وقد وصل كانت إلى هذه النتيجة عن طريق إرساء الأخلاق على أساس عقلي بحت؛ أي إنه يحاول أن يجعل الإلزام الخلقي مرتكزا تماما على المنطق. وهو يحاول، بطريقة يتميز بها كل مذهب عقلي، أن يثبت أننا كلما خرقنا قانونا أخلاقيا، أو لم نؤد واجبا، كنا في الوقت ذاته متناقضين منطقيا. فنحن نخرق قوانين المنطق والأخلاق معا بفعل واحد، وبذلك نعرض أنفسنا لنوع من الخطر المزدوج. ومن الواضح أن كانت يرى أنه إذا استطاع أن يثبت هذه العلاقة الضرورية بين اللاأخلاقية وبين التناقض العقلي، فإنه يكون قد أوجد أمتن أساس ممكن للإلزام. ولما كان أي فيلسوف من أصحاب المذهب العقلي يرى في التناقض المنطقي شرا قد لا يقل عن اللاأخلاقية، فمن الطبيعي أن يعتقد كانت أن المذهب الذي يقضي على كلا هذين الشرين في آن واحد يستحق أن نكافح من أجل الوصول إليه.
العنصر الشكلي في مذهب كانت : فلنتأمل الآن كيف يحقق «كانت» هذا الهدف المزدوج، وذلك بالطريقة التي ترضيه هو ورفاقه من العقليين على الأقل. والواقع أن رأيه هو أفضل مثال للشكلية الأخلاقية، التي لا تقوم الأفعال إلا على أساس اتساقها (أي اتفاقها الشكلي) مع بديهيات أو مصادرات معينة. فإذا اتفق الفعل مع واحد من هذه المبادئ العامة أو أمكن أن يستمد منه، فعندئذ يكون أخلاقيا، بغض النظر عن نتائجه. وبعبارة أخرى، فإن الاتساق الشكلي الذي يعلي أفراد هذه المدرسة من قدره إلى هذا الحد، يتم عن طريق كشف أو افتراض مبادئ أخلاقية عامة أولا، ثم استخلاص مذهب أو نسق أخلاقي من هذه. وما أشبه ذلك بنسق رياضي مثل هندسة إقليدس، التي تبدأ بحفنة من البديهيات (مثل «الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين» و«الكل مساو لمجموع أجزائه»)، ثم تستخلص من هذه المصادرات الأولية نظريات متعددة.
ولقد كانت أهم بديهيات «كانت» بل هي في الواقع البديهية الوحيدة التي تتصل بهدفنا في هذا البحث) هي: افعل دائما بحيث تود أن يصبح فعلك قانونا شاملا للبشر. ولاشك أن لهذه بعض الصلة «بالقاعدة الذهبية» التي تأمرك بأن تفعل للآخرين ما تود أن يفعلوه لك (أو تحب لأخيك ما تحب لنفسك). غير أن تأكيد كانت لمعنى الشمول يضفي على بديهيته مذاقا خاصا. «فهل أود أن يفعل كل شخص كما أفعل؟» إذا أمكننا بإخلاص أن نجيب «بنعم» على هذا السؤال، كان لنا أن نعد الفعل أخلاقيا، وإلا كان لا أخلاقيا.
مثال للتناقض : الكذب، مثلا، لا أخلاقي لأن الكاذب يفرض نفسه على المجتمع عن طريق جعل نفسه استثناء. فهو يتوقع من الآخرين أن يقولوا الصدق، وإلا فكيف يمكن تصديق أكذوبته؟ وبعبارة أخرى، فما لم يكن القول الصدق عاما، بحيث نأخذ عادة أقوال الناس على أنها صادقة دون أن نشترط عليها دليلا، فكيف يتسنى للكاذب أن ينتفع من أكذوبته؟ إن موقفه مشابه لموقف مزيف النقود، الذي يستطيع أن يروج تجارته ويجعل نقوده المزيفة المتداولة لأن الجزء الأكبر من النقود صحيحة غير مزيفة، تتداول بحرية دون أن يشك فيها أحد. غير أن قليلا من التزييف يكفي وحده للقضاء على نظام كامل للعملة، ما دامت النقود الزائفة تؤدي إلى طرد الصحيحة. وعلى ذلك فلا يمكن أن يوجد مزيف نقود يود أن تمارس حرفته الخاصة على نطاق واسع. والواقع أن أسوأ شيء يمكن أن يحدث له، باستثناء القبض عليه، هو أن يبدأ أناس آخرون في سك نقود زائفة بكميات تكفي لإلقاء سحابة من الشك حول العملة المقبولة. فلا بد أن تكون العملة صحيحة من أجل أن ينجح التزييف ولو مؤقتا، وكذلك الحال في الكذب: فلو أصبح عاما، لما صدقت أية عبارة يقولها أي شخص، ولما أمكن للكاذب أن ينجح على أساس تصديق الناس لأكاذيبه.
