وقد يبدو لأول وهلة أننا نواجه هنا اختيارا بين أحد أمرين: إما أن نوافق على آراء التجريبي ونرفض الميتافيزيقا، وإما أن نرفض التجريبية المنطقية. وهناك مفكرون ضمن التجريبيين وخصومهم ، يؤكدون أن التضاد بين الحلين السابقين بسيط قاطع. وبالفعل كان الكثيرون من المعسكرين معا على استعداد لاتخاذ إحدى الخطوتين، مؤكدين أنه لا سيبل إلى التوفيق بين الأمرين.
غير أن مؤلف هذا الكتاب لا يعتقد أن هذين الأمرين متنافران ويؤدي كل منهما إلى استبعاد الآخر على النحو الذي صورا به؛ ومن ثم فإنه لا يرى ضرورة للاختيار بينهما على أساس «كل شيء أو لا شيء»؛ ذلك لأنه، على حين أن من الصحيح أن أي شخص يحترم عقله لا يستطيع أن يتجاهل التجريبية المنطقية وكل الحركة الوضعية التي يلخصها هذا المذهب، فإن هذا لا يحتم علينا الانتقال إلى الطرف المضاد الآخر والذهاب مع التجريبي إلى حد رفض الميتافيزيقا كلية.
ففي الوقت الذي بدأت فيه التجريبية المنطقية، لأول مرة، توطد مركزها بوصفها حركة فلسفية في العشرينيات من هذا القرن، كان من الممكن استبعادها على أنها بدعة زائلة في مجال الفلسفة، وربما على أنها ناتج عرضي لنزعة الشك وخيبة الأمل التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، أو تعبير عن زهو مبالغ فيه بإنجازات العلم الحديث. غير أن هذا الاستبعاد الفوري لم يعد الآن ممكنا؛ إذ إن الحركة الآن في جيلها الثاني، ولها مكانة هائلة في نفوس المفكرين الشبان في أوروبا وأمريكا معا. ولو قمنا بتعداد للتجريبيين من بين الفلاسفة العاملين الآن، أو الذين توفوا منذ عهد قريب، لوجدنا أنهم يمثلون حوالي ثلث الفلاسفة المعاصرين من ذوي الأهمية، على حين أننا لو توسعنا في التعداد بحيث نرجع به إلى الوراء لكان يشتمل على عمالقة مثل هيوم، ومثل «كانت» (في بعض نواحي تفكيره). وعلى الرغم من أنه كانت هناك في الماضي مدارس تقوم على نزعة الشك وعلى التحليل الدقيق، كانت تبدو هدامة للفلسفات القائمة، فإن وضع التجريبية المنطقية يختلف تماما عن وضع الحركات السابقة التي يمكن مقارنتها بها. فالحركة المعاصرة لها دعائم عقلية أقوى بكثير من الحركات السابقة عليها، وارتباطاتها بالعلم أوثق بكثير. كذلك فإن تطور علم المعاني، والاتجاهات الحديثة في المنطق، والتغيرات في العلوم الرياضية، كل ذلك قد زودها بأدوات تحليلية أدق بكثير مما كان متوافرا من قبل في أي وقت.
والواقع أن من العوامل التي ساعدت على زيادة قوة التجريبية المنطقية، براعتها في تصحيح ذاتها. فقد أتاح لها ذلك تجنب الفخ القاتل الذي تقع فيه كثير من الحركات المتطرفة: وهو الاتجاه إلى التطرف المتزايد؛ أي الزحف مسافات أطول وأطول على رجل صناعية عقلية، إن جاز هذا التعبير - إلى أن يجيء وقت لا يظل فيه يتمسك بالحركة إلا المتعصبون والمتحيزون المتطرفون. أما التجريبية المعاصرة فقد سارت في الاتجاه المضاد، وتخلصت من الانحياز المتطرف والتعصب الذي كان يلازمها في البداية، وعملت باستمرار على توسيع قاعدتها. وقد أتاح لها ذلك أن تزيد من عدد المنتمين إليها، وأن تقوي نفوذها، مما جعل من الضروري على نحو متزايد أن تعمل لها المدارس الأخرى حسابا. وهكذا فإن هذه التجريبية الوضعية المعاصرة، بوصفها اتجاها أكثر منها بناء فكريا متكاملا، تبدو اليوم عضوا جديدا أضيف بصفة دائمة إلى أسرة الفلسفة، يتعين على الأعضاء الآخرين أن يعيشوا معه، راضين كانوا أم كارهين.
