، ولا يمكن النظر إليه باعتباره وسيلة لتحقيق غاية، مثل السعادة. فلا توجد غاية من وراء ممارسة الفضيلة سوى الفضيلة نفسها. ومع ذلك، الأخلاق لدى كانط لا تزال تحتفظ بالإله وخلود الروح كمسلمات للعقل العملي الخالص؛ لذلك، لا تزال التصرفات الأخلاقية للمرء إلى حد ما مرتبطة بأمل تحقيق السعادة البعيد حيث يثاب المرء على الفضيلة. ويجعل نيتشه هذه الفكرة الكانطية الأساسية كانطية أكثر من كانط نفسه؛ فبالنسبة إليه، لا يوجد إله، وفكرة خلود الروح ليست سوى مزحة سيئة. ومع ذلك، ما يطلبه نيتشه منا بفكرة العود الأبدي هو أن نتصور وجودنا في كون بلا معنى لاهوتي أو ضمان ميتافيزيقي يعيد نفسه على نحو لا نهائي متكرر إلى الأبد. والآن، إذا كنا نستطيع أن نعرف ونواصل «تأكيد» مثل هذه الصورة، فإننا قد نكون قادرين تماما على القول إننا في النهاية قد تغلبنا على العدمية المتضمنة في التأويل المسيحي الأخلاقي للعالم. (3) جدلية التنوير
وتلخيصا لما سبق، فإن الحالة التاريخية والاجتماعية التي تكون العدمية هي تشخيصها، تكمن في الاعتراف بفشل مزدوج، وذلك كما يلي: (1)
لا ترتبط قيم الحداثة أو التنوير بنسيج العلاقات الأخلاقية والاجتماعية؛ أي بأمور الحياة اليومية. وهذا يعني أنها غير قادرة على إنتاج كل تخيلي أو عقلاني جديد، ما رأى واضعو «البرنامج النسقي» (انظر الملحق في نهاية الكتاب) أنه الحاجة إلى «ميثولوجيا العقل». بعبارة أخرى، يتركنا كانط مع سلسلة من الثنائيات غير الموحدة. وتفتقر القيم الأخلاقية للتنوير إلى أية فعالية (وهذا هو جوهر نقد هامان وهيجل لكانط الذي ورثه ماركس الشاب؛ حيث تصبح قيم التنوير قيما برجوازية)؛ أي تفتقد أي اتصال بالممارسة الاجتماعية. (2)
ومع ذلك، لم تفشل القيم الأخلاقية للتنوير في الارتباط بنسيج العلاقات الأخلاقية والاجتماعية فحسب، ولكن الأسوأ أيضا أنها أدت بدلا من ذلك إلى التدهور التدريجي لهذه العلاقات من خلال العمليات التي يمكن أن نسميها بتعبير ماكس فيبر: العقلانية؛ وبتعبير ماركس: الرأسمالية؛ وبتعبير أدورنو وهوركهايمر: العقلانية الأداتية؛ وبتعبير هايدجر: نسيان الكينونة. وهذه هي جدلية التنوير المحتومة والمتناقضة؛ أرى أن هذه هي إحدى الرؤى الأساسية لجاكوبي، وقد رأيناها تتكشف أمامنا من خلال القصة التي أرويها.
ولعرض الأمر على نحو أوسع نطاقا، فإن مشكلة الحداثة الفلسفية - كما عرضت حتى الآن - هي كيفية مواجهة مشكلة العدمية بعد أن رأى المرء كيف لم تفشل قيم التنوير في السيطرة على الحياة اليومية فحسب، ولكن أدت أيضا إلى تحللها التدريجي. وفي رأيي، هذه هي المشكلة التي يعود إليها فلاسفة التقليد القاري مرارا وتكرارا، إما من خلال محاولة إيجاد وسيلة جديدة للاستجابة لها - كما هي الحال مثلا في أعمال هابرماس ودريدا - وإما من خلال رفض السياق التاريخي والفلسفي الذي تطرح فيه المشكلة؛ على سبيل المثال: في أعمال رورتي. (4) العلاقة بين الفلسفة والمجالات غير الفلسفية في التقليد القاري
بطبيعة الحال، تتمثل الصعوبة الإضافية هنا في أن مثل هذه المواجهة مع العدمية لا يمكن ببساطة أن تتم في مجال الفلسفة، إذا كان مسلما - كما هي الحال لدى مفكرين متنوعين مثل نيتشه وهايدجر وأدورنو - أن الفلسفة متآمرة مع القوى التي تنتج العدمية؛ فبالنسبة إلى نيتشه، الفلسفة عدمية؛ فهي مليئة بالزهد و«الضغينة» الخاصين بالتأويل المسيحي الأخلاقي للعالم. وبالنسبة إلى هايدجر - كما سنرى لاحقا - الفلسفة التقليدية لا ترغب في معرفة شيء عن العدم في جوهر مبدئها الخاص بالسبب الكافي. وبالنسبة إلى أدورنو، يحيط بالفلسفة خطر أن تصبح خطابا أيديولوجيا من التجريد يتآمر مع تجريد المجتمع الرأسمالي السلعي المادي.
إذن، كيف يمكن للمرء التعامل مع العدمية؟ هذا هو السؤال. لدي أفكاري الخاصة في هذا الشأن، كما يوجد لدى فلاسفة آخرين. كل ما سعيت إلى إيضاحه حتى الآن هو أن التعامل مع العدمية يمثل الإشكالية الأساسية للفلسفة القارية ما بعد كانط، التي تسري مثل خيط أريادني عبر المتاهة الفكرية في آخر قرنين من الزمان. ودفع هذا جانبا كبيرا من الفلاسفة القاريين للبحث عن خطابات وممارسات غير فلسفية ربما تتعامل مع أزمة العصر الحديث. ويرى نيتشه وسائل للمساعدة في التفكير التراجيدي لقدماء الإغريق، ويجدها هايدجر في التفكير التأملي للإبداع الشعري، ويجدها أدورنو في استقلالية الفن الحداثي الراقي، ويراها ماركس في الاقتصاد السياسي، ويجدها فرويد في ممارسة عمليات التحليل النفسي. وتتمثل النقطة هنا في أن إشكالية العدمية تبدأ في شرح السبب في اهتمام جزء كبير من الفلسفة القارية بالعلاقات مع المجالات غير الفلسفية، سواء أكانت الفن أم الشعر أم التحليل النفسي أم السياسة أم الاقتصاد. (5) الحداثة التقدمية والرجعية
تشعب هذا الاهتمام بالعدمية بعد نيتشه إلى اتجاهين مختلفين من التفكير في أزمة العالم الحديث، يمكن تسميتهما الحداثة «التقدمية» والحداثة «الرجعية». من جانب، في أعقاب الورثة الراديكاليين لهيجل - مثل لودفيج فيورباخ وماركس الشاب - اندمج النقد الفلسفي للحداثة مع النقد الاجتماعي الألماني الأكثر تقدمية للحداثة، الذي لاقى التعبير المحدد له في أعمال مفكرين مثل فيبر وجورج زيمل. استمر هذا النهج خصبا للغاية فيما يسمى ب «الماركسية الغربية» والجيل الأول لمدرسة فرانكفورت من ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. ويعد الممثل المعاصر الأكثر تميزا لهذا النهج حيال الحداثة هو هابرماس، الذي شغل - على نحو مهم - منصب أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرانكفورت. ولا يزال هذا النهج مستمرا حتى يومنا هذا في أعمال خليفة هابرماس في جامعة فرانكفورت؛ أكسل هونيت. ويتميز هذا النهج من الناحية المنهجية بالإيمان بالخصوبة المتبادلة للفلسفة وعلم الاجتماع؛ وهذا يعني أنه لا بد أن تنفذ المقولات الفلسفية اجتماعيا إذا كنا نرغب في أن يكون لها أية فعالية؛ ولكن الأبحاث الاجتماعية تتطلب الوجود النقدي والتأملي للفلسفة لمنعها من الاستغراق في الوضعية. ومن الناحية السياسية، ربط هذا النهج الخاص بالحداثة التقدمية بتيارات فكرية يسارية مختلفة، سواء أكانت ماركسية أم ديمقراطية اجتماعية.
على الجانب الآخر، يوجد النقد الأكثر تحفظا للحداثة، الذي يمكن إيجاده في أعمال مفكرين مثل أوسفالد شبنجلر وكارل شميت وإرنست يونجر. بصياغة شبنجلر، الغرب «ثقافة مسنة» دخلت في مرحلة ذبول لا يمكن إيقافها، مثل الذبول الأخير لروما القديمة. والاستمرار الفلسفي لنهج النقد الاجتماعي هذا في سياق سرد التراجع والانهيار يمكن إيجاده في أعمال هايدجر، لا سيما في تأملاته حول التكنولوجيا في أواخر أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. ولكن أيضا - وربما على نحو غير متوقع - يمكن للمرء أن يجد هذا النهج من النقد الثقافي المتشائم في أعمال فيتجنشتاين، الذي أظهر نفسه متأثرا بقوة بشبنجلر في أعمال مثل «الثقافة والقيمة». وبينما تستند منهجية الحداثة التقدمية على الاعتماد المتبادل بين الفلسفة وعلم الاجتماع، فإن علم الاجتماع بالنسبة إلى الحداثة الرجعية يعد مدانا بوصفه تعبيرا عن الانهيار الديمقراطي الحديث. ثم تنزل المقولات الفلسفية حينها مباشرة إلى التحليل الاجتماعي، الذي يمكن أن يؤدي إلى تشخيص ثقافي متشائم متقلب. مرة أخرى، يقدم هايدجر مثالا كلاسيكيا هنا؛ حيث يوسع ببساطة أطروحته حول تاريخ الميتافيزيقا على أنها نسيان الكينونة إلى نقد ثقافي؛ حيث تسيطر على جميع جوانب الحياة اليومية صورة العالم التكنولوجي الذي يعد تعبيرا اجتماعيا عن ذلك النسيان نفسه؛ أو كما يقول هايدجر متنهدا: «تزداد رقعة الأرض القاحلة.» والنتائج السياسية للحداثة الرجعية معروفة جيدا في حالة التزام هايدجر بالاشتراكية القومية، التي رأى فيها هو وآخرون مثل شميت ويونجر - وإن كان على نحو وجيز - إمكانية عملية لإسقاط العدمية. ولا حاجة بي لقول إنني لا أجد هذا وسيلة مفيدة جدا للإجابة على السؤال المطروح في عنوان هذا الفصل.
وجهة نظري هي أنه على الرغم من وجود اختلاف تام في وجهة النظر السياسية وخلافات منهجية كبيرة بين الحداثة الرجعية والتقديمة، فإن كلا النهجين استجابة لإشكالية العدمية؛ فهما متفقان في اعتقادهما أن من مهام الفلسفة الانخراط فيما أدعوه إنتاج الأزمة. وهذا يعني أن الفلسفة نقد للممارسة الاجتماعية القائمة، كشكل من أشكال الممارسة غير الحرة أو الجائرة، يطمح لهدف التحرر الفردي أو الجماعي. ويختلف هذان النهجان - يختلفان تماما - فيما يريانه حيال شكل هذا التحرر.
الفصل السادس
دراسة حالة في سوء الفهم: هايدجر وكارناب
النطق بكلمة وعدم إرادة أي معنى بها أمر لا يليق بفيلسوف.
بيركلي
زعمت في الفصل الثالث أن أفضل طريقة لفهم سوء الفهم بين التقليدين الفلسفيين المتعارضين هي في سياق نموذج «الثقافتين». ووفقا لهذا النموذج، يمكن النظر للفلسفة التحليلية والفلسفة القارية بوصفهما تعبيرين عن عادات فكرية متعارضة بعضها معاد لبعض؛ نفعية بنثام التجريبية ورومانسية كولريدج التأويلية، اللتين تشكلان الفهم الذاتي الفلسفي لثقافة معينة. ورأينا في حالة مل وسنو كيف يمكن أن يفهم شيء مثل «الإنجليزية» في سياق هذا العداء، وفي الواقع، ربما يثبت أن هذا العداء مفيد، شريطة أن يوافق كلا جانبي الصراع على الأقل على الحديث أحدهما مع الآخر.
أريد الآن استكشاف طريقة التفكير تلك أكثر من خلال تناول دراسة حالة معينة في سوء الفهم بين التقليدين الفلسفيين: حالة هايدجر وكارناب. وهذا الخلاف على نحو أساسي هو خلاف بين التصور العلمي للعالم، الذي قدمه كارناب وحلقة فيينا، والتجربة الوجودية أو «التأويلية» للعالم في فكر هايدجر. هذا الخلاف مهم للغاية للتطورات اللاحقة في الفلسفة، لدرجة أن آراء كارناب حيال فكر هايدجر توفر خلفية لمحاولة آير المنطقية الوضعية للقضاء على الميتافيزيقا في السياق البريطاني، وكان لكارناب تأثير كبير على التطور الأكاديمي للفلسفة التحليلية في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما من خلال تلميذه الأكثر شهرة، دبليو في أوه كواين؛ على سبيل المثال: في مقدمة قصيرة عن فلسفة القرن العشرين، تفيد في جوانب أخرى، يتهم آير هايدجر «بما يمكن إلى حد ما وصفه بأنه احتيال»، استنادا إلى قراءة سريعة لمحاضرته التي ألقاها في عام 1929. وفي تأبين كواين لكارناب في عام 1970، يصف الفلسفة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بصفة «ما بعد كارناب»، بدلا من «ما بعد فيتجنشتاين»، وهو الوصف الذي يشير على نحو مثير للجدل للفترة المقابلة في بريطانيا. وعلى الجانب القاري، يعد هايدجر بلا شك مصدر إلهام رئيسي لأعمال طلابه الألمان، مثل هانس-جورج جادامير وحنا آرنت، وجيلين من المفكرين الفرنسيين مثل سارتر ولاكان وفوكو ودريدا. وبما أن قدرا كبيرا من سوء الفهم الحديث بين فلاسفة التقليدين التحليلي والقاري، يمكن إرجاعه إلى هذه المواجهة المهمة بين هايدجر وكارناب، فإنها تستحق التناول ببعض التفصيل. (1) لا شيء ينتج من العدم
في 24 يوليو عام 1929 ألقى مارتن هايدجر أولى محاضراته كأستاذ في الفلسفة في جامعة فرايبورج في بريسجاو، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، وفي أوج نضجه الفكري. كان عائدا إلى جامعته الأم بعد عدة سنوات حافلة بالإنجاز في جامعة ماربورج لتولي كرسي أستاذه إدموند هوسرل (الذي سينفصل عنه في نهاية المطاف). وكانت هذه لحظة انتصار شخصي واضحة بالنسبة إلى هايدجر. كانت المحاضرة بعنوان بسيط على نحو خادع، وهو: «ما هي الميتافيزيقا؟»، ولكنها لم تكن بسيطة على الإطلاق. توجد قصة - مشكوك في صحتها بلا ريب - مفادها أنه في نهاية ما يجب أن يكون تجربة فكرية شاقة بالنسبة إلى غير العالمين بفكر هايدجر، كان الصمت يعم القاعة، ثم تخلله سؤال: «سيد هايدجر، ما هي الميتافيزيقا؟» فأجاب هايدجر: «هذا سؤال جيد!»
