الحق أن السكون المخيم على الصحراء يملأ النفوس المستعدة روعة، ويكسبها صفاء، شيء في الصحراء من صنع الإنسان، بل الكل من صنع الله، لا يقع نظر الناظر على شمس تسطع، ونجوم تناغي، وقمر يحدث، ورياح تلعب في جو فسيح مفتوح، الملك يستولي على النفس الصافية حالة لا يفقهها ساكن المدن.
للصحراء موسيقى ذات نغمة واحدة متكررة، موسيقى عابسة قاسية، رهيبة أليمة، فلا عجب أن ترى أهلها قد استولى عليهم نوع من انقباض النفس أو الكآبة أو الوجد، أو ما شئت فسمه، ولا عجب أيضا أن يتغنى شعراؤها بنوع واحد من القول ونغمة واحدة؛ لأن الصحراء توقع على نفوسهم صوتا واحدا، فيشعرون - كما تلقوا - شعرا واحدا.
هم نتيجة إقليم طليق؛ لا يصد هواءه بناء، ولا يحجب شمسه غيم، ويحبس أمطاره وسيوه سد، كل شيء فيه حر على الفطرة، فهم كذلك أحرار كإقليمهم، لم يحبسهم زرع يتعهدونه، ولا صناعة يعكفون عليها، كذلك تحررت نفوسهم من قيود حكومة ونظام، اللهم إلا شيئين قيدا عقولهم ونفوسهم: قيد دينهم الوثني وما يتطلبه من شعائر وتكاليف، وقيد تقاليد القبيلة وما يستلزمه من واجبات شاقة، وقد كانوا لتقاليد قبيلتهم أشد إخلاصا وأقوى إيمانا. •••
هذا النوع من البيئة حدد نوع معيشتهم، فهم رحل، يتطلبون الكلأ، وهم فقراء ثروتهم في كثرة ماشيتهم، وهذه الثروة تحت رحمة الطبيعة، فقد تنفق الماشية، وينضب ماء الآبار، ويقل المطر فيقل المرعى، ويسوء العيش، وبحق سموا المطر غيثا؛ وهذا النوع من البيئة أيضا حدد نوع أخلاقهم وعقليتهم؛ أليس البؤس هو الذي جعل الكرم وإطعام الطعام، وإيقاد النيران يهتدي بها الضيفان في مقدمة الفضائل؟! أوليس هذا الفقر هو الذي حبب إليهم الإغارة فأشادوا بذكر حمى القبيلة، وعيروا من قصر في الدفاع عنها، واسترخصوا النفوس في سبيل حمايتها؟! وإذا كانت الحياة بين إغارة ودفع مغير، والسبل كلها غير آمنة، ولا حكومة تقتص من جان أو تحمي طريقا؛ أفليسوا إذا في حاجة لأن يعدوا الشجاعة والوفاء والعفو من كبريات الفضائل؟ وهكذا قل في عقليتهم، فالعدل والظلم والخير والشر وما يذم وما يمدح، كله تابع لما تواضعوا عليه، وما تواضعوا عليه تابع لنوع معيشتهم.
وأنت إذا نظرت إلى اللغة العربية، والأدب العربي في ذلك العهد رأيته نتيجة طبيعية لتلك الحياة، وصورة صادقة لهذه البيئة، فألفاظ اللغة - مثلا - في منتهى السعة والدقة، إذا كان الشيء الموضوع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وهي قليلة غير دقيقة فيما ليس كذلك، فالإبل هي عماد الحياة البدوية، هي خير مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومركبهم، فحياة العرب في الصحراء تكاد تكون مستحيلة لولا فضل الجمل، من أجل هذا ملئت اللغة العربية بالإبل، فلم يترك العرب صغيرة ولا كبيرة - مما يتعلق بها - إلا وضعوا لها اللفظ أو الألفاظ؛ فوضعوا الألفاظ لها، ولحملها ونتاجها، ووضعوا الأسماء لأسنانها (أعمارها) وحلبها، ورضاعها وفطامها، ونعوتها في طولها وقصرها، وسمنها وهزالها، وأصواتها وأوبارها، وعلفها واجترارها، ورعيها وبروكها، وأبوالها وحركة أذنابها، وأنواع سيرها ورياضتها، والرحال وما فيها، وكل ما يشد عليها، وقيودها ونزع قيودها، وسماتها وعيوبها، وجربها وأمراضها، وأدوائها ... إلخ، ولم يقتصروا على اللفظ الواحد للمسمى الواحد، بل وضعوا له الأسماء المتعددة، فإذا أنت انتقلت من الجمل إلى السفينة رأيت اللغة العربية في غاية القصور، فهم لم يوفوها حقها كما وفوا حق الجمل، ولم يصفوا كل أجزائها، ولم يضعوا أسماء لكل نوع من أنواعها، نعم هناك ألفاظ تتعلق بذلك، ولكنها لا تكاد تذكر - إذا قيست بالألفاظ الموضوعة للإبل وشئونها - بل إنك إذا فحصت الألفاظ المستعملة في السفن ومتعلقاتها وجدت كثيرا منها معربا غير عربي، كالسيابجة واليماسرة والأنجر، وكثير منها لا نشك في أنه وضع بعد العصر الجاهلي.