هل ينبغي استبعاد الميتافيزيقا؟
وماذا نقول عن البديل الآخر، الذي ينطوي على استبعاد كل تأمل ميتافيزيقي بوصفه شيئا لا معنى له؟ إننا كثيرا ما نجد أناسا يدافعون عن النشاط الميتافيزيقي على أساس أن له تراثا طويلا؛ أي على أساس أنه كان على الدوام جزءا لا يتجزأ من الفكر الفلسفي. ومن ذلك يستدل عادة على أننا إذا ما شئنا تحريم الميتافيزيقا تحريما تاما، فأن الأكثر من ذلك أمانة، من الوجهة العقلية، أن نتخلى عن لفظ «الفلسفة» بأكمله.
غير أن الحجة المرتكزة على التراث لا تلقى في العادة قبولا لدى الأمريكيين، ولا سيما الشبان منهم، الذين يقول أغلبهم - على الأرجح - إنه إذا اتضح أن علما وقورا كالفلسفة، ونشاطا تقليديا موروثا كالتأمل الميتافيزيقي، قد فقدا قيمتهما، فمن الواجب الإلقاء بهما في سلة المهملات. ولكننا حتى لو وافقنا على هذا الاتجاه الأمريكي المألوف، الذي يقول بوجوب استبعاد أي شيء يفقد قيمته (وهو اتجاه لا يعارضه مؤلف هذا الكتاب)، فإن هذا لا يكاد يكون حلا للمشكلة. ففي اعتقادي أن الميتافيزيقي قد وجدت لتبقى، على الرغم من كل ذكاء الهجوم التجريبي، وذلك للسبب الأرسططالي الذي أشرنا إليه مرارا في فصول سابقة، وهو أننا - سواء أردنا ممارسة النشاط الميتافيزيقي أم لم نرد، (وهو تعديل طفيف لصيغة أرسطو الأصلية) - لا مفر لنا جميعا من أن نكون ميتافيزيقيين من نوع ما. إننا قد نتمكن من تجنب بعض التعقيدات والعقد التي وقع فيها التفكير الميتافيزيقي التقليدي، ولكننا لا نستطيع أن نتجنب أن يكون لنا رأي في طبيعة العالم الذي نعيش فيه. وقد نتمكن من تجنب استخدام لفظ «الحقيقة أو الواقع»، (بالمعنى الشامل أو بدونه)، ونرفض إضاعة وقتنا سدى في مناقشة طابعه النظري، ولكنا لا نستطيع أن نتجنب السلوك وكأن هناك أمورا معينة - أي جوانب معينة لعالمنا - هي أكثر حقيقة بالنسبة إلينا (وهي قطعا أكثر دلالة) من غيرها. غير أن هذا يعني اتخاذ موقف ميتافيزيقي ضمني من نوع ما، «سواء شئنا أم لم نشأ». فأكثر التجريبيين المنطقيين اتساقا لم يفلح في إقناع أي شخص، ما عدا زملاءه من التجريبيين على ما يبدو، بأنه ينجح تماما في تجنب اتخاذ وجهة نظر ميتافيزيقية.