شكل 6-1: رودولف كارناب (1891-1970) وزوجته إينا، براغ عام 1933.
ولكن ما هي الميتافيزيقا؟ يعرف نيتشه الميتافيزيقا على نحو شهير بأنها تقسيم العالم الواحد إلى قسمين؛ وهذا يعني تمزيق وحدة التجربة الميثولوجية قبل الفلسفية للعالم، مع أفلاطون، إلى عالمي الكينونة والظاهر ، الواقع والمظهر، العالم المدرك والعالم الذي يتخطى الإدراك. هذا ليس خطأ، ولكن هايدجر يريد صراحة العودة إلى فهم أرسطي أكثر للميتافيزيقا. لم تستخدم كلمة «الميتافيزيقا» نفسها من قبل أرسطو، ولكنها مصطلح له جذور في تصنيف أعماله في مكتبة الإسكندرية الذي أجراه أندرونيقوس الرودسي في القرن الثاني؛ ففي تصنيف أعمال أرسطو، عندما رتبت أعماله على رف المكتبة، كما كانت، كان يوجد الأعمال الشعرية، ودستور أثينا، والنصوص السياسية، والنصوص الأخلاقية، والنصوص المنطقية والبلاغية، وما إلى ذلك. ثم كان يوجد العديد من كتب الفيزياء أو الطبيعة، وبعد ذلك كانت توجد سلسلة من الكتب الموقعة من قبل أرسطو، والتي تناولت أمورا يتعذر تصنيفها ضمن المخطط المحدد، وأطلق على هذه الكتب «ما وراء الطبيعة».
شكل 6-2: مارتن هايدجر (1889-1976)، وهو يبدو متفاجئا.
ولكن ما حل آخرا بالنسبة إلى أرسطو جاءه أولا؛ بمعنى أن ما تناولته هذه الكتب كان المبادئ الأولى التي قامت عليها جميع مجالات البحث الأخرى. ولم يكن مصطلح أرسطو لهذا المجال الأساسي للفلسفة هو الميتافيزيقا، ولكن كان «الفلسفة الأولى». بالنسبة إلى أرسطو، يوجد علم أو عالم خاص بالمعرفة (الإبسمتية) الذي يتعامل مع الكينونة في حد ذاتها؛ وهذا يعني أنه لا يهتم بكينونة عالم معين من الأشياء، مثل الكائنات الحية (البيولوجيا) أو المجتمع البشري (السياسة)، ولكن بالكينونة في حد ذاتها في عموميتها. والاهتمام الرئيسي لفكر هايدجر من البداية إلى النهاية هو مسألة الكينونة؛ وهي المسألة التي أثارتها الدراسات الميتافيزيقية. ويهتم هايدجر بالكينونة في حد ذاتها قبل مرجعيتها إلى أي عالم معين من الكائنات أو الأشياء. والحفاظ على هذا الفارق بين الكينونة في حد ذاتها وكينونات عوالم كائنات معينة هو ما يسميه هايدجر «الفرق الأنطولوجي».
إذن، هل هايدجر ميتافيزيقي؟ نعم ولا؛ فبالتأكيد يبدو كذلك بالنسبة إلى كارناب وحلقة فيينا، وكانا محقين ومخطئين على حد سواء في هذا الحكم. إن هايدجر مقتنع بأن المسائل الفلسفية - وأهمها بالنسبة إليه مسألة الكينونة - لا يمكن إخضاعها للبحث العلمي؛ لذلك لا يمكن تبرير الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي: يمكن النظر إلى هايدجر على أنه يسترجع المسألة الأساسية للفلسفة اليونانية القديمة؛ مسألة الكينونة. ومع ذلك، هايدجر «ليس» ميتافيزيقيا؛ لأنه يعتقد أن كل نظام فلسفي، من أفلاطون وحتى الوقت الحاضر، خلال سعيه لتحديد معنى الكينونة في حد ذاتها، قد مر براديكالية «مسألة» الكينونة والارتباط الجوهري بين هذه المسألة وموضوع الزمان؛ ومن ثم كان عنوان أهم أعماله هو «الكينونة والزمان». فبالنسبة إلى هايدجر، «التساؤل هو تقوى التفكير». يعج تاريخ الميتافيزيقا السابق بمحاولات مختلفة لكشف النقاب عن مسألة الكينونة؛ فبالنسبة إلى أفلاطون، تناولها من خلال مفهوم «الشكل»، أي إن معرفة شيء هي معرفة شكل الشيء؛ وبالنسبة إلى أرسطو، يعبر عنها بمفهوم «المادة»؛ وبالنسبة إلى توما الأكويني، يتناولها بالإشارة إلى «السبب الذي هو سبب ذاته» أي الإله؛ وبالنسبة إلى هيجل، الكينونة هي «الروح». وعند نيتشه، هي «إرادة القوة»، وما إلى ذلك. بالنسبة إلى هايدجر، تاريخ الميتافيزيقا هو «تاريخ الكينونة»؛ سلسلة من الإجابات على المسألة الأساسية للفلسفة التي تمتد من أفلاطون إلى قلب الأفلاطونية عند نيتشه؛ ومن ثم، فإن طرح مسألة الكينونة على نحو راديكالي يعني وضع الميتافيزيقا موضع التساؤل وتجاهل مسألة «تجاوزها». ومع ذلك، على الرغم من استخدام هايدجر وكارناب عبارة «تجاوز الميتافيزيقا»، فإنها تعني عند كليهما معنى مختلفا على نحو بارز.
يمكن التعبير عن التوجه الأساسي لحلقة فيينا في عبارة أوتو نيورات، وهو عضو بارز في الحلقة: «علم خال من الميتافيزيقا»؛ فالفلسفة عامل مساعد للعلم، تهتم فحسب بالتوضيح المنطقي لأطروحات ومنهج العلم التجريبي. وفي الواقع، يمكن للمرء أن يتمادى أكثر من ذلك ويدعي أن حلقة فيينا لم تمارس الفلسفة مطلقا، فيما يتعلق بتقديم أطروحات فلسفية، ولكنها ببساطة تركز على التحليل المنطقي الذي يوضح أطروحات العلم التجريبي وتنتقد مزاعم الميتافيزيقا التقليدية. وكتب نيورات يقول: «لا يوجد شيء اسمه الفلسفة كعلم أساسي أو عام بإزاء المجالات المختلفة للعلم التجريبي أو أعلى منها.» والإشارة إلى «العلم التجريبي» تلمح للهدف الصريح بتحديد تصور علمي للعالم، وهو ما سماه نيورات «العلم الموحد». وهذا يذكرنا بتعريف نيتشه للميتافيزيقا؛ حيث يستعيد التصور العلمي للعالم وحدة التجربة الموجودة في وجهات النظر الميثولوجية للعالم. ويفترض نيورات قائلا:
يعتمد ممثلو التصور العلمي للعالم على فكرة التجربة الإنسانية البسيطة. وينخرطون بثقة في مهمة إزالة الأنقاض الميتافيزيقية واللاهوتية؛ أو كما يصيغ البعض ذلك، مهمة العودة - بعد فاصل ميتافيزيقي - إلى صورة موحدة لهذا العالم كانت، بطريقة ما، أساسا للتفكير السحري الخالي من اللاهوت في العصور الأولى.
فيما يتعلق بهذا التصور العلمي للعالم، فإن الأطروحات الميتافيزيقية ليست كاذبة بقدر ما هي ببساطة لا معنى لها؛ فهي لا تمتلك أي محتوى معرفي. وعلى هذا النحو، فإنها تعبير عن مشاعر مشروعة، ولكن يجب أن يكون لمثل هذه المشاعر الوسط المناسب لها، المتمثل في الفن أو الموسيقى أو الشعر، بدلا من الفلسفة؛ ومن ثم ظهر حكم كارناب القاطع بأن «الميتافيزيقيين موسيقيون دون قدرات موسيقية».
والآن، في تعارض صارخ مع هذا التصور للفلسفة، سيقدم هايدجر دفاعا عن الميتافيزيقا ضد العلم. إن سؤال هايدجر في المحاضرة بسيط وقوي: «ماذا يحدث لنا، فيما يتعلق بوجودنا، عندما يصبح العلم شغفنا؟» يتمثل جوابه في أنه عندما يصبح العلم شغفنا، فإنه يوجد تفتيت وتقسيم لمجالات المعرفة المختلفة؛ الأمر الذي يؤدي إلى ضمور في الأساس الميتافيزيقي للنشاط العلمي. يقول هايدجر على نحو قاطع ودون أدنى تحذلق في نهاية المحاضرة:
فقط في حالة وجود العلم على أساس ميتافيزيقي يمكن أن يقوم على نحو متجدد باستمرار بمهمته الأساسية، والتي هي ليست جمع وتصنيف أجزاء المعرفة، ولكن الكشف في نحو متجدد باستمرار عن النطاق الكامل للحقيقة في الطبيعة والتاريخ.
يجب أن يكون للعلم أساس ميتافيزيقي، وهذا أمر واضح. ولكن ما هو بالضبط هذا الأساس؟ حسنا، هو «العدم». ولكن لا شيء ينتج من العدم. إذن، ماذا يمكن أن يعني هذا؟ هذا يقودنا إلى لب تأملات هايدجر المثير للجدل؛ مسألة «العدم»، والتي سيسخر منها كارناب على نحو خبيث. اسمح لي أن أحاول استخلاص الفكرة الرئيسية من تعقيد الأسلوب النثري المزخرف بإفراط لهايدجر. في الجزء الأول من المحاضرة، يبدأ هايدجر بزعمه - على نحو غير مثير للجدل بنحو كاف - أن العلوم المحددة تتعامل مع عالم الأشياء المحدد الخاص بها، ولا تهتم بأي شيء آخر إلى جانب ذلك؛ ومن ثم فإن العلم يريد أن يعرف كل شيء عن الأشياء أو الكائنات ولا شيء آخر إلى جانب ذلك. ثم يسأل هايدجر على نحو خبيث: «ماذا عن هذا اللاشيء أو العدم؟» ويتمثل زعمه في أن العلم لا يريد أن يعرف شيئا عن هذا العدم، في حين أنه يمكن إثبات أن الميتافيزيقا تهتم على نحو رئيسي بهذا العدم، وهذا أمر مفهوم. يمكن للمرء أن يتخيل كارناب وهو يضحك من هذا الكلام ضحكة مكبوتة، مثل طالب جالس في الصف الخلفي في قاعة المحاضرات، والنقطة الرئيسية لديه ضد هايدجر هي أن السؤال - «ماذا عن هذا العدم؟» - لا يمكن حتى صياغته بلغة متسقة منطقيا؛ لأنه يحول نفيا إلى اسم مختلق. وتعد حقيقة إمكانية صياغة مثل هذا السؤال دليلا على أن الميتافيزيقا تغذي بعض الالتباسات الكامنة في اللغة العادية التي يمكن - ويجب - القضاء عليها من خلال الإصلاح المنطقي. وكان هذا الإصلاح المنطقي للغة جزءا من البرنامج المبكر لحلقة فيينا.
خطوة هايدجر القادمة هي إلقاء نظرة على كيفية فهم مسألة العدم تلك عن طريق المنطق التقليدي. القانون الأساسي للمنطق هو مبدأ عدم التناقض؛ أي إنه من التناقض أن نقول إن شيئا ما يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في الوقت نفسه. ووفقا لهذا المبدأ، يتصور المنطق «العدم» على أنه نفي الكينونة في حد ذاتها أو كينونات عوالم كائنات معينة: «لا س» هو نفي «س». على هذا النحو، فإن المسألة الميتافيزيقية للعدم تصبح مسألة نفي. ودون ترك مساحة للنقاش، يشير هايدجر إلى أن «العدم أكثر أصالة من ال «لا» و«النفي»». ربما سيعترض كارناب، ولكن ما يبدو أن هايدجر يعنيه هنا هو أن الفهم المنطقي «للعدم» باعتباره نفي يفكر في النفي نظريا بالعقل. ويتمثل هدف هايدجر في المحاضرة (الذي عرض بتفاصيل مذهلة في كتاب «الكينونة والزمان») في أنه توجد طرق لفهم الأشياء غير الطريقة العقلية. فيدعي أنه قبل الكشف النظري للأشياء، يحدث كشف وجداني أو عاطفي فيما سماه هايدجر «الحالات المزاجية»؛ وهي ترجمته لمفهوم «العاطفة» عند أرسطو. وهكذا، يكون الشخص دائما في نوع من الحالات المزاجية، سواء أكان مكتئبا أم مبتهجا أم ببساطة غير مبال، وتتحدد طريقة رؤيته للأشياء من خلال هذه الحالة المزاجية. وبالنسبة إلى هايدجر، هذه الحالات المزاجية لا يمكن أن تفهم على أنها مجرد مشاعر، كنوع من التلوين النفسي في حياتنا العقلية الأحادية اللون على نحو عقلاني؛ فالحالات المزاجية تحدد طريقة اختبار البشر للحياة في العالم.
