هناك معيار آخر يرتبط ارتباطا وثيقا بمعيار السلطة، وقد يكون في ظروف معينة أكثر إقناعا حتى مما كانت الكنيسة ذاتها في وقت ما، أو من العلم في وقتنا الحالي. ذلك هو معيار الاتفاق الاجتماعي. «فالحقيقة» هي، إلى حد بعيد، ما يقول الجميع إنه حقيقة. والشخص الذي يتعين علينا أن نقول له إن «كل شخص يعلم أن هذا صحيح!» لا بد إما أن يكون شخصا ناقص المعلومات وإما أقل من العادي في الذكاء، أو كليهما معا. وعلى حين أن الاتفاق الاجتماعي يمارس تأثيرا قويا على أحكامنا عن «الحقيقة» في جميع الميادين، فإنه أقوى ما يكون في ميادين العرف والعادات الاجتماعية والأخلاق. فقبول عادة أو معيار أخلاقي معين على نطاق واسع جدا، هو في نظر معظم الناس سبب كاف للنظر إليه على أنه «حقيقة»، بل إن كثيرا من الناس يصدمون إذ يرون شخصا يتشكك في حقيقة وجهة نظر أخلاقية يشيع قبولها على نطاق واسع. فقبول الجميع - أو حتى الأغلبية - لرأي معين، هو بالنسبة إلى هذه الأذهان ضمان كاف لحقيقة هذا الرأي.
أما الفيلسوف فقد تخصص منذ وقت طويل في تحدي قوة الاتفاق الاجتماعي. فقد يجد لذة خاصة في أن ينبه الأذهان إلى ما في هذا الاتفاق من تقلب وتهافت، حتى عندما يكون الاتفاق عاما. وفي الواقع إن عدم دوام العادات والسنن الاجتماعية المألوفة هو أمر أوضح من أن يحتاج إلى تعليق فلسفي. ومع ذلك، فإن الفلسفة تشعر بوجود خطر شديد عندما يسيطر الاتفاق الاجتماعي وحده على المعايير الأخلاقية. ذلك لأن القدر الأكبر من التقدم الأخلاقي قد أتى من جانب أقلية ضئيلة من الأشخاص الذين لم يرهبوا القوة الطاغية للاتفاق الاجتماعي - وهم الشهداء والمصلحون وأعداء التفرقة العنصرية، الذين لا يجدون علاقة بين الحقيقة وبين رأي الأغلبية. «فالحقيقة» في نظر هؤلاء الرواد الأخلاقيين هي شيء مكتف بذاته، مستقل عن قبول الجموع الكبيرة له.
هذه النفوس المنعزلة الشجاعة كانت دائما تختبر «حقيقتها» بمعيار غير الاتفاق الاجتماعي. ففي بعض الأحيان كان هذا المعيار هو السلطة؛ أعني سلطة الإنجيل، أو سلطة نبي أو زعيم ما. وفي حالات أخرى كان أساس حججهم هو نظرية الترابط؛ إذ إنهم قد رأوا أن هناك عادات أو معايير معينة لا تتسق مع المثل العليا الأخلاقية الشاملة السائدة في المجتمع الذي يعيشون فيه، وربما قد لا تتسق مع تعاليم المسيح. وفي أحيان أخرى كانوا يستعينون بالنظرية البرجماتية إذ اتضح لهم أن النتائج الفعلية للعادة الاجتماعية كانت شرا، بغض النظر عن التبريرات الأخلاقية التفصيلية التي تقدم لها. والمثل الكلاسيكي لعادة اجتماعية هوجمت في البداية لأسباب برجماتية في المحل الأول هو الرق.
