وربما كان الاعتراض الرئيسي الذي يوجه إلى هذا التصنيف راجعا إلى الألفاظ المستخدمة ذاتها. «فالأعلى» و«الأدنى» هما بالطبع محايدان غير تقويميين، عندما يستخدمان في معناهما الأصلي للدلالة على العلاقات المكانية. ولكن لفظ «الأدنى» عندما يستخدم في الأخلاق يعبر دائما عن نوع من التحقير؛ إذ إنه يوحي بقيمة أقل جدارة أو نبلا أو نقاء مما نفترض أن القيم «العليا» تكون عليه. ولو لم يكن اللفظان مرتبطين بالجسم من جهة والروح من جهة أخرى، لما أثيرت ضدهما اعتراضات ذات بال. أما بالطريقة التي يستخدمان بها عادة، فإنهما يدلان على تقابل ثنائي - بل على صراع - بين البدن والروح، وهو تقابل لم يعد الفكر المعاصر يسلم به. (3)
القيم الاشتمالية والاستبعادية : هناك تمييز آخر أوضح وأقل إثارة للخلاف، هو التمييز بين القيم الاشتمالية
Inclusive
والاستبعادية
Exclusive . مثال ذلك أن القيم الاقتصادية تكون عادة استبعادية؛ إذ إن امتلاكي يحول بينك وبين كل شخص من أن يمتلك نفس هذه الأشياء. وفي مقابل ذلك نجد أن قيمة مثل الدعابة ليست قيمة يمكن أن يشترك فيها الناس فحسب، بل إنها قد تزيد إذا أمكن أن يشترك شخص آخر أو أشخاص آخرون في موقف الدعابة. ففي صالة العرض السينمائي أو المسرحي مثلا نجد في كثير من الأحيان أن الأشخاص الذين لا يعرف بعضهم بعضا ينظرون بعضهم إلى بعض عندما يضحكون على شيء على خشبة المسرح أو على الشاشة، والسبب الواضح لذلك هو أنهم يجدون أن رغبتهم في الضحك تزيد عندما تقع عيونهم على عين جارهم. وهناك مثال آخر للقيمة الاشتمالية، هو الاستمتاع بالجمال. فمعظمنا يجد هذه اللذة أعظم بكثير عندما يكون في استطاعتنا مشاركة غيرنا في التجربة الجمالية. ولا بد أن يكون الشخص أو الأشخاص الذين يؤدي وجودهم إلى تقوية شعورنا بالجمال - لسبب ما غريب - أشخاصا لا نحبهم، وذلك على العكس مما يحدث في حالة الدعابة أو الضحك، الذي قد يؤدي وجود غرباء عارضين فيه إلى زيادته كثيرا (كما ذكرنا منذ قليل). وفضلا عن ذلك فيبدو أن قيمة الجمال تتناسب طرديا مع درجة ميلنا إلى زملائنا في التجربة المشتركة: وكلنا نلاحظ التأثير الهائل للجمال في المحبين. وكلنا نعلم بنفس المقدار مدى الكآبة التي تلقي ظلها على الموقف الجمالي نتيجة لوجود أشخاص نكرههم. (4)
القيم الدائمة والقيم العابرة : هناك تصنيف آخر للقيم يميز بين القيم الدائمة والعابرة. وعلى عكس ما قد نتوقع، فليس صحيحا أن القيم الدائمة ينبغي تفضيلها دائما على القيم العابرة. ففي حالة اللذة الجسمية مثلا، نجد أن الشدة مصحوبة بقصر الأمد قد تكون مفضلة على الاعتدال المقترن بالامتداد الزمني. فلا شك أن جرعة ماء بالنسبة إلى شخص يموت من العطش تفوق وقت شربها كل القيم الدائمة للفن والدين مجتمعين. وبعبارة أخرى فنحن لا نكون حكماء بحيث نفضل قيمة دائمة على قيمة عابرة إلا إذا كانت القيمتان متساويتين في كل النواحي الأخرى. فمن الواضح أن تفضيل القيمة الدائمة واجب إذا كانت الأمور الأخرى متساوية. ولكن من سوء الحظ أن من الصعب في كثير من الأحيان إيجاد موقف تتساوى فيه كل الأمور الأخرى، لا سيما فيما يتعلق برغباتنا. ففي أغلب الأحيان يكون العصفور الموجود في اليد خيرا من عشرة على الشجرة، ولا بد من حكمة أخلاقية كاملة لتفضيل القيمة الدائمة في المستقبل على الخير المعترف بأنه عابر، والذي يوجد أمامنا مباشرة، وينتظرنا لنستمتع به في اللحظة الراهنة. (8) السلم المتدرج للقيم: «الخير الأسمى»
يوحي هذا التحليل لمختلف أنواع القيم بأنه قد يكون من الممكن والمفيد ترتيب ما لدينا من أشياء خيرة في سلم متدرج. وفي هذه الحالة يرجح أننا سنضع الأكثر اشتمالا في مكانة تعلو على الأقل اشتمالا، ونغلب على الأعلى على الأدنى، والدائم على العابر. والأهم من ذلك كله أننا سنضع الكامن قبل الوسيلي. وكما لاحظنا من قبل، فالقيم الكامنة بحق قليلة جدا، وبدلا من ذلك، يتضح لنا أن معظم الأشياء التي نسميها «خيرا» لا تكون لها قيمة إلا من حيث هي وسيلة لخير آخر أشمل منها، وهذا بدوره يتبين أنه ليس إلا وسيلة لخير آخر أبعد مدى. وهكذا يكون لدينا حتما سلم متدرج من القيم. ولا بد لأي سلم كهذا من أن تكون هناك قيمة من نوع ما، وهكذا نصل إلى مفهوم القيمة العليا أو الخير الأسمى، الذي يشتهر عادة باسمه اللاتيني
Summum Bonum . وإذن فمشكلة «الخير» (متميزة عن مشكلة الإلزام) تؤدي آخر الأمر إلى البحث عن الخير الأسمى، وتحقيق الحياة الخيرة يغدو إلى حد بعيد تنظيما لكل القيم الأخرى في صلتها بهذا الحد الأخلاقي الأقصى.
شروط «الخير الأسمى» بمعناه الصحيح : ماذا ينبغي أن تكون عليه خصائص الخير الأسمى إن شاء أن يكون أقصى خير وأرفع هدف للحياة؟ أول شرط مؤكد، هو أنه ينبغي أن يكون خيرا كامنا لا شك فيه. فلا بد أن يكون من شأنه أن يظل في إمكاننا أن نقول بصدده، بعد أدق تحليل ممكن، «هذا خير، لا بالنسبة إلى س أو بوصفه وسيلة ل... ص، بل في ذاته فحسب». وهناك صفة ثانية ينبغي أن يتصف بها أي خير أسمى ممكن، هو أن يكون نطاقه شاملا لكل شيء - أي أن يبلغ من الشمول ما يكفي لكي تندرج تحته كل أوجه نشاطنا بوصفها وسائل لتحقيقه. وأهمية هذا الشرط واضحة: فلو كانت هناك أوجه نشاط تستهدف تحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها به - أعني أهدافا لا تصبح بدورها وسائل لخيرنا الأسمى المفترض - فمن الواضح أننا لا نكون عندئذ إزاء خير أسمى شامل، بل نكون إزاء خير وسيلي من نوع ما.
11
نامعلوم صفحہ