يصبح السؤال إذن: هل توجد حالة مزاجية تكشف العدم؟ إجابة هايدجر هي نعم، ويدعي أن هذه هي وظيفة «القلق». ولكن بالتأكيد دائما ما يشعر المرء بالقلق حيال هذا الأمر أو ذاك: الامتحانات، أو خوف مرضي من العناكب، أو الفئران، أو أيا ما كان. يصر هايدجر على أنه لا يقصد ذلك؛ فمن الأفضل تسمية هذا القلق المعين باسم «الخوف»؛ فعندما يزول السبب - العناكب أو الفئران أو الامتحانات - يختفي الخوف. يتمثل قصد هايدجر من فكرة القلق هذه في أنه يظل ويستمر قبل كل المخاوف، مثل بعض الضوضاء الغريبة في خلفية وجود الفرد؛ فالقلق هنا ليس قلقا حيال هذا الأمر أو ذاك، بل هو قلق حيال كينونة المرء بأكملها. ما يحدث في القلق - ويستخدم هايدجر هنا أسلوبا وصفيا رائعا - هو أن كل الأشياء المحددة تفلت من قبضة المرء ويترك المرء وحيدا، شاعرا بأنه غريب ودخيل. وفي تجربة الغربة الناتجة، وفي السكون وحتى الهدوء الذي تنتجه، يشعر المرء بعدمية كل شيء ويبدأ في طرح السؤال الميتافيزيقي، الذي كان لايبنيتس هو أول من طرحه: «لماذا توجد كينونات أساسا، ولماذا لا يوجد بدلا من ذلك عدم؟»
إذن، بالنسبة إلى هايدجر، العدم الذي ينكشف للمرء في تجربة القلق يؤدي به إلى طرح السؤال الميتافيزيقي المتعلق بمعنى الكينونة. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو غريبا، فإن مسألة العدم تدفع هايدجر مباشرة إلى قلب الميتافيزيقا، وهذا البحث لا يمكن إخضاعه للتصور العلمي للعالم الذي تطرحه حلقة فيينا . الفلسفة هي أساسا ميتافيزيقية، و«الفلسفة لا يمكن أن تقاس بمعيار فكرة العلم». ويخلص هايدجر إلى أن «الوجود الإنساني يمكن أن يوائم نفسه مع الكينونات فقط إذا وضع نفسه في العدم. والتجاوز يحدث في جوهر الوجود، ولكن هذا التجاوز نفسه ميتافيزيقي.» يجب أن يستند العلم إلى الميتافيزيقا. (2) المطوية الصفراء
كان عام 1929 عاما حافلا في مجال الفلسفة؛ ففي الفترة بين 15-17 سبتمبر من عام 1929، وبعد أقل من شهرين على محاضرة هايدجر، كان هناك اجتماع لجمعية إرنست ماخ في براغ. كان قد تقرر تقديم هدية لموريتس شليك (1882-1936)؛ الرمز الكبير لما سيسمى بعد ذلك - بسبب هذه الهدية - حلقة فيينا. كان شليك يعمل بعيدا في ستانفورد كأستاذ زائر، وكان قد رفض للتو كرسي الأستاذية في جامعة بون. كانت الهدية نصا قصيرا - في واقع الأمر بيانا - كان بعنوان «التصور العلمي للعالم. حلقة فيينا». كان واضع النص الرئيسي غير معروف، ولكن كانت المقدمة موقعة من قبل ثلاثة من أعضاء الحلقة - هانس هان، وأوتو نيورات، ورودولف كارناب - على الرغم من أن راديكالية مضمونها والنبرة الجدلية لعباراتها كانت تعكس آراء نيورات، الأكثر توجها نحو السياسة من الوضعيين المنطقيين. وسيعرف هذا النص القصير منذ ذلك الحين للمنضمين الجدد للحلقة باسم «المطوية الصفراء».
أكثر ما يلفت النظر - وبالنظر إلى الاتجاه المحافظ لجزء كبير من الفلسفة التحليلية التي ستدعي بعد ذلك أنها مستوحاة من فكر حلقة فيينا - هو الطابع السياسي الراديكالي الحاد لنص المطوية. والتصور العلمي للعالم يقف في صراع مع النزعات الميتافيزيقية واللاهوتية الرجعية في الفلسفة والسياسة؛ فبالنسبة إلى مؤلفي المطوية، حلقة فيينا «تواجه العصر الحديث» من خلال رفض الميتافيزيقا واعتناق العلم التجريبي. ويرتبط هذا التطور جوهريا - على نحو يذكرنا بماركس - بالإمكانية التحررية لعملية الإنتاج الحديثة. وتتفق حلقة فيينا مع العامة ما دامت «تميل مواقفهم الاشتراكية إلى أن تؤدي إلى وجهة نظر تجريبية عملية». وتروي المطوية الصفراء قصة مقنعة على الرغم من قصرها، ترجع آراء حلقة فيينا إلى حالات التقدم المختلفة التي حدثت في العلوم، وتشارك في الهجمات الجدلية على الميول الميتافيزيقية المناهضة للنزعة العلمية. وتنص عبارتها الأخيرة على ما يلي: «التصور العلمي للعالم يخدم الحياة، والحياة تتقبله.» توضح مثل هذه العبارات التنويرية الخطر الذي يمثله مفكر مثل هايدجر بالنسبة إلى حلقة فيينا. وكما أشار آير على نحو مختصر في خطاب حماسي أرسل من فيينا إلى أشعيا برلين في عام 1933: «كل الفلاسفة المعاصرين في ألمانيا ضالون أو حمقى؛ فحتى مجرد التفكير في فلسفة هايدجر يجعلهم يشعرون بالغثيان.» بالنسبة إلى فلاسفة حلقة فيينا الوضعيين، تمثل أعمال هايدجر العودة إلى الميتافيزيقا الرجعية المناهضة للنزعة العلمية، التي تتوافق سياسيا مع تطلعات الشعوب الجرمانية، وسيثبت العقد التالي صحة شكوك كارناب على نحو مأساوي؛ حيث سيغادر جميع الأعضاء البارزين في الحلقة فيينا - الذين كان كثير منهم من اليهود - بعد فترة قصيرة من ضم النمسا إلى ألمانيا النازية في عام 1936. وكما أشار برتراند راسل: «يبدو أن التدريب المنطقي الشديد الذي أخضع هؤلاء الرجال أنفسهم له، جعلهم في مأمن من الإصابة بعدوى الدوجما العاطفية ...» وفي مقابل التزام هايدجر العاطفي السياسي بالاشتراكية القومية في عام 1933، التي أعقبها التصوف العميق الذي يرى أن دور الفلسفة علاجي، والذي أربك أتباعه أيضا؛ اعتنق كارناب وجهات نظر يسارية طوال حياته، وكان بالفعل في ستينيات القرن العشرين ناشطا في الحركة المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية. قد تبدو السياسة في صراع كارناب وهايدجر محتفظة بأكثر من صدى لخلاف بنثام وكولريدج الذي سبق تحليله. (3) المنطق والتجريبية والشعر الجيد والسيئ
بوضع هذا في الاعتبار، دعنا نلق نظرة أكثر تمعنا على مقال كارناب في عام 1932، الذي كان عنوانه «تجاوز الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي للغة»؛ حيث اختار محاضرة هايدجر في عام 1929 كمثال أساسي على الهراء الميتافيزيقي. لم تكن حجة كارناب ضد الميتافيزيقا أن أفكارها ليست صحيحة، بل إنها ببساطة لا معنى لها؛ فبالنسبة إلى الوضعيين المنطقيين مثل كارناب، المعنى متأصل في مبدأ التحقق؛ أي إن الكلمة أو الجملة تكون ذات معنى فقط إذا كان يمكن التحقق منها مبدئيا. ولكن ما شروط التحقق؟ إنها تنقسم إلى شقين: منطقي وتجريبي .
بالنسبة إلى حلقة فيينا، وبدءا من راسل وأعمال فيتجنشتاين المبكرة، «المنطق» نظام إحالة ذاتية يسمح باختزال جميع العبارات إلى عبارات طوطولوجية أو متناقضة. دعنا نلق نظرة على المثال الكلاسيكي في هذا الشأن: عبارة «كل العزاب رجال غير متزوجين» طوطولجية؛ فالمحمول («رجال غير متزوجين») مساو أو متضمن في الموضوع («العزاب»). ويطلق على أمثال هذه العبارات ما يسميه الفلاسفة «الأحكام التحليلية»، وهذه الأحكام صحيحة ببساطة بمقتضى صيغتها، ولكنها لا تخبرنا شيئا على الإطلاق عما يحدث، عن الحقائق. عكس هذا هو التناقض، مثل «كل العزاب رجال متزوجون»، وهي بطبيعتها عبارة خاطئة، كما أنها لا تخبرنا شيئا أيضا. إذن، كل العبارات المنطقية تكون إما طوطولجية وإما متناقضة، والتي تكون إما صحيحة بالضرورة وإما خاطئة بالضرورة، ولكن كل هذه العبارات يمكن التحقق منها؛ ومن ثم لها معنى. العالم الوحيد ذو الكلمات أو الجمل ذات المعنى هو عالم «الحقيقة التجريبية». وآمن فيتجنشتاين في أعماله المبكرة بأن كافة الحوادث التجريبية أو الحالات المعقدة، يمكن اختزالها إلى عبارات بسيطة تعكس الحقائق أو «المعلوم»؛ وإذا عكست هذه العبارات البسيطة أو الأولية الحقائق، فيمكن حينها التحقق منها في مقابل الحقائق؛ فعبارتي: «هذه شجرة جاكاراندا» يمكن التحقق منها بمجرد النظر إلى الشيء الأخضر الضخم الجميل الموجود أمامي. العبارات التجريبية قابلة للتحقق منها؛ ومن ثم لها معنى.
ويتمثل الادعاء الرئيسي لكارناب في مقال عام 1932 في أن العبارات الميتافيزيقية ليست منطقية ولا يمكن التحقق منها تجريبيا؛ على سبيل المثال: إذا قلت إن «القلق يكشف كينونة أن تكون إنسانا»، فحينها سوف يسأل الوضعيون المنطقيون: هل يمكن التحقق من هذه العبارة منطقيا؟ لا؛ لأنها ليست طوطولجية ولا متناقضة. إذن، هل يمكن التحقق منها تجريبيا؟ لا؛ لأن «الكينونة» ليست حقيقة محددة مثل شجرة الجاكاراندا. ومن ثم فإن العبارة لا معنى لها. وما ينطبق على هذه العبارة ينطبق على كل العبارات الميتافيزيقية؛ فإذا لم تكن قابلة للتحقق منها، فإنها لا معنى لها ويمكن تجاوزها ببساطة من خلال التحليل المنطقي.
ولكن، ربما يطرح سؤال: إذا ما تم تجاوز الميتافيزيقا، وإذا أحرقنا كل الكتب التي تحتوي على عبارات لا يمكن التحقق منها - على غرار ما نصحنا به هيوم - فما هو الدور المتبقي للفلسفة؟ يصر كارناب على أن ما تبقى هو أسلوب التحليل المنطقي، وفي مقال جدلي يرجع لعام 1934 ذكر أن «حلقة فيينا لا تمارس الفلسفة». ولكن لو كان كارناب محقا (وهذا أمر مستبعد)، فكيف إذن نفسر حقيقة أن الفلاسفة وغير الفلاسفة كانوا منشغلين بالمسائل الميتافيزيقية منذ آلاف السنين؟ هل يمكن أن يكون الكثير من الناس بهذه الدرجة من الغباء لفترة طويلة جدا كهذه؟ في الصفحات الختامية الرائعة من مقالته، يجيب كارناب عن هذا السؤال مستندا إلى آراء فلهلم دلتاي بالقول إن الميتافيزيقا تعبير عن شعور تجاه الحياة. في هذا الصدد، تشبه الميتافيزيقا الفن، الذي يقدم أيضا تعبيرا عن شعور أو موقف حيال الحياة. ولكن - وهنا تكمن المشكلة - الميتافيزيقا أدنى منزلة من الفن؛ لأن الشاعر أو الموسيقي لا يتصور أن كلامه أو صوره له محتوى نظري أو معرفي؛ ومن ثم، فإن الميتافيزيقا فن سيئ، والميتافيزيقيون شعراء دون قدرات شعرية، وموسيقيون دون قدرات موسيقية. والغريب أنه بالنسبة إلى كارناب، كان المفكر الوحيد الذي فهم هذه المشكلة على أفضل نحو هو نيتشه، الذي كانت أعماله إما متضمنة بعض المحتوى التجريبي، مثل تحليلاته لتاريخ الأخلاق، وإما لا تختار التعبير عن نفسها في شكل نظرية، مثل أعمال هايدجر، ولكن في شكل شعر. من الواضح أن كارناب يفكر في كتاب نيتشه «هكذا تحدث زرادشت»، الذي يسعى إلى التصدي لمشكلة العدمية الفلسفية باتخاذ أسلوب غير ميتافيزيقي، ميثولوجي، وحتى سحري. (4) لب الصراع الفلسفي الذي ما زال خفيا
يقول آرني نيس على نحو بارع: «من المعقول أن نقول إن كارناب يقرأ أعمال هايدجر تماما مثلما قد يقرأ الشيطان الكتاب المقدس.» وهذا بلا شك صحيح، ولكن كما حاولت التوضيح من قبل، لدى كارناب وحلقة فيينا أسباب مفهومة لانتقاد هايدجر؛ فالصراع بين التصور العلمي للعالم وما يراه كارناب على أنه ميتافيزيقا هايدجر، ليس مجرد خلاف نظري فحسب، ولكنه أيضا تعبير عن الصراعات الاجتماعية والسياسية التي شوهت بشدة القرن الماضي. وبقدر علمي، لم يعد كارناب قط إلى صراعه مع هايدجر في أعماله اللاحقة. ولكن ماذا قال هايدجر؟
في رأيي، ليس من خصال هايدجر أنه يميل لمعاملة منتقديه بازدراء متغطرس، متجاهلا مواجهتهم على نحو مباشر؛ ومن ثم، لا توجد سوى إشارة «واحدة» اعتراضية فقط لكارناب في أعمال هايدجر المنشورة. ومع ذلك، توجد مواجهة غير مباشرة أكثر مع التحدي الفلسفي الذي يقدمه كارناب في جميع أعماله. يميل هايدجر لتسمية هذا باسم «المنطق الرمزي» بدلا من تسميته التحليل المنطقي أو الفلسفة التحليلية. وفي رأيي، يمكن للمرء أن يتخيل نقاشا مع كارناب بين سطور أعمال هايدجر ربما يثير النقاط الأربع التالية: (1)
التحليل المنطقي هو التعبير الأكثر تطرفا عن تجربة مجسدة للغة؛ أي تحول النسيج الحي للغة اليومية إلى سلسلة تقنية شكلية من الخطوات. إن محاولة الإصلاح المنطقي للغة تخاطر بتحويلها إلى شيء لا يمكن التعرف عليه من قبل مستخدمي اللغة؛ ففي أعمال هايدجر عن اللغة بداية من خمسينيات القرن العشرين، يشجعنا على الخضوع ل «تجربة مع اللغة» لا يمكن خوضها في أي لغة فوقية أو ما ورائية شكلية. وتبعد لغة كارناب الفوقية المنطقية عن تلك التجربة كل ما يمكن للمرء أن يتصوره من البعد. (2)
إضفاء الطابع الشكلي على اللغة في التحليل المنطقي يحول اللغة إلى أداة تقنية. ووجهة النظر اللغوية التي اعتمدها التحليل المنطقي الكارنابي أطلق عليها هايدجر في خمسينيات القرن العشرين «اللغويات الفوقية أو الماورائية»، وهي وجهة نظر يربطها بآرائه في مجال التقنية؛ بمعنى أن التحليل المنطقي الكارنابي ينتمي إلى تلك اللحظة التاريخية عندما اختزلت الفلسفة إلى التفكير التقني. ويضيف هايدجر على نحو لا ينسى: «اللغة الفوقية وسبوتنيك، واللغويات الفوقية وعلم الصواريخ أمر واحد.» والتحليل المنطقي متوافق مع إرادة القوة والسيطرة على الطبيعة التي تميز عصر التقنية. (3)
من وجهة نظر هايدجر، محاولة كارناب تجاوز الميتافيزيقا ببساطة عن طريق القضاء على كلمات مثل «الكينونة» و«العدم»؛ هي تعبير عن وجهة نظر ميتافيزيقية غير متأملة للعالم . وكما ذكر سابقا، يتمثل رأي هايدجر في أن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ نسيان الكينونة. والاعتقاد بأن كلمة «الكينونة» ينبغي أن تحذف من سجل المعاني يعود إلى التعبير الأكثر تطرفا لهذا النسيان؛ ولذلك، فإن تجاوز كارناب للميتافيزيقا ميتافيزيقي تماما مثل الميتافيزيقا التي يسعى إلى تجاوزها. (4)
وهكذا، فإن ثناء كارناب على نيتشه كاشف إلى حد كبير؛ فقد يدعي أحد أنصار هايدجر أن التحليل المنطقي ينتمي إلى لحظة نيتشوية في تاريخ الميتافيزيقا. ربما نتذكر أن نيتشه كتب في كتاب «أفول الأصنام»: «ولكن سيظل هرقليطس محقا دائما في ذلك؛ أن الكينونة خيال فارغ.» وهذا على الرغم من أن نيتشه كان سيرى الوضعية المنطقية مجرد تمهيد لانقلابه على الفكر الأفلاطوني.