المعيار الصوفي أو الحدسي : ومع ذلك فهناك معيار آخر لم نكد نذكر عنه شيئا، يلتجئ إليه الرائد الأخلاقي أكثر مما يلتجئ إلى أي معيار آخر من المعايير السابقة؛ هذا هو المعيار الصوفي أو الحدسي - وهو «نور باطن» أو اعتقاد عميق راسخ يبدو أكثر إقناعا ، ويحمل من اليقين المعصوم قدرا أعظم، من كل المعايير الأخرى للحقيقة مجتمعة. ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا المعيار بالنسبة إلى الفلسفة، هو معيار شخصي وذاتي إلى حد لا يسمح بكثير من التحليل. فالفيلسوف يجد لزاما عليه أن يعترف بحقيقة هذه التجارب وتأثيرها في الفرد، ولكنه لا يستطيع أن يقول الكثير بعد ذلك، بل إن عالم النفس ذاته لا يستطيع تقديم الكثير، إلا أن يشير إلى مسألتين ينبغي أن تؤخذا بعين الاعتبار عند الحكم على صحة هذه التجارب. أولى هاتين المسألتين سلبية، فالشعور باليقين الباطن هو في ذاته شعور لا يعول عليه مطلقا، كما يدل على ذلك كون المجانين، على الأرجح، أكثر «يقينا» بحقيقة معتقداتهم من أية مجموعة أخرى من البشر. أما من الناحية الإيجابية، فينبغي أن نسارع إلى الإشارة إلى أن هذا الإحساس الباطن باليقين موجود في نهاية الأمر، في كل تجربة للحقيقة، أيا ما كانت النظرية أو معيار الحقيقة الذي نستخدمه عن وعي. وحتى لو تأملنا حالة التحقيق الحسي (الذي يبدو أصح المعايير وأكثرها شمولا) فما الذي نعتمد عليه آخر الأمر لكي نثبت أننا «نرى» أو «نشم» أو «نسمع» ما نظن أننا نراه أو نشمه أو نسمعه؟ أهو شيء آخر غير هذا الشعور الباطن ذاته باليقين؟ ولنعد إلى المثل الذي ضربناه عن جان دارك: ألا يحتمل أنها كانت موقنة بأنها «رأت» القديس ميخائيل «واستمعت» إليه وهو يأمرها بأن تذهب لإنقاذ فرنسا، بقدر ما كانت موقنة بأنها رأت الغنم ترعى حولها واستمعت إلى أصواتها؟ أليس الدليل على أي شيء نحكم عليه في تجربتنا بأنه «حقيقي» مرتكزا على نفس معيار اليقين الباطن هذا؟ وهل يمكن القول إن يقين القارئ بأنه يرى الكتاب الذي يقرؤه الآن هو في أساسه أعظم بأي قدر من يقيم جان دارك عندما رأت القديس ميخائيل، أو أعظم من يقين المصاب بالبارانويا الذي يعاني من جنون الاضطهاد ، بأنه يرى أعداء متربصين به في كل ظل؟ صحيح أن الكتاب يستطيع أن يفي بما تشترطه معايير أخرى لا يستطيع أن يفي بشروطها القديس ميخائيل أو «أعداء» المصاب بالبارانويا - وأهم هذه المعايير الأخرى هو اتفاق الجميع عليه. غير أن هذه المسألة لا تدخل في صميم الموضوع. ذلك لأن عرض الكتاب على مئات من الملاحظين الآخرين لكي يؤكدوا وجوده الموضوعي لا يؤدي إلا إلى مائة يقين آخر مساوية ليقين القارئ ويقين جان دارك ويقين المصاب بالبارانويا.
وهكذا فإن الشعور باليقين الباطن هو في الوقت ذاته أهم معيار ذاتي للحقيقة، وهو أقل المعايير من حيث إمكان الاعتماد عليه. ويبدو أن أفضل حل لهذا الموقف المحير هو الآتي: من المعترف به أنه لا يمكن أن تكون لدينا تجربة بحقيقة ما لم يكن هذا الشعور الحدسي باليقين موجودا، ولكن هذا الشعور في ذاته غير موثوق منه. فوجوده ضروري، ولكن من الواجب أن يكون مصحوبا بعدة معايير أخرى. إنه وسيلة التصديق على المعايير الأخرى الأكثر موضوعية، وهو أداة لتحقيق المعايير الأخرى للحقيقة، ولكنه ليس معيارا صحيحا عندما يكون قائما بذاته. (9) حكم نهائي على نظريات الحقيقة
بعد القيام بتحليل لفكرة الحقيقة على النحو الذي قمنا به، يكون من الطبيعي أن يثار في ذهن القارئ هذا السؤال: «أهناك أية حقيقة؛ أعني أية حقيقة بالمعنى الذي يفهم به معظم الناس هذا اللفظ، وبالمعنى الذي كنت أفهمها به قبل قراءة هذا الفصل؟» هذا سؤال ينبغي على كل قارئ أن يجيب عنه بنفسه، وسوف يكون من العوامل التي تتوقف عليها إجابته عنه، ما يعتقد أنه هو المقصود من هذا اللفظ بوجه عام. فإذا عدت الحقيقة شيئا سكونيا مطلقا، فالأرجح أن معظم القراء هم الآن على استعداد للشك في وجود شيء كهذا. أما إذا كنا نعني باللفظ شيئا نسبيا وديناميا، فمن المؤكد عندئذ أن معظمنا سيوافق على أنها موجودة. بل إن معظم القراء قد يشعرون أنه على الرغم من الانتقادات التي وجهناها إلى كل معيار ونظرية عندما استعرضناها، فإن واحدة منها على الأقل قد اجتازت المحنة ونجحت في ذلك إلى حد يجعل منها معيارا معتمدا عليه للحقيقة.
المعيار المركب : ومع ذلك فأغلب الظن أن معظم الطلاب سيوافقون على أن الدليل الوحيد الكافي على الحقيقة ينبغي أن يكون مركبا من كل النظريات والمعايير المتعددة. ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نقول، دون خوف من الخطأ على الأرجح، إننا نكون قد قلنا الحقيقة: (1)
إذا أمكن عن طريق التحقيق الحسي بيان أن القضية تطابق الواقع الموضوعي. (2)
وإذا كانت تترابط مع كل معارفنا «وحقائقنا» الأخرى. (3)
وإذا استطعنا بسلوكنا على أساسها أن نحقق النتائج المتوقعة. (4)
نامعلوم صفحہ