ولكن لا شك في أن هذا ينطوي على تناقض؛ إذ إن الكاذب يريد أن يصبح الصدق عاما، وموثوقا منه، ولكنه يريد أن يكون استثناء لهذه القاعدة العامة. وبالاختصار، فإنه لا يود أن يعمم سلوكه الخاص؛ لأنه لو أصبح هو «القانون العام للبشر» لساء مصيره. وعلى ذلك فهو يدعو أساسا إلى معيار معين لنفسه، وإلى معيار آخر لكل شخص عداه. وهكذا فإن من يكذب يقع في تناقض. فصاحبنا الكاذب هذا يقع في تناقض أساسي؛ إذ يجعل من نفسه استثناء - عن خرق القاعدة القائلة إن كل شخص، في جميع المواقف الاجتماعية، ينبغي أن يحسب فردا فحسب، وأن كل فرد ينبغي أن تكون قيمته مساوية لقيمة كل فرد، آخر أو، كما نقول عادة عن هؤلاء الأفراد، فهم يعترفون بالمعايير بألسنتهم، ولكنهم لا يطبقونها في أفعالهم.
لا بد في كل فعل غير أخلاقي من شيء من التناقض : يعتقد كانت أن كل سلوك غير أخلاقي ينطوي على هذا التناقض ذاته، ما دام ينطوي دائما على سلوك لا نود أن يصبح شاملا للجميع. ومن هنا فإن السلوك غير الأخلاقي هو في أساسه سلوك لامنطقي ولا معقول؛ لأنه يؤدي بالضرورة إلى إيقاع من يمارسونه في تناقضات منطقية. وهكذا يوجد أساس عقلي أو منطقي للأخلاق، مستقل عن الأمر الإلهي، وعن فروض الكنيسة أو العرف الاجتماعي، بل إن هذا الأساس مستقل عن كل سلطة، سواء منها البشرية أو الإلهية. فهو مستقل ذاتيا بالمعنى الدقيق. وربما كان الأوضح أن نصفه بأنه مكتف بذاته، فهو ليس في حاجة إلى دعامة من أي مصدر أو جهة خارجية. وكل ما يحتاج إليه من تبريرات يأتيه من القوانين الأولية للاستدلال السليم. وهكذا يكون هناك أساس للحكم الأخلاقي حتى لدى الشكاك والملحدين، على حين أن المؤمن بالألوهية المفارقة يكتسب أساسا إضافيا يدعم مذهبه الأخلاقي المستمد من الله.
على أن في استطاعة القارئ الناقد أن يكتشف أخطاء في موقف كانت، وذلك من حيث ادعاء كانت أن هذا الموقف يصلح أساسا لأخلاق شاملة ملزمة. فلنفرض مثلا أن شخصا يسلك سلوكا غير أخلاقي، لا يعبأ إن كان متناقضا أم لا ... فإذا اتهمنا هذا الشخص بأن سلوكه غير منطقي، ومتناقض، واكتفى هو بأن يهز كتفيه ويقول: «وماذا في ذلك؟» فما الذي نفعله عندئذ؟ وعلى أي أساس نستطيع أن نحرك مشاعره؟ وإذا لم يكن صاحبنا هذا من أنصار المذهب العقلي، ولم يكن يعبأ بالاتساق العقلي، فماذا نفعل معه؟ من الواضح أن كانت، حين وضع كل أسهمه في هذه الجعبة العقلية الواحدة، قد خاطر مخاطرة كبرى. فهناك دائما احتمال في أن يقوم شخص لا أخلاقي، لا يعبأ بالاتساق المنطقي، بسرقة الأسهم والجعبة معا.
الفضل الدائم «لكانت» : ولكن أيا كانت الأخطاء التي تكتشف في مذهب كانت الأخلاقي، فإنها ليست أخطاء منطقية. ومن المؤكد أنه طبق مثله الأعلى في الاتساق بكل اتساق. ومن المؤكد أيضا أن مذهبه ما زال أدق وأكمل محاولة بذلها فيلسوف من أجل إرساء الإلزام الخلقي على أساس عقلي بحت، مستقل عن الدعامة فوق الطبيعية التي تتمثل في الإرادة الإلهية . وبناء على هذه المزايا وحدها فهو يستحق الاحترام، حتى لو لم نكن نشعر بالميل الصادق إليه. فمن الجائز أن كانت لم ينجح في أن يجعل الحياة التي نحياها من أجل الواجب تبدو في أعيننا جذابة، ولكنه قطعا جعلها مثيرة منطوية على التحدي. وقد وضع أساسا لفلسفة في الواجب كان لها تأثيرها في أشخاص عديدين خلال أجيال متعاقبة. وقد يكون الشرط الذي حدده، وهو أن نفعل بعض الأمور لمجرد كونها واجبا علينا، لا لأي سبب آخر - قد يكون هذا الشرط فلسفة صارمة، ومع ذلك فقد كان هناك أشخاص ارتفعوا إلى مستوى تحدي هذه الصرامة الرفيعة، وكان عدد هؤلاء الأشخاص كبيرا إلى حد يدعو إلى الاستغراب. (7) «تحقيق الذات» بوصفه الخير الأسمى
من المرجح أن يكون أولئك القراء الذين كانوا يأملون أن يجدوا في المذهب الشكلي ترياقا فعالا لمذهب اللذة قد شعروا بخيبة الأمل. فبغض النظر عن مدى كراهية المرء للنظرية الأخلاقية التي لا تعترف بالتزام نحو أي شيء فيما عدا السعادة البشرية، فإن معظم الأذهان الحديثة تجد فكرة الأخلاق التي تتجاهل هذه السعادة تماما فكرة أكثر استحالة.
11
نامعلوم صفحہ