على الأقل، هذه هي الكيفية التي يمكن للمرء من خلالها تخيل استجابة هايدجر للوضعية المنطقية. ولكن دعنا نعد إلى الذكر الوحيد لكارناب في أعمال هايدجر المنشورة؛ لأن ما يقوله يثير الدهشة بالفعل إلى حد ما. ظهر هذا الذكر في رسالة نشرت في عام 1964 كمقدمة لكتاب كتب في عشرينيات القرن العشرين، فيتحدث هايدجر ممارسا ضبط نفس شديدا عن:
لب الصراع فيما بين هذين الاتجاهين - الموقفين المتضادين الأكثر تطرفا (كارناب في مقابل هايدجر) - اللذين تميل «فلسفة» اليوم نحوهما؛ ما زال خفيا. وندعو هذين الموقفين اليوم: وجهة النظر العلموية التقنية للغة والتجربة التأملية التأويلية للغة.
والآن، أود أن أعتبر هذا الاقتباس هو تعبير هايدجر عن مشكلة الثقافتين في الفلسفة. وهذا يعني أن الفلسفة المعاصرة تتفق على أن اللغة هي العالم الذي يحدث فيه التفكير، ولكنها تختلف تماما حول أفضل السبل لفهم ووصف هذا العالم. بالنسبة إلى كارناب، هي مسألة إصلاح جوانب الغموض والتناقضات في لغة الحياة اليومية من أجل الحصول على رؤية واضحة لما يمكن وما لا يمكن أن يقال. وبالنسبة إلى هايدجر، هي مسألة الخضوع لتجربة مع اللغة حساسة لما يحدث في الحياة اليومية. (5) آراء كارناب
يجب ألا يتصور للحظة أن آراء كارناب وحلقة فيينا تمتعت بقبول عالمي بين الفلاسفة التحليليين؛ فالأمر بعيد عن ذلك كل البعد ؛ ففي مناقشة حول المزايا النسبية للوضعية المنطقية مع بريان ماجي في عام 1982، قال آير متهكما: «حسنا، أعتقد أن العيب الأكثر أهمية كان أن جميعها تقريبا كان خاطئا.» وفيما يلي ذكر ثلاث نقاط إشكالية في هذا الصدد على نحو وجيز: (1)
معيار كارناب لتمييز العلم عن الميتافيزيقا هو نظريته التي ترى أن المعنى يقوم على مبدأ القابلية للتحقق. يشير كارل بوبر على نحو مقنع إلى أن فكرة المعنى تلك معيار محدود للغاية بحيث لا يستطيع عمل هذا التمييز؛ لأن العديد من النظريات العلمية يتسم بطابع تأملي على نحو كبير، وكدليل على ذلك قدم مثالا بنظرية أينشتاين؛ فنظرية النسبية هي تخمين تأملي ببساطة لا يمكن اختزاله إلى مجموعة من عبارات الملاحظة التجريبية. في الواقع، يمكن قول الأمر نفسه أيضا عن الديناميكيات النيوتونية، والتي قبلت كنظرية ليس لأنها كان يمكن التحقق منها تجريبيا، ولكن لأنها كانت الفرضية ذات القوة التفسيرية العظمى. وإذا تأكدت نظريات نيوتن أو أينشتاين في وقت لاحق عن طريق الملاحظة، فذلك أفضل بكثير. وإن لم تؤكد، فسيكون قد تم دحضها؛ فصدق التخمين يعتمد على قدرته على الصمود أمام التفنيد. وهكذا، فإن معيار بوبر لتمييز العلم عن الميتافيزيقا هو القدرة على الدحض. إذا كانت النظرية قابلة للدحض، فإنها نظرية علمية، وإذا لم تكن قابلة للدحض، فإنها نظرية ميتافيزيقية. (2)
ثمة مجموعة ثانية من المشاكل تظهر حيال مبدأ التحقق؛ بداية، في مواجهة الهجوم النقدي، اختزل كارناب وجهة نظره من التحقق التجريبي الكامل إلى «مبدأ القابلية للتأكيد». في وجهة النظر تلك، تكون الجمل والكلمات ذات معنى إذا كانت «مبدئيا» قابلة للتأكيد من خلال ملاحظة «ممكنة». لا يزال هذا معيارا تجريبيا للمعنى، على الرغم من أنه أقل تشددا من النسخة السابقة. ومع ذلك، فإن المشكلة الحقيقية هنا هي حالة مبدأ القابلية للتحقق نفسه: إذا كان يجب التحقق من كافة المسائل من خلال مبدأ القابلية للتحقق، فكيف إذن نتحقق من هذا المبدأ نفسه؟ بمعنى، ماذا يعني التحقق من القابلية للتحقق؟ تذكر أنه وفقا لمبدأ القابلية للتحقق ، تكون الكلمات والجمل ذات معنى فقط إذا كانت قابلة للاختزال إلى كلمات أو جمل طوطولوجية، أو يمكن ملاحظتها تجريبيا. ومبدأ القابلية للتحقق لا يمكن أن يكون عبارة تجريبية؛ لأنه هو الذي يكسب مثل هذه العبارات معنى: فلا يمكن ملاحظة المبدأ نفسه. مع ذلك، لا يمكن أيضا أن يكون طوطولوجيا؛ لأنه على الرغم من عدم كونه حقيقة في حد ذاته، فإنه يتعلق بالحقائق لأنه هو المعيار الذي يحكم بموجبه عليها. ولا يمكن أن تكون للعبارات الطوطولوجية المنطقية بطبيعتها علاقة بالحقائق؛ ومن ثم إذا لم يكن عبارة طوطولوجية ولا حقيقة، فكيف يمكن للمرء إذن أن يتحقق منه؟ الخيار الوحيد هو أنه يجب أن يكون بطريقة أو بأخرى ذاتي التحقق؛ مما يعني أنه يجب أن يكون قادرا على تقديم عبارات حول نفسه وتقديم حجته الخاصة. يبدأ كل هذا في أن يبدو إلى حد ما شبيها بالميتافيزيقا القديمة التي أراد كارناب وحلقة فيينا تجاوزها. يمكن صياغة المشكلة على نحو أكثر تبسيطا؛ مبدأ القابلية للتحقق هو نسخة حديثة من مبدأ شفرة أوكام، الذي يزيل الكيانات الميتافيزيقية الزائدة من عالم الحقائق التجريبية. والسؤال هو: كيف يمكن لهذه الشفرة إزالة نفسها؟ إذا لم تكن هذه الشفرة قادرة على إزالة نفسها، فلا يمكننا بالأحرى التحقق من القابلية للتحقق. إن مبدأ التحقق هو تناقض ذاتي أدائي. (3)
ولكن كانت الاعتراضات الأكثر شراسة على كارناب هي التي قدمها تلميذه كواين في بحثه الشهير بعنوان «عقيدتا التجريبية» (1951). تتمثل عقيدة التجريبية الأولى في إمكانية التمييز بين العبارات الطوطولوجية المنطقية وعبارات الملاحظة التجريبية؛ ما يعرف تقنيا باسم التمييز التحليلي الاصطناعي. والعقيدة الثانية هي ما يسميه كواين «الاختزال الراديكالي»؛ أي إن كل عبارة تجريبية يمكن اختزالها إلى عبارة عن الحقائق أو المعلوم. يدعي كواين أن العقيدة الثانية لا يمكن إثباتها، وإذا كانت هذه هي الحال، فإن العقيدة الأولى تسقط أيضا؛ ومن ثم، تنهار صورة كارناب حول المعنى بأكملها. وبكلمات ويلفيرد سيلرز، انخدع كارناب وحلقة فيينا ب «أسطورة المعلوم»؛ بفكرة أن الكلمات والجمل لها علاقة مباشرة بواقع موجود في اللحظة الراهنة. يقدم كواين صورة بديلة عن علاقة المعتقدات بالتجربة، مشبها مجموع معرفتنا «بنسيج من صنع الإنسان يمس التجربة فقط عند الحواف». ونتيجة هذا الرأي هي صورة أكثر شمولية بكثير للعلاقة بين المعتقدات والتجربة، أو المفهوم والحدس، والتي وصفها كواين بأنها «البراجماتية الشاملة». وعلى الرغم من مضي كواين في أعماله اللاحقة بوصف وجهات نظره الأولى بمصطلحات طبيعية أقوى بكثير، فإنه من خلال هذا النقد البراجماتي للتجريبية صنع ريتشارد رورتي صلات رائعة بالتقليد الفلسفي القاري. (6) فيتجنشتاين يعتقد أنه يعرف ما يعنيه هايدجر
كما رأينا، فإن جانبا كبيرا من هذا الجدل ينصب على مسألة الميتافيزيقا، مع اتهام كارناب لهايدجر بأنه ميتافيزيقي، وتلميح هايدجر إلى أن تصور كارناب العلمي للعالم يستلزم وجود ميتافيزيقيا غير مفحوصة؛ ومن ثم، يتهم كل منهما الآخر بالخطأ الميتافيزيقي نفسه. وليس هذا الأسلوب السيئ الواضح شيئا جديدا في تاريخ الفلسفة. ولكن كوسيلة لتوفيق هذين الموقفين المتعارضين، اسمح لي أن أنتقل إلى مقتطف صغير كتبه فيتجنشتاين أيضا في عام 1929؛ حيث يقول ردا على محاضرة هايدجر:
أستطيع بلا ريب أن أعرف بسهولة ما يعنيه هايدجر بالكينونة والقلق؛ فالرجل يشعر بالحاجة للتعامل مع حدود اللغة. فكر، على سبيل المثال، في الدهشة الناجمة عن عدم وجود أي شيء على الإطلاق. لا يمكن التعبير عن هذه الدهشة في شكل سؤال، ولا يوجد جواب على الإطلاق؛ فبديهي أن أي شيء قد نقوله لا بد أن يكون مجرد هراء، ومع ذلك فإننا نحاول التعامل مع حدود اللغة.
لعل من المفيد هنا أن ننظر لفيتجنشتاين كطرف ثالث وسيط في النزاع بين هايدجر وكارناب. وعلى الرغم من أن برنامج حلقة فيينا للتحليل المنطقي استلهم إلى حد كبير من كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية»، فإن العلاقات بين فيتجنشتاين وحلقة فيينا لم تكن قط على ما يرام، وقطع فيتجنشتاين فجأة ولسبب غير مفهوم علاقته بكارناب في عام 1929. وكذلك بعد عودة فيتجنشتاين للفلسفة في أواخر عشرينيات القرن العشرين، خضعت وجهات نظره لتغيير سريع نأى به على نحو متزايد عن حلقة فيينا. واستباقا لكواين، رأى فيتجنشتاين أن آراءه في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» دوجماتية. ومن ثم، إذا اعتبرنا أن فيتجنشتاين الشاب كان مأخوذا بصورة للغة تختزل إلى منطق تمكن المرء من قول ما يمكن أن يقال بينما يتجاهل باقي الأمور في صمت، فإن فيتجنشتاين الأكبر سنا سعى للهروب من هذه الصورة من خلال تحليل استخدام اللغة العادية. وكما يقول في كتاب «تحقيقات فلسفية»: «لا تبحث عن المعنى، ابحث عن الاستخدام.» هذا يعني أن الاهتمام الفلسفي الرئيسي يصبح فهم اللغة في استخدامها البراجماتي اليومي. نحن لسنا بحاجة لابتكار لغة جديدة لأن اللغة التي لدينا كافية تماما.
اعتاد فيتجنشتاين رواية حكاية من حواراته مع جي إي مور في كامبريدج؛ حيث تركز حوارهما حول المشكلة التالية: هل يجب أن نفهم التحليل المنطقي لكي نفهم ما نعنيه بعبارات اللغة العادية؟ رد فيتجنشتاين على مور بهذه الكلمات: «يا لها من فكرة جهنمية!» بهذا المعنى، مع وضع فلسفة هايدجر في الاعتبار، ربما نرى فيتجنشتاين الأكبر سنا يسعى إلى الانتقال بعيدا عن اللغة الفوقية الشكلية ونحو تجربة اللغة ذاتها. لذلك، إذا كانت محاولة كارناب لتجاوز الميتافيزيقا تستند إلى وجهات نظر فيتجنشتاين الشاب، فإن فيتجنشتاين الأكبر سنا يمثل ما يمكن تسميته ب «تجاوز التجاوز»؛ حيث نضع جانبا عقائد التحليل المنطقي ونعود إلى اللغة العادية والحياة الاجتماعية البشرية، المعبر عنها بتلك اللغة بكل استخداماتها اليومية الغنية على الرغم من فوضويتها.