حل ممكن : يبدو أن حل هذه المشكلة هو الاعتراف بحتمية النشاط الميتافيزيقي، ولكن مع تضييق نطاق الميتافيزيقا المنهجية، إن جاز هذا التعبير، وهذا أمر يمكن تحقيقه إذا أبينا الاعتراف بأي زعم قد يدعيه أي مفكر ميتافيزيقي مغرور بأنه قادر على إثبات الحقيقة أو تأكيد الوقائع بالمعنى الذي يفعل به العلم ذلك. كذلك ينبغي أن نرفض بشدة أي ادعاء قد تزهو به الميتافيزيقا بشأن يقينية قضاياها. وكذلك أية مطالبة لها بأن نحكم على قضايا بمنطق «أعلى» يتجاوز التجربة، ويختلف عن المنطق الذي نستخدمه في المجالات الأخرى للغة. وبالاختصار، فمن الواجب أن نقنع المفكر الذي تكون اهتماماته جامعة أو تركيبية، لا تحليلية، بأن يعترف بأن لنظرته إلى العالم نفس المركز الإبستمولوجي الذي نعزوه إلى نظرة الشاعر أو الروائي أو الفنان إلى الواقع. فلنا الحق في أن ننظر إلى المذهب الميتافيزيقي على أنه في أساسه عمل فني - هو بالطبع أقرب إلى الطابع العقلي من معظم نواتج الخلق الفني، وهو قطعا أكثر اعتمادا على المنطق والاستدلال الدقيق، ولكنه يظل في أساسه تفسيرا شخصيا لتجربة بشرية لا تقل ذاتية عن تجربة الفنان. وقد تكون لمثل هذا المذهب، شأنه شأن أي عمل فني كبير، دلالة عالمية شاملة، وقد يكون مقنعا إلى أبعد حد. وهكذا ففي وسعنا أن نمجد الميتافيزيقي لقدرته على الاستبصار وقوته الخلاقة، وبراعته من حيث هو مهندس عقلي. ولكننا لسنا مضطرين إلى قبول ما يدعيه لآرائه من حقيقة، على نفس النحو الذي تقبل به ادعاءات العالم (بل يبدو لي أن دراسة التجريبية المنطقية تثبت لنا أننا لا نستطيع قبول ادعاءات الميتافيزيقي هذه).
فهل يؤدي ذلك إلى جعل العبارات الميتافيزيقية عبارات لا معنى لها؟ من الواضح أنه يؤدي إلى ذلك إذا قصرنا فكرة المعنى على ما يمكن تحقيقه تجريبيا. ولكن هذا يؤدي أيضا إلى وضع الميتافيزيقي في صحبة رفاق من مستوى رفيع إلى حد ما، ما دامت كتابات الأدباء الفنانين والمفكرين الدينيين هي كذلك كتابات لا معنى لها. ومع ذلك، فلما كان معظم الناس يظلون على اعتقادهم بأن هذه العبارات غير القابلة للتحقيق لها معنى كامل، فإن التجريبي المنطقي يبدو في مركز ذلك الذي يريد شرب البحر جافا. فهو بلا شك يظل ملتزما حدوده المشروعة عندما يختار تعريف المعنى على أساس التحقيق التجريبي وحده، ولكنه قطعا ينتمي في هذا الصدد إلى الأقلية.
ولنقل أخيرا إننا ينبغي أن نشكر التجريبي المنطقي؛ لأنه زودنا بسلاح فعال نتحرر به من الادعاءات المفرطة التي يزعم بها الميتافيزيقيون واللاهوتيون بلوغ الحقيقة. كذلك أعتقد أننا ينبغي أن نشكر له تذكيره إيانا بأن المعرفة العلمية هي أكثر المعارف التي نستطيع بلوغها وثوقا - بل إنها تكون فئة قائمة بذاتها من حيث الادعاءات المشروعة للمعرفة. ولكن لما كان التأمل الميتافيزيقي هو على ما يبدو صفة دائمة من صفات الطبيعة البشرية، فيبدو أن الأحكم هو الاعتراف بهذا الميل والاحتفاظ به في حدود النظام. عن طريق النقد والتحليل (ولا سيما التحليل اللغوي، الذي يبرع فيه التجريبي المنطقي إلى أبعد حد )، بدلا من أن نحاول استئصال ما لا يمكن استئصاله. وأنا شخصيا لا أرى أن الميتافيزيقا أحق من الشعر والفن بأن تستبعد من مجتمع الناس الطيبين. ولكني أيضا لا أرى ما يدعونا إلى السماح لواضعي المذاهب الميتافيزيقية واللاهوتية بأن يدعوا بأنهم، لما كانوا يتعاملون مع عموميات، ويصدرون عبارات إخبارية تماثل من الناحية اللغوية عبارات العلم، فمن الواجب أن ننسب إليهم، من الوجهة المعرفية، نفس الفضل الذي ننسبه إلى العالم. فالتجريبي قد علمنا كيف نتحرر من هذا الوهم، ومن الروح القطعية التي ترتبت عليه في كثير من الأحيان، وليس هذا بالفضل البين.
نامعلوم صفحہ