هذا مثل واضح، وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، فالأرض الصحراوية بما فيها من رمال ونجود ووهاد، وما فيها من كلأ وأعشاب وحشرات وهوام، كل ذلك وصفه العرب، ووضعوا له الأسامي المختلفة؛ فالأرض الصلبة والغليظة والمستوية، والواسعة والمطمئنة، والمجدبة والمخصبة، والهضاب والوديان، قد شرح كل نوع منها ووضع له اسم وأسماء، أما البحار وما حوته من أنواع الأسماك والأصداف والأمواج، ومختلف المياه، فليست اللغة غنية فيها، إلى كثير من الأمثلة، وحسبك دليلا على هذا أنك إذا نظرت في كتاب كالمخصص لابن سيده - وميزته أنه يجمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد - أمكنك أن تقارن هذه المقارنة بوضوح، فقد استغرق فيه الكلام على الإبل وما يتعلق بها 176 صفحة كبيرة عدا ما ذكر متفرقا في مواضع أخرى منه، على حين أن السفينة استغرقت منه أقل من سبع صفحات، وبعبارة أخرى: إن الكلام على الإبل أخذ نحو جزء من أجزاء الكتاب السبعة عشر، فأنت إذا قلت: إن ما ورد في كلام العرب مما يتعلق بالإبل جزء من سبعة عشر جزءا من مجموع اللغة العربية، لم تكن بعيدا عن الحقيقة، وهي نسبة جد كثيرة، ولكنه الجمل عماد الحياة العربية البدوية.
هذا في المحسات، وإنك تجد مثله في المعنويات فكلمات السرور واللهو واللعب والمزاح، أقل من كلمات البؤس والقتال والحزن والويل، ألم ترهم تفننوا في الداهية، فصاروا يخترعون لها من الأسماء ما أتعب اللغويين؟! حتى جمع حمزة من أسمائها ما يزيد على أربع مئة، وحتى قالوا: إن كثرة أسماء الدواهي من الدواهي! ذلك لأن طبيعة البيئة تستدعي ذلك، فهي بيئة شقاء وفقر، لا بيئة رخاء ونعيم.
وإن أنت نظرت إلى الأدب العربي في الجاهلية رأيت هذا بعينه، فكم استغرق الجمل والناقة من الشعر وخيال الشاعر! وكم استغرق وصف الأرض سهلها وحزنها! وكذلك إنما كان يمدح الشعراء ممدوحهم؛ ويرثون ميتهم بالأخلاق الفاشية لعهدهم، من كرم وشجاعة؛ وكان للبطولة ووصف عاطفة الحماسة، والتمدح بشن الغارة ورد العدو، المنزلة العالية، وكذلك قل في تشابيههم وأمثالهم، فكلها منتزعة من نوع معيشتهم وصورة صادقة لحياتهم. •••
ومظاهر الحياة العقلية في الجاهلية هي اللغة والشعر والأمثال والقصص، وهي - فقط - مظاهر عقلهم ، أما العلم والفلسفة فلا أثر لهما عندهم؛ لأن الطور الاجتماعي الذي أبناه لا يسمح لهم بعلم ولا فلسفة، نعم كان عندهم معرفة بالأنساب، ومعرفة بالأنواء والسماء، ومعرفة بشيء من الأخبار، ومعرفة بشيء من الطب، ولكن من الخطأ البين أن تسمى هذه الأشياء علما كما يفعل الألوسي وغيره فيقول: ومن علومهم علم الطب، وعلم الأنواء، وعلم السماء، ثم يشيدون بذكر ذلك حتى يوهموك أنه كان عندهم علم منظم بأصول وقواعد؛ فإن ما كان عندهم من هذا القبيل لا يتعدى معلومات أولية، وملاحظات بسيطة، لا يصح أن تسمى علما ولا شبه علم، أما القواعد والبحث المنظم الذي يسمى علما؛ فلا عهد للعرب الجاهليين به، وأصدق تعبير عن ذلك ما قاله ابن خلدون في مقدمته - عند كلامه على علم الطب - قال:
وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثة عن مشايخ الحي وعجائزه وربما يصح منه البعض؛ إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج، وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره
نامعلوم صفحہ