شكل 6-3: جاك كالو (1592-1635)، لوحة «عملاقان».
ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نتصور أن فيتجنشتاين كان بنحو ما من معتنقي فكر هايدجر السعداء؛ فهذا أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة. من الواضح أن تعليقه ينطوي على نقد كبير لهايدجر؛ ففيتجنشتاين يعتقد أنه يعرف ما يعنيه هايدجر بالكينونة والقلق، ولكن يشير ضمنا إلى أن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تقال دون الوقوع في الهراء. ما يحاول هايدجر القيام به في محاضرة 1929 من وجهة نظر فيتجنشتاين، هو قول ما لا يمكن قوله عن طريق محاولة التعامل مع حدود اللغة. وبالنسبة إلى فيتجنشتاين، يعد الهراء الآن عملا جادا ويشهد لرغبات عميقة لدى البشر، وهو ما قد يصفه بأنه أمر أخلاقي. ولكن على الرغم من ذلك ما يقوله هايدجر هراء، وهو ما يمثل رأي كارناب على الرغم من كل شيء. تعد محاضرة «ما هي الميتافيزيقا؟» مثالا كلاسيكيا لسوء استخدام اللغة؛ لذلك، فإن حقيقة أن فيتجنشتاين يعرف ماذا يعني هايدجر بالكينونة والقلق لا تعني بالضرورة أن هذين المصطلحين يعنيان ما يعتقد هايدجر أنهما يعنيانه.
في رأيي، لا يكمن الاهتمام بصراع هايدجر وكارناب في تحديد من محق ومن مخطئ، ولكن في النظر إلى هذا الصراع باعتباره تعبيرا واضحا عن إشكالية فلسفية ومرض ثقافي لا يزالان معنا إلى حد كبير. إذا لم يكن هذا مدركا، فإننا أمام خطر جمود فلسفي عقيم؛ وهو المواجهة بين العلموية من ناحية، والظلامية من ناحية أخرى. ويتمثل موضوع الفصل التالي في محاولة إيجاد وسيلة لتجاوز هذه المواجهة والوصول إلى لب الفلسفة الذي لا يزال خفيا، والذي يتحدث عنه هايدجر.
الفصل السابع
العلموية في مقابل الظلامية: تجنب المأزق التقليدي في الفلسفة
الفلسفة الحقيقية تتمثل في إعادة تعلم كيفية النظر إلى العالم.
موريس ميرلو-بونتي
كما أشرت في الفصل الرابع، فإن حقيقة أن جانبا كبيرا من الفلسفة في التقليد القاري يمكن أن يقال إنه استجابة لشعور بالأزمة في العالم الحديث، ومحاولة لإنتاج وعي ناقد للحاضر بنية تحررية؛ تساعد إلى حد كبير في تفسير الفارق الأكثر بروزا وإثارة الذي يميزه عن جزء كبير من الفلسفة التحليلية، وهو مناهضة العلموية؛ فمن منظور قاري، اعتناق العلموية في الفلسفة يفشل في فهم الوظيفة النقدية والتحررية للفلسفة؛ أي إنه يخفق في إدراك التواطؤ المحتمل بين التصور العلمي للعالم وما رآه نيتشه على أنه عدمية؛ فهو يفشل على نحو أساسي في معرفة الدور الذي تقوم به العلوم والتكنولوجيا في اغتراب البشر عن العالم. هذا الاغتراب يمكن أن يحدث بعدد من الطرق، سواء أكان من خلال تحويل العالم إلى عالم محتم سببيا من الأشياء يقف ضد ذات إنسانية معزولة ، أم من خلال تحويل هذه الأشياء إلى سلع فارغة يمكن مسحها أو تبادلها بلا مبالاة.
يكمن نقد العلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن - وعلاوة على ذلك، لا ينبغي - أن يعد نموذجا للتفكير الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا تعد السبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم العالم. يجد المرء تعبيرا عن هذا الاعتقاد لدى مجموعة كبيرة من المفكرين في التقليد القاري مثل برجسون وهوسرل وهايدجر، والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. وفي هذا الصدد، أوصي بشدة بقراءة كتاب هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (1968)؛ فبالنسبة إلى هابرماس، العلموية تعني الإيمان بالعلم في حد ذاته؛ أي «الاقتناع بأننا لم يعد بوسعنا أن نفهم العلم «كشكل» من أشكال المعرفة، وإنما يجب اعتبار أن المعرفة هي العلم.» ويعد كتاب «المعرفة والمصالح البشرية» نقدا منهجيا للعلموية التي تبدأ تاريخيا بالاعتقاد بظهور الوضعية من خلال تقبل فلسفة كانط النقدية في منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال إرنست ماخ وأوجست كونت. يروي هابرماس على نحو أساسي تاريخ ما قبل تصور حلقة فيينا العلمي للعالم، ولكن مقصده نقدي وتحرري على حد سواء. ويشير إلى أن الوضعية والعلموية تشكلان إنكارا لأي تأمل نقدي، وهو التأمل من النوع المتجسد في أعمال كانط وفي تطور المثالية الألمانية لهذا المشروع النقدي، الذي وفر أساسا لنظرية اجتماعية تحررية لدى ماركس وفيبر، ومدرسة فرانكفورت في بداياتها. ما يعنيه هابرماس بهذا الادعاء هو أن فلسفة كانط النقدية هي (كما رأينا في الفصل الثاني) تأمل في شروط إمكانية وجود ذات عالمة ومتحدثة وفاعلة؛ ومن ثم فإن كانط يسعى من خلال ذلك إلى وضع أسس المعرفة النظرية العلمية، إلا أن بحثه المتعالي له هدف تحرري، لدرجة أنه يسعى للدفاع عن مفهوم الحرية الإنسانية. وكما يشير هابرماس: «فعل التأمل الذاتي الذي «يغير الحياة» هو حركة تحرر.» ويتقدم هيجل بعد ذلك بهذا المشروع النقدي إلى مرحلة أخرى، عن طريق تأمل الطرق التي ينبغي من خلالها أن تفترض فلسفة كانط مقدما مجموعة كاملة من الافتراضات المضمنة سياقيا ، المتأصلة في عالم الحياة القائم فعليا وهياكل الحياة الاجتماعية وتاريخها؛ هذا يعني أن صورة كانط عن «المعرفة» ينبغي أن تفترض مقدما سلسلة كبيرة من «المصالح» التي لم تخضع لتأمل ملائم؛ وهذا هو أساس ادعاء هيجل أن الأخلاق الكانطية، على الرغم من قصدها الجدير بالثناء، لا تزال شكلية مجردة خالية من السياق. ويزعم هابرماس بعد هيجل أن مفهوم التأمل النقدي هذا حول علاقة المعرفة بالمصلحة اختير بطريقة تمثيلية من قبل التحليل النفسي الفرويدي، على الرغم من ميل فرويد المؤسف نحو العلموية الذي يبذل هابرماس قصارى جهده لاستئصاله. يعني هذا أن التحليل النفسي ممارسة تأملية نقدية تسعى إلى تحرير البشر من الأوهام المختلفة التي يعتادون خداع أنفسهم بها، و«من خلال فهم هذه الأوهام، تحرر الذات نفسها من نفسها». (1) ممارسة الفنومينولوجيا
مع ذلك، يوجد خطر يتمثل في أن يتحول القلق المشروع حيال العلموية إلى توجه مناهض للعلموية، وهذا هو خطر «الظلامية». من وجهة نظري، القطبان اللذان يجب تجنبهما في الفلسفة هما العلموية والظلامية، اللذان يعكسان الميول الضارة داخل الفلسفة التحليلية والقارية، كما يبين الصراع بين كارناب وهايدجر على نحو واضح. في إشارة هايدجر الوحيدة لكارناب، تحدث عن «لب الصراع الذي لا يزال خفيا» في التفكير بين الطرفين المتقابلين للفلسفة المعاصرة. أريد الآن أن أحاول النظر في لب الصراع هذا من خلال الدفاع عن مفهوم للفنومينولوجيا يهدف إلى تقويض العلموية دون الوقوع في الظلامية.
يصف ميرلو-بونتي بأسلوب بارع مهمة الفنومينولوجيا بأنها «الكشف عن الطبقة قبل النظرية» للتجربة البشرية، التي يقوم عليها الموقف النظري للتصور العلمي للعالم. إن ما أود الدفاع عنه هنا هو شيء يشبه مفهوم ميرلو-بونتي عن الفنومينولوجيا. من وجهة نظري، المسألة مسألة ممارسة الفنومينولوجيا من أجل محاولة كشف الطبقة قبل النظرية لتجربة الأشخاص والأشياء، وإيجاد صيغة وصف موفق لهذه الطبقة من التجربة مع صرامتها ومعايير صحتها. إنه هذا البعد الصلب - على الرغم من أنه غير ملموس تقريبا - من التجربة قبل النظرية، الذي تتمثل مهمة الفنومينولوجيا في توضيحه؛ لغز المألوف الذي حاول ميرلو-بونتي توضيحه بمفهوم «الإيمان الحسي». وهذا يعني أنه عندما أفتح عيني وأنظر حولي للعالم، فإن لدي ثقة تامة بأنه موجود وذو معنى على نحو كبير. المشكلة هي أن هذا الإيمان ينهار عندما أبدأ في تأمله وأسأل نفسي: «حسنا، كيف يمكن أن أكون على يقين من أنه يوجد عالم خارجي بالنسبة إلي، عندما لا تكون الأدلة القادمة من حواسي دائما قابلة للاعتماد عليها تماما؟» كيف يمكن للمرء استعادة سذاجة الإيمان الحسي عندما يكون قد بلغ بالفعل نقطة التأمل؟ يجيب ميرلو-بونتي على هذه المسألة بمفهوم يسميه «فرط التأمل»؛ وهو أن الفنومينولوجيا تأمل فيما يسبق التأمل، الركيزة قبل النظرية للتجربة. الهدف هنا هو أن الوصول إلى المستوى قبل النظري للتجربة الإنسانية ليس بالضرورة فوريا للبشر مثلنا الذين بلغوا التوجه الذهني النظري للعلوم؛ ومن ثم، فإن الفنومينولوجيا تنطوي على إعادة تعلم كيفية النظر إلى العالم بكل ما فيه من وجود واضح وفعلي. (2) ما قبل العلوم
إذن، كيف تستطيع الفنومينولوجيا تجنب العلموية والظلامية كلتيهما؟ اسمح لي أن أبدأ بالعلموية. في رأيي، تستند العلموية لادعاء خاطئ بأن الطريقة العلمية النظرية أو الطبيعية لرؤية الأمور توفر السبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم أنفسنا وعالمنا، وأن منهجية العلوم الطبيعية تقدم أفضل شكل من أشكال التفسير لجميع الظواهر. تبين الفنومينولوجيا أن التصور العلمي للعالم في أعمال كارناب ونيورات - مثلا - يعد متطفلا على رؤية عملية مسبقة للعالم كسابقة للتأمل بطريقة عملية وواقعية. وهذا العالم هو ما يمكن أن نسميه «البيئة»؛ العالم الذي يحيط بنا، والذي يكون الأقرب والأكثر اعتيادا والأكثر معنى بالنسبة إلينا. هذا العالم المحيط ليس عالم العلم الموضوعي المحايد، ولكنه العالم الذي دائما ما يلون عن طريق قيمنا المعرفية والأخلاقية والجمالية؛ وهذا يعني أن العلموية - أو ما يسميه هوسرل «الموضوعية» - تتغاضى عن ظاهرة «العالم المعاش» باعتبارها الشرط المخول للممارسة العلمية. يصف هوسرل العالم المعاش في كتاب «أزمة العلوم الأوروبية» على النحو التالي:
ينتمي للاعتقادات المسلم بها، السابقة لكل تفكير علمي وكل التساؤلات الفلسفية، الاقتناع بأن العالم موجود، بأنه موجود دائما مسبقا، وأن كل تصحيح لاعتقاد ما، سواء أكان قائما على التجربة أم غيرها، يفترض دائما وجود العالم، وذلك بمنزلة أفق لكل موجود له صلاحية غير مشكوك فيها ... والعلم الموضوعي أيضا يطرح أسئلته فقط على أساس وجود العالم مسبقا انطلاقا من الحياة قبل العلمية.
إن نقد العلموية من خلال الفنومينولوجيا لا يسعى لدحض أو نفي نتائج البحث العلمي لصالح بعض الفهم الصوفي لوحدة الإنسان والطبيعة، أو غير ذلك. بدلا من ذلك، فإنه يؤكد ببساطة على أن العلم لا يعد السبيل الأساسي أو الأكثر أهمية لفهم أنفسنا والعالم. ومناهضة العلموية لا تستلزم على الإطلاق توجها مناهضا للعلم، كما أنها لا تعني أن «العلم لا يفكر»؛ وهي عبارة متأخرة لهايدجر سببت من المشاكل أكثر مما حلت. في رأيي، ما يلزم هنا هو ما أشار إليه هايدجر الشاب في عبارة يتم تجاهلها كثيرا، على الرغم من أنها موحية للغاية من كتاب «الكينونة والزمان»، وهي: «مفهوم وجودي للعلم»، وهذا من شأنه إظهار كيف أن ممارسات العلوم الطبيعية تنشأ من ممارسات العالم المعاش، وكيف أن ممارسات العالم المعاش لا يمكن ببساطة اختزالها إلى تفسير علمي طبيعي.
اسمح لي بتفصيل هذه النقطة أكثر قليلا مع الإشارة إلى مفهوم هايدجر «ما قبل العلم». في محاضرة واضحة على نحو مذهل في عام 1924، تتضمن في صورة مبدئية العديد من الحجج الموجودة في كتاب «الكينونة والزمان»؛ يصف هايدجر تأملاته بأنها تنتمي إلى ما قبل العلم الذي سيكون بمنزلة توضيح تأويلي لشروط إمكانية البحث العلمي. ما يعنيه هايدجر بهذا هو أن ما قبل العلم يصف الأصل الاجتماعي للتوجه النظري للعلوم في ممارسات العالم المعاش. وبينما سأفترض بطيبة أنه محاولة للمزاح من جانب هايدجر، يصف ما قبل العلم بأنه مثل قوة الشرطة في موكب العلم، التي تجري تفتيشا منزليا من آن لآخر في الأفكار القديمة، وتتحقق مما إذا كان البحث العلمي في الواقع قريبا من الأشياء نفسها - ومن ثم يكون فنومينولوجيا - أو ما إذا كان العلم يتعامل مع معرفة تقليدية أو موروثة خاصة بتلك الأشياء. يتخيل المرء اعتقالا جماعيا واحتجازا لحشود كبيرة من الفلاسفة المعتنقين للفكر الطبيعي من قبل شرطة الفنومينولوجيا هذه. في مواضع أخرى في أعمال هايدجر، تسمى شرطة الفنومينولوجيا تلك «منطق منتج»؛ أي هي كشف قبل علمي للعالم المعاش الذي يمثل أساس العلوم بالقفز أمامه. ما يبدو أن هايدجر يعنيه هنا هو أنه على النقيض من التصور التجريبي أو اللوكي حول الفيلسوف كعامل مساعد للعلم (كما أوضحنا في الفصل الأول)، فإن المنطق المنتج يقفز أمام العلوم من خلال توضيح أساسها في فنومينولوجيا الأشخاص والأشياء والعالم؛ الطبقة قبل النظرية للتجربة.
