وأخيرا، فمن الواجب أن نلاحظ أن رأي كانت يمثل موقفا توفيقيا. فهو يحاول وضع نظرية في الذهن تتمشى مع ملاحظتنا الفعلية للذهن عن طريق الاستبطان، وتعمل أيضا حسابا للوحدة الخاصة التي يبدو أنها تميز أذهاننا كما تعرف بالنسبة إلى ملاحظ آخر. وهكذا تصور كانت أنه، بافتراضه فاعلا موحدا، قد تمكن من تلبية كل من المطلبين - حتى لو كان ذلك يحتم إخفاء جهلنا بطبيعة هذا الفاعل وراء اسم مهول. أما المنطقي التجريبي الحديث (كما سنرى في الفصل الحادي عشر) فيرى أن مثل هذه الموجودات غير القابلة للتحقيق ليس لها في الفلسفة مكان أكثر مما لها في العلم. ولكن «كانت» كان يتفلسف على أساس التراث السائد في عصره عندما قال بهذا الفاعل الموحد الفرضي. (2) النظرة المادية إلى الذهن
وفي الطرف المقابل للنظرة الجوهرية التي يقول بها المثالي، نجد ما يمكننا أن نسميه بنظرة الهوية
Identification Theory
التي يقول بها المادي المتطرف ومعظم السلوكيين المعاصرين. والقضية الرئيسية لهذه المدرسة بسيطة؛ «فالذهن» وكل أوجه نشاطه يتألف من حركات شديدة التعقيد في المخ، الجهاز العصبي المركزي، وأعضاء جسمية أخرى (أحيانا). وبعبارة أخرى، فالظواهر النفسية في هوية مع الظواهر المادية، وما الحوادث الذهنية إلا تغيرات جسمية معينة، ولا سيما تلك التي تتعلق بالجهاز العصبي المركزي. وهكذا ينتهون إلى رأي يتمشى مع الموقف المادي العام، ويقول إنه ليس ثمة شيء اسمه «العالم النفسي»، فلا وجود للذهن بما هو كذلك ولا مبرر للفظ «الذهن» أو «الذهني» إلا بوصفه تصنيفا مريحا لأنواع معينة من الأحداث المادية.
النتائج الواحدية للمادية : هذا العرض الموجز للفرض المادي هو ذاته كاف لكي يبين لنا أننا لسنا إزاء مذهب متطرف فحسب، بل مذهب ينتمي إلى فئة مختلف تماما عن تلك التي تنتمي إليها الآراء الثلاثة التي نوقشت من قبل. فنحن هنا، في الواقع، إزاء رأي مختلف من الوجهة الميتافيزيقية، كما سنوضح بالتفصيل في فصل تال (الفصل التاسع)؛ ذلك لأن الآراء الثلاثة الأولى، مهما يكن اختلافها فيما بينها، تنطوي كلها على نظرة ثنائية إلى الواقع. وهي كلها تفترض تمييزا كيفيا بين الذهن والجسم: فأيا كانت طبيعة الذهن، فهو شيء منفصل عن التركيب المادي للجسم، بل إن الموقف المتطرف الذي اتخذه هيوم ينطوي ضمنا على تمييز كيفي بين الإحساسات أو الإدراكات، التي تكون الذهن بتجميعها سويا، وبين المخ المادي أو الجهاز العصبي الذي تحل فيه هذه التجمعات. كذلك فإن «الوحدة التركيبية للوعي الذاتي» كانت هي قطعا ذات طابع نفسي أو روحي، أيا كانت طبيعتها الأخرى. ولما كانت النظرة الجوهرية تعرف بأنها الرأي القائل إن الذهن كيان أو جوهر روحي، فإن النتائج الضمنية الثنائية لهذا الموقف بادية للعيان.
وفي مقابل هذه الآراء الثلاثة، تقول المادية بنظرية واحدية صارمة: فالذهن هو ذاته التغيرات المعقدة الدقيقة التي تحدث في الجهاز العصبي وجهاز الغدد، ولا شيء غير ذلك. وليس ثمة فارق كيفي هنا، ما دام العالم المادي أو الجسمي هو كل ما يوجد. والنشاط (الذي يعني نوعا من الحركة) في أجزاء معينة من العالم المادي هو ما نطلق عليه، على سبيل التيسير، اسم «الذهن». وبالاختصار «فالذهن» اسم سهل لخرافة منهجية مريحة، ولكنه لا يدل على كيان أو فاعل منفصل.
مغالطة الرد : لقد وصفنا الموقف المادي بأنه «متطرف». غير أن خصومه المستائين (ولا سيما المثاليين) يطلقون عليه أوصافا أعنف من هذه بكثير، بل إن صاحب المذهب الطبيعي ذاته، الذي قد ينتظر منه أن يكون أكثر الناس تعاطفا، يشعر عادة بأن المادية تقع هنا في ذلك الخطأ المسمى بمغالطة الرد
The Reductive Fallacy - وهو الخطأ الفكري الذي تتعرض له بوجه خاص المذاهب المتطرفة، الروحية منها والمادية، والمغالطة في الحالة الراهنة تتعلق بالادعاء بأن الذهن «ليس إلا» مادة. فعلى حين أن كل علماء النفس المعاصرين، على الأرجح، قد يعترفون بأن الظواهر الذهنية لا يمكن أن توجد إلا بوجود أحوال جسمية سابقة، فإن السلوكيين المتطرفين هم وحدهم الذين يستدلون من ذلك على أن الذهني «ليس إلا» الجسمي، ولكن باسم آخر؛ ذلك لأن أية هوية كهذه بين فئتي الوجود هاتين، كما سنرى فيما بعد عندما نتعمق في مشكلة الميتافيزيقا، تتنافى مع تجربتنا ومع لغتنا معا. فمهما يكن مقدار اعتماد الظواهر الذهنية في وجودها على الظواهر المادية، فإن فئتي التجربة هاتين ليستا فئة واحدة، ولا يمكن أن يفيد أي تبسيط ردي
Reductive
كذلك الذي تحاول المادية القيام به، في الوصول إلى التوحيد بين كل منهما. وحتى لو سلمنا بأن الذهني لا يمكن أن يظهر بدون المادي (وهو موقف يقول به المذهب الطبيعي وينكره المذهب المثالي)، فإن الذهني ما إن يصل بالفعل إلى هذا الوجود المعتمد، حتى يصبح منتميا إلى نمط مختلف تماما من أنماط الوجود. فقد لا تكون للذهن أولية ميتافيزيقية (حسب قول المثالي)، غير أن لديه قطعا وجودا متميزا من الناحية الكيفية.
نامعلوم صفحہ