ما أسميه «ما قبل العلم الفنومينولوجي» أو «التصور الوجودي للعلم» لا يفند أو يدحض عمل العلوم، إنما يوضح أن التوجه النظري للعلوم يجد شرط إمكانية وجوده في ممارسات العالم المعاش خاصتنا المتعددة؛ بعبارة هابرماس، المعرفة النظرية متأصلة في الاهتمامات العملية. علاوة على ذلك، وكما سيتضح فيما يلي، إنه يبين أن هذه الممارسات تتطلب توضيحا تفسيريا أو تأويلا، وليس فرضيات العلوم الطبيعية السببية أو تفسيرات العلوم الزائفة التي تبدو سببية. ما تقدمه الفنومينولوجيا هو إعادة وصف توضيحي للأشخاص والأشياء والعالم الذي نعيش فيه. وعلى هذا النحو، لا تنتج الفنومينولوجيا أي اكتشافات كبيرة، بل تعطينا سلسلة من رسائل التذكير حول أشياء كنا مطلعين عليها، ولكنها تصبح غير ملحوظة عندما نتبنى التوجه النظري للعلوم الطبيعية. تقدم الفنومينولوجيا ما يمكن أن نسميه «تذكيرات يومية»؛ تذكيرا بالممارسات والأعمال الروتينية التي تحدث في الخلفية، والتي تشكل الشبكة الحساسة للحياة العادية. (3) معضلة الملفات الغامضة
اسمح لي أن أنتقل الآن إلى الظلامية. من المهم أن نشير إلى أن مثل هذا النهج الفنومينولوجي المناهض للعلموية «يمكن» أن يؤدي إلى «الظلامية» المعادية للعلموية، التي تعد في نواح كثيرة المفهوم المعاكس أو المضاد للعلموية، ولكن ليس من «الضروري» أن يفعل ذلك إذا كنا حذرين بما فيه الكفاية للقيام ببعض عمليات التدقيق الفكري. ربما يمكن تعريف الظلامية هنا بأنها رفض التفسيرات السببية التي تقدمها العلوم الطبيعية عن طريق إحالتها إلى قصة سببية بديلة، ذات مرتبة أعلى بنحو ما، ولكنها غامضة في الأساس؛ بمعنى أن الظلامية هي استبدال الشكل العلمي للتفسير، الذي يعتقد أنه علمي، بتفسير مناهض للعلم وغامض، ولكنه لا يزال سببيا؛ على سبيل المثال: لم يحدث الزلزال بسبب الصفائح التكتونية، ولكن بسبب غضب الرب من كثرة آثامنا.
كظاهرة ثقافية، هذا شيء يمكن ملاحظته في كل حلقة من حلقات مسلسل «الملفات الغامضة»؛ حيث تقدم فرضيتان سببيتان، واحدة علمية وأخرى غامضة، وحيث يثبت دائما خطأ الفرضية الأولى وصحة الثانية، ولكن بطريقة تتركنا في حيرة بعض الشيء. وهذا يعني أنه يمكن تفسير الظاهرة الخارقة للطبيعة محل البحث، ولكن سببها يظل غامضا؛ فهي لغز. والآن، بما أن معضلة الملفات الغامضة هذه بمنزلة إلهاء ثقافي، فيمكن القول إنها لا تضر كثيرا، ولكن في نطاقات أخرى يمكن أن تكون أكثر ضررا. ومن أمثلة التفسيرات الظلامية المألوفة إرادة الرب، والوجود المطلق للكائنات الفضائية، وتأثير النجوم على السلوك البشري، وما إلى ذلك. وثمة تفسيرات أخرى أقل وضوحا، ولكن يمكن القول إنها تساوي السابقة في الضرر، منها الدوافع الفرويدية، أو الأنماط الأولية لدى يونج، أو المطلق لدى لاكان، أو السلطة عند فوكو، أو «الاختلاف» عند دريدا، أو أثر الرب لدى ليفيناس، أو - بالطبع - الغياب الخطير للكينونة وغيابها عن تاريخ الميتافيزيقا لدى هايدجر في أعماله الأخيرة. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية.
في رأيي، ما يظل بوسعنا تعلمه من الفنومينولوجيا هو أنه عندما يتعلق الأمر بالسبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم الأشخاص والأشياء - ما يمكن أن نسميه مخزوننا الكامل من المعرفة الضمنية بالعالم الاجتماعي - فإنه لا تلزمنا تفسيرات علمية سببية، أو فرضيات زائفة العلمية تتعلق بأسباب غامضة، ولكن ما أسميه، على غرار فيتجنشتاين، «ملاحظات توضيحية»؛ على سبيل المثال: «جوانب الأشياء التي تمثل الأهمية الكبرى بالنسبة إلينا تكون خفية بسبب بساطتها وألفتها (فالمرء لا يكون قادرا على ملاحظة شيء ما لأنه دائما موجود أمام عينيه).» تجلب الملاحظات التوضيحية أمام أعيننا ملامح حياتنا اليومية التي كانت خفية لكنها بديهية ، وكانت خفية لأنها كانت بديهية. وهي تجعل هذه الظواهر أكثر وضوحا، وتغير الجانب الذي ترى بموجبه، وتمنح الأمور نظرة شاملة جديدة ومثيرة للدهشة. بهذا المعنى، تمثل الفنومينولوجيا إعادة ترتيب لما كان معروفا ضمنيا لكنه أصبح غير ملحوظ؛ فهي تسمح لنا بإعادة تعلم كيفية النظر إلى العالم. وبطبيعة الحال، النظر لأعمال هايدجر على هذا النحو لا يبدو مثيرا مثل التحدث عن الهبة العظيمة للكينونة في حال غيابها أو أيا كان، ولكن ربما هذا النوع من الإثارة هو شيء نكون أفضل حالا من دونه.
ينبغي أن يكون واضحا مما قلته أنني أحاول القيام بدراسة مصغرة لتحديد أمراض المشهد الفلسفي المعاصر، التي تهدف إلى التعليق على أسوأ تجاوزات الفلسفة القارية والتحليلية، وربما كبحها. من ناحية، يوجد خطر الظلامية في جانب من الفلسفة القارية؛ حيث تفسر الظواهر الاجتماعية بالإشارة إلى قوى وكيانات وفئات واسعة جدا وغامضة للغاية بحيث يمكن أن تفسر كل شيء ولا شيء على الإطلاق؛ على سبيل المثال: ظاهرة مثل شبكة الإنترنت (أو الهواتف المحمولة أو حتى البيوت المتنقلة) يمكن أن ينظر إليها باعتبارها دليلا إضافيا لدعم أطروحة هايدجر حول ما يسميه «الإطار»؛ أي التوجه المؤطر الذي يسود في العالم التكنولوجي؛ ومن ثم يؤدي إلى نسيان الكينونة. وعلى هذا النحو، يبدو أن الظواهر اليومية تفسر بالإشارة إلى قوى تبدو سببية، تعمل مثل الآلهة في الأساطير القديمة. وربما ينظر إلى أي جانب من جوانب الحياة الشخصية والعامة باعتباره دليلا على قوالب السلطة الانضباطية، أو تفكك «الآخر الكبير» أو صدمة الواقع، أو الكينونات المتعددة للجسد دون أعضاء، أو أي شيء. وحيثما توجد هذه النزعات الظلامية، فإنه يجب أن يكون العلاج إزالة الغموض أو إزالة الوهم؛ بمعنى أنه يجب أن يوجد نقد لهذا النوع من الكلام، وتحقيق في أسباب انخراطنا في ذلك في المقام الأول.
ولكن، على الجانب الآخر من دراستي المصغرة هذه، ثمة خطر العلموية المزمن في بعض مجالات الفلسفة التحليلية. إذا كنا نستطيع تصور بحث فلسفي بعنوان «التجارب الواعية الذاتية والمادية: سد الفجوة التفسيرية»، فلماذا إذن لا نتصور أبحاثا بعناوين مثل «الانفجار العظيم وأنا: سد الفجوة التفسيرية» أو «الانتقاء الطبيعي وأنا: سد الفجوة التفسيرية»؟ يتمثل افتراض تلك الأساليب العلموية في وجود فجوة يمكن سدها من خلال تفسير تجريبي أفضل. لقد كان رأيي عبر هذا الكتاب أنه توجد فجوة شعورية هنا - الفجوة بين المعرفة والحكمة - لا يمكن سدها خلال الدراسة التجريبية؛ وهذا يعني أن مسألة معنى الحياة لا يمكن اختزالها إلى دراسة تجريبية. وهذه الفجوة الشعورية بين المعرفة والحكمة هي مساحة التأمل النقدي نفسها؛ فإننا نحتاج في الفلسفة - ولكن أيضا على نحو أكثر عموما في الحياة الثقافية - إلى قص أجنحة العلموية والظلامية؛ ومن ثم نتجنب أسوأ ما في الفلسفة القارية والتحليلية؛ وهذا يعني أننا بحاجة لتجنب خطأ الاعتقاد بأننا نستطيع حل ما يتطلب توضيحا فنومينولوجيا من خلال تفسير سببي أو شبه سببي. بطبيعة الحال، الكلام أسهل بكثير من الفعل، ولكن على الأقل يمكننا أن نبدأ.
التمييز بين العلموية والظلامية بطبيعة الحال ليس دقيقا مثلما أكون قد أشرت. بداية، ربما لا تكون الظلامية شيئا واحدا؛ إذ توجد في الواقع ظلامية على أساس الإيمان بنوع من الأشياء الغامضة المقدسة، سواء أكان زيوس أم يهوه أم الدافع للموت؛ ما يمكن تسميته «الظلامية الغامضة». ولكن ثمة ظلاميات أخرى تدعي أنها يمكن إثباتها علميا: «أيها الطبيب، ألا يمكنك أن ترى أن أرقي وعدوانيتي ينجمان عن حقيقة أنني قد اختطفت من قبل كائنات فضائية عندما كنت في معسكر الصيف الماضي؟» أو «أمهلني فقط عاما آخر من الأبحاث وسأثبت أخيرا أن المادة هي نتاج لتدفقات إلهية». وبالطبع هناك علمويات تقبل دون نقاش؛ ومن ثم فهي تعادل الظلامية؛ على سبيل المثال: ربما أومن أن جميع الحالات العقلية يمكن عزوها إلى نزعات تطورية دون معرفة كيفية ذلك أو السبب فيه. يبدو هذا صحيحا فحسب. يمكننا تسمية هذا «علموية غامضة» أو ما شابه. دعنا نقل فحسب أن ثمة حاجة ملحة لتصنيف أكثر تفصيلا للتمييز بين العلموية والظلامية. (4) الحاجة للقليل من التدقيق الفكري
إذا أردنا أن نكون قادرين على الوصول إلى لب الصراع الذي ما زال خفيا بين التقليدين الفلسفيين المعروضين في هذا الكتاب، فأعتقد أننا بحاجة إلى الانخراط في القليل من التدقيق الفكري. هذا يعني أننا بحاجة للعودة إلى التمييز الكلاسيكي - الذي صيغ لأول مرة على يد ماكس فيبر - بين التفسير والتوضيح، بين الفرضيات السببية أو التي تبدو سببية ومطالب التوضيح أو التفسير أو أيا ما يكون. باختصار، يزعم فيبر أن الظواهر الطبيعية تتطلب تفسيرا سببيا، في حين أن الظواهر الاجتماعية تتطلب توضيحا عن طريق تقديم أسباب أو تقديم دوافع محتملة للسبب في كون شيء ما على ما هو عليه. إحدى وظائف الفلسفة هي تذكيرنا أننا بحاجة ماسة للوقوف على هذا التمييز، وأنه إذا لم نفعل ذلك فسوف ينتهي بنا المطاف بالمواجهة المبتذلة التي رأيناها بين هايدجر وكارناب، والمخاطرة بالوقوع إما في العلموية وإما في الظلامية وإما في منطقة الشفق المغرية لمعضلة الملفات الغامضة. وكان رأيي في هذا الفصل أن أفضل طريقة لضمان الوقوف على هذا التمييز هي من خلال نسخة مقنعة - على الرغم من أنها غير مثيرة - من الفنومينولوجيا، ولكن توجد بلا شك سبل أخرى لتحقيق هذه الغاية. وقد صيغت وجهة نظري على نحو رائع من قبل هيلاري بوتنام، وهو فيلسوف ينتمي للتقليد التحليلي، وكان صريحا على نحو متزايد في انتقاده للعلموية في الفلسفة، وذلك على النحو التالي:
أعتقد أن أرسطو كان محقا للغاية في الإيمان بأن الأخلاق معنية بالطريقة التي نعيش بها وبالسعادة البشرية، وأيضا كان محقا بشدة في الإيمان بأن هذا النوع من المعرفة («المعرفة العملية») يختلف عن المعرفة النظرية. يبدو لي أن وجهة النظر الخاصة بالمعرفة التي تقر بأن مجال المعرفة أوسع من مجال «العلم» تمثل ضرورة ثقافية إذا أردنا التوصل إلى رؤية عاقلة وإنسانية حيال أنفسنا والعلم.
نحن نعيش مع فجوة بين المعرفة والحكمة، وداخلها. حان الوقت الذي ينبغي فيه على الفلاسفة - والجميع - البدء في التفكير في تلك الفجوة، فربما يوجد على المحك ما هو أكثر من راحة البال الشخصية.
الفصل الثامن
تجرأ على التفكير بنفسك: استنفاد النظرية ووعد الفلسفة
من المقبول تصور مستقبل ينظر فيه «للتقسيم التحليلي القاري» الممل على أنه انقطاع مؤقت مؤسف للتواصل؛ مستقبل ينظر فيه لسيلرز وهابرماس، وديفيدسون وجادامير، وبوتنام ودريدا، ورولز وفوكو؛ كرفاق سفر في نفس الرحلة ...
ريتشارد رورتي
أعتقد أنه على الأقل يمكن القول إن الوضع الراهن للفلسفة يتسم على نحو مثير للاهتمام باستنفاد سلسلة كبيرة من النماذج النظرية. وكما ذكرت سابقا، حققت الفلسفة التحليلية لحسن الحظ بعض الوعي الذاتي التاريخي، وأصبحت مهتمة بتقليدها الخاص، وكذلك أدركت أنه توجد بالفعل قصة مقنعة ينبغي أن تروى حول الفلسفة في الدول الناطقة بالألمانية؛ بدءا من كانط وحتى فريجه. ولكن يتساءل المرء عما إذا كان هذا قد تأخر قليلا، وعما إذا كان الاهتمام بأصول الفلسفة التحليلية أو تاريخها أو علاقتها بالفكر الهيجلي، فضلا عن الرواج الحالي للفلسفة ما بعد التحليلية، يعد ببساطة محاولات متأخرة.
في السياق الألماني، تشعر مدرسة فرانكفورت بعد تقاعد هابرماس بشكوك حيال أجندتها الحالية واتجاهها المستقبلي، وغالبا ما يكون من الصعب معرفة ما يميزها الآن عن الحركات الرئيسية الأكبر في النظرية الاجتماعية والفلسفة الأخلاقية والسياسية الأنجلو أمريكية. وبالطبع كان هذا هدفا ضمنيا في جزء كبير من الفلسفة الألمانية فيما بعد الحرب: التطبيع بعد كارثة الاشتراكية القومية. فعلى نطاق أوسع، هدأت ألمانيا فلسفيا بطريقة ما، وتقريبا جيل ما بعد الحرب العظيم - هابرماس، وكارل-أوتو آبل، وإرنست توجندهات، ومايكل تيونيسن، وديتر هنريش، ونيكلاس لومان - إما توفوا وإما تقاعدوا، ولم يبلغ بعد خلفاؤهم أوجهم الفكري.
دعنا نواجه الحقيقة، لم تعد باريس كما كانت. وأدى انهيار الكانطية الجديدة في فرنسا في ثلاثينيات القرن العشرين وظهور ما يسميه الفرنسيون «الهاءات الثلاثة» (هيجل وهوسرل وهايدجر) إلى إنتاج جيلين يتميزان بالذكاء الفكري المذهل. في الجيل الأول، يتذكر المرء ليفيناس، وسارتر، ودي بوفوار، وميرلو-بونتي، وليفي-شتراوس، ولاكان، وباتاي، وبلانشو. وفي الجيل الثاني، يتذكر المرء ألتوسير، وفوكو، ودريدا، ودولوز، وليوتار، وكريستيفا. ولكن بينما دريدا لا يزال يمضي بقوة كبيرة، ويوجد الكثير من العمل الفلسفي المثير للاهتمام المستمر (على وجه الخصوص نهضة الفلسفة الأخلاقية والسياسية الفرنسية)، ويوجد تجديد رائع للفنومينولوجيا؛ يصل للمرء انطباع بأنه لا شيء من هذا سيثير الاهتمام على نحو كبير ويحقق نجاحا باهرا.
بطبيعة الحال، هذا يسبب مشاكل للفكرة المعتادة عن الفلسفة القارية. كان الأساس المنطقي الأكاديمي المبرر في السابق هو أنه كان يوجد تقليد فلسفي يمتد من المثالية والرومانسية الألمانية، وصولا إلى الفنومينولوجيا والتأويلية ومدرسة فرانكفورت، وهو إما نسي وإما قمع وإما ببساطة جرى تجاهله عن طريق التقليد التحليلي المهيمن. بهذا المعنى، ومع لفتة إنجليزية خالصة، يمكن إرجاعها إلى مل وأرنولد، فإن الأمر أشبه بجلب أمير أجنبي عبر البحار؛ تخفيف حدة النفعية الوحشية في الجزر البريطانية من خلال أعمال فلسفية قارية أكثر عذوبة ورقة. لكن الفلسفة القارية نفسها، كما أفهمها وحاولت شرحها، تواجه مشكلتين كبيرتين؛ أولا: وكما أشرنا من قبل، لا توجد الكثير من الأعمال المثيرة للاهتمام في أوروبا القارية. وثانيا: جزء كبير من التقليد الذي تم تجاهله يجري الآن قراءته على نحو مثير للاهتمام، واستخدامه على يد فلاسفة متخصصين في الفلسفة التحليلية، يعملون على أساس أعده فلاسفة مثل تيلور وكافيل ورورتي.
وبالنسبة إلى شخص يفكر بطريقة جيل الألفية، فإن ما يخبئه المستقبل فلسفيا غير واضح تماما، إن كان يخبئ شيئا في الأساس. لكن لننظر إلى الجانب المشرق، أود أن أختتم الكتاب بمجموعة من الحلول الممكنة للوضع الحالي. دعنا نعد إلى حيث بدأت قصتي، إلى كانط. لخص كانط مشروع التنوير في عبارة «تجرأ على التفكير بنفسك»؛ وهذا يعني أنه لا ينبغي على فلاسفة التقليد القاري - في رأيي - توقع جلب أي أمير جديد عبر البحار؛ فلا يمكننا أن نتوقع جلب نموذج الفلسفة القارية العظيم التالي من فرانكفورت أو باريس أو أي مكان آخر.
علينا أن نفكر بأنفسنا فلسفيا؛ وهو الأمر الذي يعد بالطبع عملا شديد الخطورة. لكني أعتقد أن هذا العمل قد بدأ، حتى إني أود أن أقول إنه - في بريطانيا وأماكن أخرى في العالم الناطق بالإنجليزية - قد بدأ اهتمام أصيل وغير مذهبي بالقضايا الفلسفية العميقة مستنيرا بكلا تقليدي الفلسفة الكبيرين، وإحساس بأن هذه القضايا يجب أن توجه للظروف المحلية، وتتعلم كيفية التحدث بلهجة المكان ولغة السكان. يتمثل جزء من المشكلة في أن الفلسفة القارية اختزلت إلى قائمة من الشخصيات، مع استخدام منهجيات متنافسة مختلفة، يستطيع المرء أن يلقى استعراضها بحماس أو بحيرة أو بلا مبالاة، أثناء حضور إحدى الدورات الدراسية التمهيدية أو سلسلة منها، أو من خلال قراءة كتاب مثل هذا الكتاب. من وجهة نظري، لم يعد الأمر مسألة تقديس سلسلة من الشخصيات، ولكن مسألة «فعل شيء» بما قدموه؛ أي القيام بعمل متخصص مبتكر وخلاق، وليس الاقتصار على الترجمة والتعليق. يجب أن تكون الفلسفة إبداعا مفاهيميا ذا حجج واضحة ينقد تقاليد التفكير الحالية، وليس حدادا بائسا على الفرص الضائعة أو مجرد أسلوب لشحذ حسن التمييز لدى الفرد.
كما حاولت أن أوضح، تعد التقسيمات الحالية في دراسة الفلسفة نتيجة لبعض التوصيفات الذاتية الأكاديمية غير الملائمة إلى حد ما. تعد الفلسفتان القارية والتحليلية، إلى حد كبير، من التوصيفات الذاتية المذهبية، الناتجة عن إضفاء الطابع الأكاديمي على مجال الفلسفة؛ وهي العملية التي أدت إلى إضعاف الوظيفة النقدية للفلسفة وهدفها التحرري، وإلى تهميشها التدريجي في حياة الثقافة. وعلى هذا النحو، أصبح التمييز - وفقا لتعبير رورتي - مملا وإشكاليا.
القصة التي حاولت سردها في هذا الكتاب هي كيف يمكن ربط هذا التمييز بصورة تاريخية أكثر إثارة للاهتمام؛ حيث يمكن رؤية الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية كتعبيرين حيويين لمشكلة «الثقافتين»: التفسير العلمي مقابل التأويل الإنساني، والمنهج التجريبي العلمي المتبع لبنثام وكارناب في مقابل المنهج التأويلي الرومانسي لكولريدج وهايدجر. وكان زعمي أنه عندما لا يفهم هذا الوضع الثقافي على نحو صحيح، فإننا نخاطر بأن نعلق في مواجهة غير مثمرة - وضارة في الواقع - بين العلموية من جهة، والظلامية من جهة أخرى. وللفهم الصحيح لمشكلة الثقافتين في الفلسفة، علينا أن نفهم المسارين المتباينين اللذين اتخذتهما الفلسفة بعد كانط، والمشاكل المختلفة التي اكتنفت ذلك. لقد حاولت أن أرسم مخططا للجانب القاري للقصة، من خلال التركيز على موضوع أزمة التفكير بعد كانط ووصف إشكالية العدمية التي تثيرها. وآمل أنه بمجرد أن تصبح هذه القصة واضحة ونكون قد تعلمنا التغلب على أي مذهبية باقية، فإننا قد نبدأ في المضي قدما على المستوى الفلسفي لمواجهة القضايا ذات الاهتمام الفكري العميق والدائم، مثل تلك المتعلقة بالفجوة بين المعرفة والحكمة.
وأخيرا، هذا هو ما أريد أن أقدمه على أنه وعد الفلسفة، وعد يمكن أن نأمل في الحفاظ عليه: أن الفلسفة قد تشكل جزءا أساسيا في حياة الثقافة، في كيفية تحاور ثقافة ما مع نفسها والثقافات الأخرى. الفلسفة هي تلك اللحظة من التأمل النقدي في سياق محدد؛ حيث يدعى البشر إلى تحليل العالم الذي يجدون أنفسهم فيه، والتشكك فيما يرى أنه يقع ضمن الحس السليم في المجتمع المحدد الذي يعيشون فيه، من خلال طرح أسئلة في صورة عامة بأكبر قدر: «ما هو العدل؟»، «ما هو الحب؟»، «ما معنى الحياة؟» وبصياغة أكثر بساطة، يتمثل الأمل في أن يكون لوجهات النظر المختلفة التي يمكن أن تولدها هذه الأسئلة - من خلال الدراسة والمناقشات - تأثير تعليمي وتحريري. وكما أشار ستانلي كافيل، الفلسفة هي التعليم الذي يناله البالغون. ولكن هذا ليس جديدا؛ فهو وصف للفلسفة ما كان ليكون مفاجئا بالنسبة إلى سقراط.
شكل 8-1: جورجيو دي كيريكو (1888-1979)، «عقل الطفل».
ملحق
(1) أقدم برنامج نسقي للمثالية الألمانية (1796) (1-1) وجه الورقة
الأخلاق: بما أن كل الميتافيزيقا سوف تندرج في المستقبل تحت الأخلاق - التي لم يقدم كانط منها إلا «مثالا» واحدا بمسلمتيه العمليتين والعدم «المستنفد»، فإن هذه الأخلاق ستكون نظاما كاملا يشتمل على كل الأفكار، أو ستكون الشيء نفسه، جميع المسلمات العملية. والفكرة الأولى بالطبع هي مفهوم «ذاتي» ككينونة حرة على نحو مطلق؛ فمع الكينونة الحرة الذاتية الوعي [الجوهر] يظهر «عالم» كامل في الوقت نفسه من العدم؛ «عملية الخلق من العدم» الوحيدة الحقيقية والقابلة للتصور. وهنا سوف أنزل إلى مستوى مجالات الفيزياء؛ والسؤال هو: كيف يجب أن يكون العالم بالنسبة إلى كائن أخلاقي؟ أود أن أمنح مرة أخرى أجنحة للفيزياء، التي تتقدم ببطء وبمشقة عبر التجارب.
ومن ثم، إذا منحت الفلسفة الأفكار والتجربة البيانات، فيمكن أن نصل أخيرا إلى الفيزياء الكبرى التي أتوقعها في الحقب اللاحقة. لا يبدو أن الفيزياء الحالية يمكن أن ترضي الروح المبدعة التي تشبه أرواحنا، أو التي ينبغي أن تكون شبيهة بأرواحنا.
من الطبيعة أنتقل إلى «النشاط البشري»؛ فبوضع فكرة الإنسانية أولا، أريد أن أوضح أنه لا توجد فكرة «الدولة»؛ لأن الدولة هي شيء «آلي»، تماما بالقدر الصغير نفسه مثل وجود فكرة «الآلة».
فقط الشيء «الحر» هو ما يطلق عليه «فكرة»؛ ومن ثم يجب علينا تجاوز الدولة! إذ إن كل دولة تعامل الأحرار كأجزاء من آلة؛ وينبغي ألا تفعل ذلك؛ ولذلك يجب أن «تنتهي».
يمكنكم أن تروا بأنفسكم هنا أن كل الأفكار - أفكار السلام السرمدي - ما هي إلا أفكار «ثانوية» لفكرة عليا. في الوقت نفسه أريد هنا التأكيد على مبادئ «تاريخ البشرية»، وأن أفضح تماما الإنشاء البشري البائس للدولة والدستور والحكومة والسلطة التشريعية. وأخيرا تأتي أفكار العالم الأخلاقي والألوهية والخلود؛ الإطاحة بجميع الخرافات والسعي وراء الكهنوت التي ادعي مؤخرا أنها عقلانية، من خلال العقل نفسه؛ والحرية المطلقة لكل الأرواح التي تحمل العالم المفهوم في ذاتها، والتي ربما لا تبحث عن إله أو خلود «خارج نفسها».
أخيرا الفكرة التي توحد كل شيء، فكرة «الجمال»، وهذه الكلمة تؤخذ بالمعنى الأفلاطوني الأسمى؛ فأنا الآن على يقين أن أسمى فعل عقلي يضم كل الأفكار، هو فعل جمالي، وأن «الحقيقة» و«الصلاح» إخوة «فقط في الجمال»؛ يجب أن يتمتع الفيلسوف بقدر كبير من القدرات الجمالية مثل الشاعر. (1-2) ظهر الورقة
الأشخاص الذين لا يتمتعون بحس جمالي هم فلاسفتنا المتحذلقون. وفلسفة الروح هي فلسفة جمالية. وبمجرد أن يتعذر على المرء أن يكون روحيا في أي شيء، لا يمكنه حتى التفكير روحيا حيال التاريخ؛ دون حس جمالي. يجب أن يصبح واضحا هنا ما يفتقر إليه هؤلاء الأشخاص الذين لا يفهمون أية أفكار، وأن يعترفوا بأمانة كافية أن كل شيء يبدو غامضا بالنسبة إليهم بمجرد أن يتجاوز الأشكال البيانية والأرقام.
وبذلك يكتسب الشعر منزلة أعلى، وفي النهاية يصبح مرة أخرى ما كان عليه في البداية؛ «معلما لتاريخ البشرية»؛ لأنه إذا لم تعد هناك فلسفة، ولا تاريخ، فإن الشعر وحده سيبقى من بين جميع العلوم والفنون المتبقية.
في الوقت نفسه نسمع في كثير من الأحيان أن العامة يجب أن يكون لديهم «دين حسي». وليس العامة فحسب، ولكن أيضا الفيلسوف بحاجة إلى توحيد في تفكير القلب، وتعدد في آلهة الخيال والفن، وهذا هو ما نحتاجه!
أولا وقبل كل شيء، سأتكلم هنا عن فكرة لم تطرأ على ذهن أي شخص قط، وفق علمي؛ يجب أن نمتلك ميثولوجيا جديدة، ولكن يجب أن تكون هذه الميثولوجيا في خدمة الأفكار، يجب أن تكون ميثولوجيا «العقل».
قبل أن نجعل الأفكار جمالية - أي ميثولوجية - فإنها لا تثير اهتمام «الأشخاص»، ومن جهة أخرى، قبل أن تصبح الميثولوجيا عقلانية، يجب أن يخجل الفيلسوف منها. وهكذا يجب على الشخص التنويري وغير التنويري أن يصافح كل منهما الآخر في النهاية، ويجب أن تصبح الميثولوجيا فلسفية والأشخاص عقلانيين، ويجب أن تصبح الفلسفة ميثولوجية من أجل أن يصبح الفلاسفة حسيين. حينها، سوف تسود بيننا الوحدة الأبدية؛ فلن توجد أبدا نظرة احتقار، ولا الارتجاف الأعمى للأشخاص أمام الحكماء والكهنة؛ وحينها فقط يمكننا أن نتوقع التطور «نفسه» لكل القدرات «جميعها»، للفرد ولجميع الأفراد. ولن تقمع أية قدرة بعد ذلك، وسوف تسود الحرية العامة والمساواة بين الأرواح! لا بد أن تؤسس روح أعلى مرسلة من السماء هذا الدين الجديد بيننا، وسوف يكون هذا العمل الأخير الأعظم في أعمال البشرية.
من كتاب أندرو بوي «علم الجمال والذاتية: من كانط إلى نيتشه» (مطبعة جامعة مانشستر، مانشستر، 1990). ترجمة أندرو بوي
المراجع
الفصل الثاني
Michael Dummett,
Origins of Analytical Philosophy (Duckworth, London, 1993).
Frederick Beiser, 'The Context and Problematic for
A Companion to Continental Philosophy (Blackwell, Oxford, 1998).
F. H. Jacobi, 'Open Letter to Fichte’, trans. D. I. Behler, in
, ed. E. Behler (Continuum, New York, 1987).
Max Stirner,
The Ego and Its Own,
ed. D. Leopold (Cambridge University Press, Cambridge, 1995).
Jean-Paul Sartre,
Being and Nothingness,
trans. Hazel Barnes (Routledge, London, 1958).
Fyodor Dostoevsky,
The Devils,
trans. D. Magurshak (Penguin, Harmondsworth, 1971).
Dostoevsky,
The Diary of a Writer,
trans. B. Brasol (George Braziller, New York, 1954).
الفصل الثالث
David E. Cooper, 'Modern European Philosophy’, in
The Blackwell Companion to
(Blackwell, Oxford, 1996).
Bernard Williams, 'Contemporary Philosophy: A Second Look’, in
The Blackwell Companion to
(Blackwell, Oxford, 1996).
Stanley Rosen,
The Question of Being. A Reversal of Heidegger (Yale University
A. J. Ayer,
Life (Collins, London, 1977).
Georges Bataille, 'Un-knowing and its consequences’, in
October , no. 36 (1986).
The Oxford Companion to
ed. Ted Honderich (Oxford University
John Searle, 'Contemporary Philosophy in the United States’, in
The Blackwell Companion to
, ed. Nicholas Bunnin and E. P. Tsui James (Blackwell, Oxford, 1996).
Mill and Bentham,
Utilitarianism and Other Essays,
ed. Alan Ryan (Penguin, Harmondsworth, 1987).
Mill,
Autobiography,
ed. J. Stillinger (Houghton Mifflin, Boston, 1969).
C. P. Snow,
The Two Cultures (Cambridge University Press, Cambridge, 1998).
Stephen Toulmin,
Cosmopolis (University of Chicago Press, Chicago, Ill., 1990).
Note: I owe the discussion of Ayer and Bataille to conversations with Juha Himanka, and I owe the reference to Mill’s essay on Coleridge to Jonathan Rée.
الفصل الرابع
Richard Rorty,
Contingency, Irony, and Solidarity (Cambridge University Press, Cambridge, 1989).
Stanley Cavell,
The Claim of Reason (Oxford University Press, Oxford, 1979).
Richard Rorty’s Introduction to Sellars’
Empiricism and the Philosophy of Mind (Harvard University Press, Cambridge, Mass., 1997)
The Analytic Tradition,
eds. David Bell and Neil Cooper (Blackwell, Oxford, 1990).
Ray Monk,
Ludwig Wittgenstein. The Duty of Genius (Jonathan Cape, London, 1990) and
Bertrand Russell: The Spirit of Solitude (Jonathan Cape, London, 1996).
Michael Ignatieff,
Isaiah Berlin (Chatto and Windus, London, 1998).
Ben Rogers,
A. J. Ayer. A Life (Chatto and Windus, London, 1999).
Rudiger Safranski,
Martin Heidegger. Between Good and Evil (Harvard University
Georg Lukács,
Soul and Form (Merlin, London, 1974).
Jacques Derrida,
Edmund Husserl’s 'Origin of Geometry’: An Introduction,
trans. J. P. Leavey (University of Nebraska Press, Lincoln, Nebr., 1989).
Martin Heidegger,
Being and Time,
trans. J. Macquarrie and E. Robinson, (Blackwell, Oxford, 1962). 'Wissenschaftliche Weltauffassung: Der Wiener Kreis’ in Otto Neurath,
Empiricism and Sociology (Reidel, Dordrecht, 1973).
الفصل الخامس
Kant,
The Critique of Judgement,
trans. James Creed Meredith (Oxford University
Emerson, 'Experience’, in
Selected Essays , ed. L. Ziff (Penguin, Harmondsworth, 1982).
Turgenev,
Fathers and Sons,
trans. R. Edmonds (Penguin, Harmondsworth, 1965).
Nietzsche,
The Will to
trans. Walter Kaufmann and R. J. Hollingdale (Vintage, New York, 1968).
Hegel,
Spirit,
trans. A. V. Miller (Oxford University Press, Oxford, 1977).
الفصل السادس
Martin Heidegger,
ed. William McNeill (Cambridge University
Rudolf Carnap, 'The Elimination of Metaphysics Through Logical Analysis of Language’, in
Logical
, ed. A. J. Ayer (Free Press, Glencoe, Scotland, 1959).
Carnap,
The Unity of Science (Thoemmes Press, Bristol, 1995) Arne Naess,
Four Modern Philosophers. Carnap, Wittgenstein, Heidegger, Sartre (University of Chicago
Heidegger,
On the Way to Language (Harper and Row, New York, 1971).
Karl Popper, 'The Demarcation Between Science and Metaphysics’, in
The Philosophy of Rudolf Carnap (Open Court, La Salle, 1963).
W. V. O. Quine,
From a Logical
(Harvard University Press, Cambridge, Mass., 1980).
Wilfrid Sellars,
Empiricism and the
(Harvard University Press, Cambridge, Mass., 1997).
Wittgenstein, 'On Heidegger on Being and Dread’, in
Heidegger and Modern Philosophy , ed. Michael Murray (Yale University Press, Newhaven, Conn., 1978).
الفصل السابع
Jürgen Habermas,
Knowledge and Human Interests,
trans. Jeremy J. Shapiro (Polity Press, Cambridge, 1987).
Maurice Merleau-Ponty, 'The Philosopher and his Shadow’, in
Signs (Northwestern University
Edmund Husserl,
The Crisis of the European Sciences (Northwestern University Press, Evanston, Ill., 1954).
Martin Heidegger,
Being and Time (Blackwell, Oxford, 1962).
Heidegger,
The Concept of Time,
transl. W. McNeill (Blackwell, Oxford, 1992).
Wittgenstein,
Investigations,
transl. G. E. M. Anscombe (Blackwell, Oxford, 1958).
Frank Cioffi,
Wittgenstein on Freud and Frazer (Cambridge University Press, Cambridge, 1998).
Hilary Putnam,
Meaning and the Moral Sciences (Routledge, London, 1978).
قراءات إضافية
For compendious recent surveys of the entire Continental philosophical tradition beginning with Kant and German idealism, see Simon Critchley and William Schroeder (eds),
A Companion to Continental
(Blackwell, Oxford, 1998) and Simon Glendinning (ed.),
The Edinburgh Encyclopedia of Continental
(Edinburgh University Press, Edinburgh, 1999). I have expanded material from the Introduction to the Blackwell’s Companion in drafting this book. Chapter 7 of this book appeared in a different form in the
Times Higher Education Supplement , 6 February 1998, under the title 'Dare to Think’. For helpful single-volume summaries of the Continental tradition, see Robert Solomon,
Continental
(Oxford University Press, Oxford, 1988) and David West,
An Introduction to Continental
(Polity Press, Cambridge, 1996). For anthologies containing extracts from primary texts, see Richard Kearney and Mara Rainwater (eds),
The Continental Philosophy Reader (Routledge, London, 1996) and Karen Feldman and William McNeill (eds),
Continental Philosophy: An Anthology (Blackwell, Oxford, 1997).
The argument of Chapter 1 was suggested to me by three books: Pierre Hadot,
(Blackwell, Oxford, 1995), Stephen Toulmin,
Cosmopolis (University of Chicago Press, Chicago, Ill., 1990), and John Cottingham,
(Cambridge University
meaning of life, Dostoevsky’s
Notes from Underground
was frequently on my mind, a text which is a better introduction to philosophy than most.
The argument of Chapter 2 was strongly influenced by Michael Dummett’s
Origins of Analytical Philosophy (Duckworth, London, 1993) and Frederick Beiser’s
The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte (Harvard University
idealism and romanticism, see the six essays in 'The Kantian Legacy’ in the Blackwell
Companion to Continental Philosophy . See also Steven Crowell’s essay on 'Neo-Kantianism’ in the same volume. For a very useful overview of German romanticism and idealism and their relevance for contemporary philosophy, see the work of Andrew Bowie, especially
Aesthetics and Subjectivity (Manchester University
discussed in Chapter 3, can be found in
Utilitarianism and Other Essays (Penguin, Harmondsworth, 1987). On the question of two cultures, see Stefan Collini’s very helpful introduction to
The Two Cultures (Cambridge University Press, Cambridge, 1998).
Chapter 4 begins by mentioning Rorty and Cavell. The best introduction to their work is their own writings; see Rorty’s now classic book,
(Princeton University Press, Princeton, NJ, 1980) and Cavell’s wonderfully rich
The Claim of Reason (Oxford University Press, Oxford, 1979). On the question of tradition and on much else, see Husserl’s classic
The Crisis of European Sciences and Transcendental
(Northwestern University Press, Evanston, 1970) and the 'Introduction’ to Heidegger’s
Being and Time (Blackwell, Oxford, 1962).
Turning to Chapter 5, for a helpful discussion of nihilism before Nietzsche, see Michael Gillespie’s
Nihilism Before Nietzsche (University of Chicago Press, Chicago, Ill., 1995). On nihilism in Nietzsche, see Mark Warren,
Nietzsche and
(MIT Press, Cambridge, Mass., 1988) and Keith Ansell-Pearson,
Nietzsche as a Political Thinker (Cambridge University Press, Cambridge, 1994). For my own thoughts on how to respond to nihilism, see
Very Little ... Almost Nothing (Routledge, London, 1997).
For the Heidegger-Carnap controversy discussed in Chapter 6, Carnap’s essay can be found under the title 'The Elimination of Metaphysics through Logical Analysis of Language’, in
Logical
, ed. A. J. Ayer (Free Press, Glencoe, 1959). The most accurate translation of Heidegger’s 'What is Metaphysics?’ can be found in
, ed. William McNeill (Cambridge University
Metaphysics?’ can also be found in the same volume. The 'Yellow Brochure’ can be found in Otto Neurath, 'The Scientific Conception of the World’ (1929) in
Empiricism and Sociology (Reidel, Dordrecht, 1973).
The argument of Chapter 7 on the problem of scientism and obscurantism was inspired by the work of Frank Cioffi: see his
Wittgenstein on Freud and Frazer (Cambridge University
Knowledge and Human Interests (Polity
Beyond Objectivism and Relativism (University of Pennsylvania Press,
explanation and interpretative understanding, see Peter Winch,
The Idea of a Social Science and its Relation to
(Routledge, London, 1990).
On the notion of philosophy as conceptual creation alluded to in Chapter 8, see the opening chapters of Deleuze and Guattari’s wonderful
What is Philosophy? (Columbia University Press, New York, 1994).
مصادر الصور
(1-1) Private collection. Photo: Peter Willi/Bridgeman Art Library. (1-2) Biblioteca Herziana, Rome. Photo: Scala. (2-1) Hulton Getty. (2-2) Photo: AKG London. (2-3) Hulton Getty. Etching by Johann Heinrich Lips after an anonymous portrait of 1765. (2-4) Stadtgeschichtliches Museum Königsberg. Photo: AKG London. (2-5) Kant Society. Photo: AKG London. (3-1) Galleria Palatina, Florence. Photo: Scala. (3-2) Hulton Getty. Drawing by Spy, from The Statesman No. 141. (4-1) Hulton Getty. (4-3) The Louvre. Photo: Giraudon/Pix. (4-4) Printed with permission of the director of the Husserl Archives in Leuven, Professor Rudolf Bernet. (4-5) © Robert Holmes/Corbis. (5-1) The Louvre. Photo: Peter Willi/Bridgeman Art Library. (5-2) © Bettmann/Corbis. (6-1) © Archives of Scientific Philosophy. Reproduced by permission of the University of Pittsburgh. All rights reserved. (6-2) © Pressens Bild AB. (6-3) Musée des Beaux-Arts de Nancy. Photo © G. Mangin. (8-1) Moderna Museet, Stockholm. © DACS 2000.
نامعلوم صفحہ